الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَعَ مَالِهِ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ إنَّمَا يَحْفَظُهَا لِصَاحِبِهَا مُتَبَرِّعًا، مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ فَلَوْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُولِ الْوَدَائِعِ، وَذَلِكَ مُضِرٌّ؛ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْرِيطِ مِنْ أَنَسٍ فِي حِفْظِهَا، فَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ.
فَأَمَّا إنْ تَعَدَّى الْمُسْتَوْدَعُ فِيهَا، أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، فَتَلِفَتْ، ضَمِنَ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِمَالِ غَيْرِهِ، فَضَمِنَهُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيدَاعٍ.
[فَصْلٌ شَرَطَ رَبُّ الْوَدِيعَة عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ ضَمَانَ الْوَدِيعَة فَقَبِلَهُ]
(5041)
فَصْلٌ: إذَا شَرَطَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ ضَمَانَ الْوَدِيعَةِ، فَقَبِلَهُ أَوْ قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لَهَا. لَمْ يَضْمَنْ. قَالَ أَحْمَدُ فِي الْمُودَعِ: إذَا قَالَ: أَنَا ضَامِنٌ لَهَا. فَسُرِقَتْ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَصْلُهُ الْأَمَانَةُ، كَالْمُضَارَبَةِ، وَمَالِ الشَّرِكَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالْوَكَالَةِ. وَبِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ شَرْطُ ضَمَانِ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ ضَمَانَ مَا يَتْلَفُ فِي يَدِ مَالِكِهِ.
[مَسْأَلَةٌ خَلَطَ الْوَدِيعَة بِمَالِهِ وَهِيَ لَا تَتَمَيَّز أَوْ لَمْ يَحْفَظْهَا كَمَا يَحْفَظُ مَالَهُ]
(5042)
مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (فَإِنْ خَلَطَهَا بِمَالِهِ، وَهِيَ لَا تَتَمَيَّزُ، أَوْ لَمْ يَحْفَظْهَا كَمَا يَحْفَظُ مَالَهُ، أَوْ أَوْدَعَهَا غَيْرَهُ، فَهُوَ ضَامِنٌ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ؛ (5043) الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى، أَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ إذَا خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَا لَا تَتَمَيَّزُ مِنْهُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مَالِ غَيْرِهِ، ضَمِنَهَا سَوَاءٌ خَلَطَهَا بِمِثْلِهَا، أَوْ دُونَهَا، أَوْ أَجْوَدَ مِنْ جِنْسِهَا أَوْ غَيْرِ جِنْسِهَا، مِثْلُ أَنْ يَخْلِطَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ، أَوْ دُهْنًا بِدُهْنٍ، كَالزَّيْتِ بِالزَّيْتِ، أَوْ السَّمْنِ أَوْ بِغَيْرِهِ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إنْ خَلَطَ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ عَلَى وَجْهِ الْحِرْزِ، لَمْ يَضْمَنْ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ، لَا يَضْمَنُ إلَّا أَنْ يَكُونَ دُونَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّهَا إلَّا نَاقِصَةً. وَلَنَا، أَنَّهُ خَلَطَهَا بِمَالِهِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ، فَوَجَبَ أَنْ يَضْمَنَهَا، كَمَا لَوْ خَلَطَهَا بِدُونِهَا، وَلِأَنَّهُ إذَا خَلَطَهَا بِمَا لَا يَتَمَيَّزُ، فَقَدْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ إمْكَانَ رَدِّهَا، فَلَزِمَهُ ضَمَانُهَا، كَمَا لَوْ أَلْقَاهَا فِي لُجَّةِ بَحْرٍ. وَإِنْ أَمَرَهُ صَاحِبُهَا بِخَلْطِهَا بِمَالِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، فَكَانَ نَائِبًا عَنْ الْمَالِكِ فِيهِ.
