الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك حَقَّك» .
وَالْمُرَادُ بِالصَّدَقَةِ هَا هُنَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، دُونَ غَيْرِهَا مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَالْوَصَايَا. وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، أَنَّهُمَا قَالَا: مَا أَعْطَيْت فِي الْجُسُورِ وَالطُّرُقِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مَاضِيَةٌ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60] . وَ " إنَّمَا " لِلْحَصْرِ تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ، وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ؛ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ حَرْفَيْ نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، فَجَرَى مَجْرَى قَوْله تَعَالَى:{إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] .
أَيْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] . أَيْ مَا أَنْتَ إلَّا نَذِيرٌ. وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ".
[مَسْأَلَةٌ الْفُقَرَاءُ وَهُمْ الزَّمْنَى وَالْمَكَافِيفُ الَّذِينَ لَا حِرْفَةَ لَهُمْ]
(5097)
مَسْأَلَةٌ؛ قَالَ: (الْفُقَرَاءُ، وَهُمْ الزَّمْنَى، وَالْمَكَافِيفُ الَّذِينَ لَا حِرْفَةَ لَهُمْ، وَالْحِرْفَةُ الصِّنَاعَةُ، وَلَا يَمْلِكُونَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَلَا قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ. وَالْمَسَاكِينُ، وَهُمْ السُّؤَّالُ، وَغَيْرُ السُّؤَّالِ، وَمَنْ لَهُمْ الْحِرْفَةُ، إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَلَا قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ) الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ صِنْفَانِ فِي الزَّكَاةِ، وَصِنْفٌ وَاحِدٌ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ؛
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الِاسْمَيْنِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمَا، فَأَمَّا إذَا جُمِعَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ، وَمُيِّزَ بَيْنَ الْمُسَمَّيَيْنِ تَمَيَّزَا، وَكِلَاهُمَا يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَعَدَمِ الْغِنَى، إلَّا أَنَّ الْفَقِيرَ أَشَدُّ حَاجَةً مِنْ الْمِسْكِينِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَالْأَصْمَعِيُّ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَشَدُّ حَاجَةً. وَبِهِ قَالَ الْفَرَّاءُ، وَثَعْلَبٌ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] . وَهُوَ الْمَطْرُوحُ عَلَى التُّرَابِ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ، وَأَنْشَدُوا:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ
…
وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْفَقِيرَ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ عِيَالِهِ.
وَلَنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْفُقَرَاءِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَهَمُّ، وَقَالَ تَعَالَى:{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] . فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمَسَاكِينَ لَهُمْ سَفِينَةٌ يَعْمَلُونَ بِهَا. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ. وَكَانَ يَسْتَعِيذُ مِنْ الْفَقْرِ»
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى شِدَّةَ الْحَاجَةِ، وَيَسْتَعِيذَ مِنْ حَالَةٍ أَصْلَحَ مِنْهَا. وَلِأَنَّ الْفَقْرَ مُشْتَقٌّ مِنْ فَقْرِ الظَّهْرِ، فَعِيلَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَفْقُودٌ، وَهُوَ الَّذِي نُزِعَتْ فِقْرَةُ ظَهْرِهِ، فَانْقَطَعَ صُلْبُهُ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
لَمَّا رَأَى لُبَدُ النُّسُورِ تَطَايَرَتْ
…
رَفَعَ الْقَوَادِمَ كَالْفَقِيرِ الْأَعْزَلِ
أَيْ لَمْ يُطِقْ الطَّيَرَانَ، كَاَلَّذِي انْقَطَعَ صُلْبُهُ. وَالْمِسْكِينُ مِفْعِيلٌ مِنْ السُّكُونِ، وَهُوَ الَّذِي أَسْكَنَتْهُ الْحَاجَةُ، وَمَنْ كُسِرَ صُلْبُهُ أَشَدُّ حَالًا مِنْ السَّاكِنِ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّ نَعْتَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمِسْكِينِ بِكَوْنِهِ ذَا مَتْرَبَةٍ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّعْتَ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَسْكَنَةِ، كَمَا يُقَالُ: ثَوْبٌ ذُو عَلَمِ. وَيَجُوزُ التَّعْبِيرُ بِالْمِسْكِينِ عَنْ الْفَقِيرِ، بِقَرِينَةٍ وَبِغَيْرِ قَرِينَةٍ، وَالشِّعْرُ أَيْضًا حُجَّةٌ لَنَا، فَإِنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ، لَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبْدٌ، فَصَارَ فَقِيرًا لَا شَيْءَ لَهُ.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَالْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى كَسْبِ مَا يَقَعْ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، وَلَا لَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ أَوْ مِنْ الْمَالِ الدَّائِمِ مَا يَقَعُ مُوقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، وَلَا لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، وَلَا قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ، مِثْلُ الزَّمْنَى وَالْمَكَافِيفِ وَهُمْ الْعُمْيَانُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِكَفِّ أَبْصَارِهِمْ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ فِي الْغَالِبِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى اكْتِسَابِ مَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِمْ، وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ أَصْلًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] . وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِمْ
أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ مُعْظَمُ الْكِفَايَةِ، أَوْ نِصْفُ الْكِفَايَةِ مِثْلُ مَنْ يَكْفِيهِ عَشْرَةٌ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ مَكْسَبِهِ أَوْ غَيْرِهِ خَمْسَةٌ فَمَا زَادَ، وَاَلَّذِي لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا مَا لَا يَقَعُ مَوْقِعًا مِنْ كِفَايَتِهِ، كَاَلَّذِي لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا ثَلَاثَةٌ أَوْ دُونَهَا، فَهَذَا هُوَ الْفَقِيرُ، وَالْأُوَلُ هُوَ الْمِسْكِينُ، فَيُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُتِمُّ بِهِ كِفَايَتَهُ، وَتَنْسَدُّ بِهِ حَاجَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُهَا وَإِغْنَاءُ صَاحِبِهَا، وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ. وَاَلَّذِي يَسْأَلُ، وَيُحَصِّلُ الْكِفَايَةَ أَوْ مُعْظَمَهَا مِنْ مَسْأَلَتِهِ، فَهُوَ مِنْ الْمَسَاكِينِ، لَكِنَّهُ يُعْطَى جَمِيعَ كِفَايَتِهِ، وَيُغْنَى عَنْ السُّؤَالِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ» .
قُلْنَا، هَذَا تَجَوُّزٌ، وَإِنَّمَا نَفْيُ الْمَسْكَنَةِ عَنْهُ مَعَ وُجُودِهَا فِيهِ حَقِيقَةً، مُبَالَغَةٌ فِي إثْبَاتِهَا فِي الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ، كَمَا قَالَ عليه السلام:«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، وَإِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَغْلِبُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» . وَقَالَ: «مَا تَعُدُّونَ الرَّقُوبَ فِيكُمْ؟ .