وَقَدْ نَقَلَ مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ، فِي رَجُلٍ اسْتَوْدَعَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، وَاسْتَوْدَعَهُ آخَرُ عَشْرَةً، وَأَمَرَاهُ أَنْ يَخْلِطَهَا، فَخَلَطَهَا، فَضَاعَتْ الدَّرَاهِمُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. فَإِنْ أَمَرَهُ أَحَدُهُمَا بِخَلْطِ دَرَاهِمِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ الْآخَرُ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ دَرَاهِمَ مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ دُونَ الْأُخْرَى. وَإِنْ اخْتَلَطَتْ هِيَ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ تَلِفَتْ بِذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ، فَخَلْطُهَا أَوْلَى. وَإِنْ خَلَطَهَا غَيْرُهُ، فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ خَلَطَهَا؛ لِأَنَّ الْعُدْوَانَ مِنْهُ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهَا.
(5044)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ، إذَا لَمْ يَحْفَظْهَا كَمَا يَحْفَظُ مَالَهُ، وَهُوَ أَنْ يُحْرِزَهَا بِحِرْزِ مِثْلِهَا، فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا. وَحِرْزُ مِثْلهَا يُذْكَرُ فِي بَابِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ. وَهَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ الْمُودِعُ مَا يَحْفَظُهَا فِيهِ، فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ لَزِمَهُ حِفْظُهَا فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ حِرْزَ مِثْلِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ وَإِنْ أَحْرَزَهَا بِمِثْلِهِ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ لَمْ يَضْمَنْهَا وَيَتَخَرَّجُ أَنْ يَضْمَنَهَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ (5045) الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ، إذَا أَوْدَعْهَا غَيْرَهُ. وَلَهَا صُورَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنْ يُودِعَهَا غَيْرَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ.
بِغَيْرِ خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ حِفْظَهَا وَإِحْرَازَهَا، وَقَدْ أَحْرَزَهَا عِنْدَ غَيْرِهِ وَحَفِظَهَا بِهِ، وَلِأَنَّهُ يَحْفَظُ مَالَهُ بِإِيدَاعِهِ، فَإِذَا أَوْدَعَهَا فَقَدْ حَفِظَهَا بِمَا يَحْفَظُ بِهِ مَالَهُ، فَلَمْ يَضْمَنْهَا، كَمَا لَوْ حَفِظَهَا فِي حِرْزِهِ. وَلَنَا، أَنَّهُ خَالَفَ الْمُودِعَ فَضَمِنَهَا. كَمَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ إيدَاعِهَا. وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِحِفْظِهَا بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَرْضَ لَهَا غَيْرَهُ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ لَهُ تَضْمِينَ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ لِلْأَوَّلِ الرُّجُوعُ عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ مَعَهُ فِي الْعَقْدِ عَلَى أَنَّهُ أَمِينٌ لَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ أَحَبَّ الْمَالِكُ تَضْمِينَ الثَّانِي، فَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ تَضْمِينُهُ، فِي ظَاهِرِ كَلَامِ أَحْمَدَ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الضَّمَانَ عَلَى الْأَوَّلِ فَقَطْ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ قَبْضًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ، فَلَمْ يُوجِبْ ضَمَانًا آخَرَ، وَفَارَقَ الْقَبْضَ مِنْ الْغَاصِبِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ، إنَّمَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ بِالْغَصْبِ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ لَهُ تَضْمِينَ الثَّانِي أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْضُهُ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ مَالِكُهُ، فَضَمِنَهُ، كَالْقَابِضِ مِنْ الْغَاصِبِ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ
وَذِكْرُ أَحْمَدَ الضَّمَانَ عَلَى الْأَوَّلِ لَا يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْ الثَّانِي، كَمَا أَنَّ الضَّمَانَ يَلْزَمُ الْغَاصِبَ، وَلَا يَنْفِي وُجُوبَهُ عَلَى الْقَابِضِ مِنْهُ. فَعَلَى هَذَا يَسْتَقِرُّ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِنْ ضَمَّنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْأَوَّلِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ، وَمَا ذَكَرْنَا لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا أَصْلَ لَهُ، ثُمَّ هُوَ مُنْتَقِضٌ بِمَا إذَا دَفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى إنْسَانٍ عَارِيَّةً، أَوْ هِبَةً، أَوْ وَدِيعَةً لِنَفْسِهِ، فَأَمَّا إنْ دَفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى مَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِحِفْظِهَا لَهُ مِنْ أَهْلِهِ، كَامْرَأَتِهِ وَغُلَامِهِ، لَمْ يَضْمَنْ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ.