الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَإِنْ خَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً، أَخَذَهَا صَاحِبُهَا، وَلَمْ يَرْجِعْ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِبَدَلِهَا. فَإِنْ شَرَطَ فِي الْهِبَةِ ثَوَابًا مَعْلُومًا، صَحَّ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعِوَضِ مَعْلُومٍ، فَهُوَ كَالْبَيْعِ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْبَيْعِ، فِي ضَمَانِ الدَّرْكِ، وَثُبُوتِ الْخِيَارِ وَالشُّفْعَةِ
وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ، أَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ فِي الْهِبَةِ مَا يُنَافِي مُقْتَضَاهَا. وَلَنَا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعِوَضٍ، فَصَحَّ مَا لَوْ قَالَ: مَلَّكْتُك هَذَا بِدِرْهَمٍ. فَإِنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ التَّمْلِيكَ كَانَ هِبَةً، وَإِذَا ذَكَرَ الْعِوَضَ صَارَ بَيْعًا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَقْتَضِي أَنْ يُغَلَّبَ فِي هَذَا حُكْمُ الْهِبَةِ، فَلَا تَثْبُتُ فِيهَا أَحْكَامُ الْبَيْعِ الْمُخْتَصَّةُ بِهِ
فَأَمَّا إنْ شَرَطَ ثَوَابًا مَجْهُولًا، لَمْ يَصِحَّ، وَفَسَدَتْ الْهِبَةُ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ، يَرُدُّهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بِزِيَادَتِهَا الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِ الْوَاهِبِ. وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً، رَدَّ قِيمَتَهَا. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ، رحمه الله، أَنَّهَا تَصِحُّ، فَإِذَا أَعْطَاهُ عَنْهَا عِوَضًا رَضِيَهُ، لَزِمَ الْعَقْدُ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إذَا قَالَ الْوَاهِبُ: هَذَا لَك عَلَى أَنْ تُثِيبَنِي. فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إذَا لَمْ يُثِبْهُ، لِأَنَّهُ شَرْطٌ
وَقَالَ فِي رِوَايَةِ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَعِيدٍ: إذَا وَهَبَ لَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِثَابَةِ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُثِيبَهُ عَنْهَا، فَعَلَى هَذَا عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ حَتَّى يُرْضِيَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَدْرَ قِيمَتِهَا. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ التَّرَاضِي، إلَّا أَنَّهُ بَيْعٌ بِالْمُعَاطَاةِ، فَإِذَا عَوَّضَهُ عِوَضًا رَضِيَهُ، حَصَلَ الْبَيْعُ بِمَا حَصَلَ مِنْ الْمُعَاطَاةِ مَعَ التَّرَاضِي بِهَا، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ التَّرَاضِي، لَمْ تَصِحَّ؛ لِعَدَمِ الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَلَا الْمُعَاطَاةُ مَعَ التَّرَاضِي
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه: مَنْ وَهَبَ هِبَةً أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ، فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ، يَرْجِعُ فِيهَا إذَا لَمْ يَرْضَ مِنْهَا. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَفُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وَمَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَرَى أَنَّ الْهِبَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي ثَوَابًا. وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، «أَنَّ أَعْرَابِيًّا وَهَبَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةً، فَأَعْطَاهُ ثَلَاثًا فَأَبَى، فَزَادَهُ ثَلَاثًا، فَأَبَى، فَزَادَهُ ثَلَاثًا، فَلَمَّا كَمُلَتْ تِسْعًا، قَالَ: رَضِيت: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ هَمَمْت أَنْ لَا أَتَّهِبَ إلَّا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ» . مِنْ " الْمُسْنَدِ "
قَالَ أَحْمَدُ: إذَا تَغَيَّرَتْ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، وَلَمْ يُثِبْهُ مِنْهَا، فَلَا أَرَى عَلَيْهِ نُقْصَانَ مَا نَقَصَ عِنْدَهُ إذَا رَدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا لَبِسَهُ، أَوْ غُلَامًا اسْتَعْمَلَهُ، أَوْ جَارِيَةً اسْتَخْدَمَهَا، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ إذَا نَقَصَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، فَكَانَ عِنْدِي مِثْلَ الرَّهْنِ، الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ لِصَاحِبِهِ.
[مَسْأَلَة قَالَ دَارِي لَك عُمُرِي أَوْ هِيَ لَك عُمُرَك]
(4485)
مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا قَالَ: دَارِي لَك عُمُرِي. أَوْ هِيَ لَك عُمُرَك. فَهِيَ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ)
الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى: نَوْعَانِ مِنْ الْهِبَةِ، يَفْتَقِرَانِ إلَى مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ سَائِرُ الْهِبَاتِ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ عِنْدَ مِنْ اعْتَبَرَهُ. وَصُورَةُ الْعُمْرَى أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: أَعْمَرْتُك دَارِي هَذِهِ، أَوْ هِيَ لَك عُمُرِي، أَوْ مَا عَاشَتْ، أَوْ مُدَّةَ حَيَاتِك، أَوْ مَا حَيِيت، أَوْ نَحْوَ هَذَا. سُمِّيَتْ عُمْرَى لِتَقْيِيدِهَا بِالْعُمُرِ.
وَالرُّقْبَى أَنْ يَقُولَ: أَرْقَبْتُك هَذِهِ الدَّارَ، أَوْ هِيَ لَك حَيَاتَك، عَلَى أَنَّك إنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَتْ إلَيَّ، وَإِنْ مِتُّ قَبْلَك فَهِيَ لَك وَلِعَقِبِك. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هِيَ لِآخِرِنَا مَوْتًا. وَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ رُقْبَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ. وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَا تَعْمُرُوا وَلَا تَرْقُبُوا» . وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِأَهْلِهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
فَأَمَّا النَّهْيُ، فَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْلَامِ لَهُمْ إنَّكُمْ إنْ أَعَمَرْتُمْ أَوْ أَرْقَبْتُمْ يَعُدْ لِلْمُعْمِرِ وَالْمُرْقِبِ، وَلَمْ يَعُدْ إلَيْكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ:«فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى، فَهِيَ لِمَنْ أَعْمَرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا وَعَقِبِهِ» . وَلَوْ أُرِيدَ بِهِ حَقِيقَةُ النَّهْيِ، لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّتَهَا؛ فَإِنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَمْنَعُ صِحَّةَ مَا يُفِيدُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ فَائِدَةً، أَمَّا إذَا كَانَ صِحَّةُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ضَرَرًا عَلَى مُرْتَكِبَهُ، لَمْ يَمْنَعْ صِحَّتَهُ، كَالطَّلَاقِ فِي زَمَنِ الْحَيْضِ.
وَصِحَّةُ الْعُمْرَى ضَرَرٌ عَلَى الْمُعْمِرِ، فَإِنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ بِغَيْرِ عِوَضٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْعُمْرَى تَنْقُلُ الْمِلْكَ إلَى الْمُعْمَرِ. وَبِهَذَا قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَطَاوُسٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ:
الْعُمْرَى تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ، لَا تُمْلَكُ بِهَا رَقَبَةُ الْمُعْمَرِ بِحَالٍ، وَيَكُونُ لِلْمُعْمَرِ السُّكْنَى، فَإِذَا مَاتَ عَادَتْ إلَى الْمُعْمِرِ. وَإِنْ قَالَ: لَهُ وَلِعَقِبِهِ. كَانَ سُكْنَاهَا لَهُمْ، فَإِذَا انْقَرَضُوا عَادَتْ إلَى الْمُعْمِرِ. وَاحْتَجَّا بِمَا رَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ: سَمِعْت مَكْحُولًا يَسْأَلُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ الْعُمْرَى، مَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهَا؟ فَقَالَ الْقَاسِمُ: مَا أَدْرَكْت النَّاسَ إلَّا عَلَى شُرُوطِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَمَا أَعْطَوْا. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ، عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: لَمْ يَخْتَلِفْ الْعَرَبُ فِي الْعُمْرَى، وَالرُّقْبَى، وَالْإِفْقَارِ، وَالْإِخْبَالِ، وَالْمِنْحَةِ، وَالْعَرِيَّةِ.
وَالْعَارِيَّةِ، وَالسُّكْنَى، وَالْإِطْرَاقِ، أَنَّهَا عَلَى
مِلْكِ أَرْبَابِهَا، وَمَنَافِعُهَا لِمَنْ جُعِلَتْ لَهُ. وَلِأَنَّ التَّمْلِيكَ لَا يَتَأَقَّت، كَمَا لَوْ بَاعَهُ إلَى مُدَّةٍ، فَإِذَا كَانَ لَا يَتَأَقَّت، حُمِلَ قَوْلُهُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ تَوْقِيتُهُ. وَلَنَا مَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى، فَهِيَ لِلَّذِي أَعْمَرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي لَفْظٍ: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا رُقْبَى، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا، فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ» . وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْعُمْرَى لِلْوَارِثِ» . وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ حَدِيثَ الْعُمْرَى، فِي " مُوَطَّئِهِ "، وَهُوَ صَحِيحٌ رَوَاهُ جَابِرٌ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ. وَقَوْلُ الْقَاسِمِ لَا يُقْبَلُ فِي مُخَالَفَةِ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ فِي مُخَالَفَةِ قَوْلِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُدَّعَى إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لِكَثْرَةِ مَنْ قَالَ بِهَا مِنْهُمْ، وَقَضَى بِهَا طَارِقٌ بِالْمَدِينَةِ بِأَمْرِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ.
وَقَوْلُ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ: إنَّهَا عِنْدَ الْعَرَبِ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ. لَا يَضُرُّ إذَا نَقَلَهَا الشَّرْعُ إلَى تَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ، كَمَا نَقَلَ الصَّلَاةَ مِنْ الدُّعَاءِ إلَى الْأَفْعَالِ الْمَنْظُومَةِ، وَنَقَلَ الظِّهَارَ وَالْإِيلَاءَ مِنْ الطَّلَاقِ إلَى أَحْكَامٍ مَخْصُوصَةِ. قَوْلُهُمْ: إنَّ التَّمْلِيكَ لَا يَتَأَقَّتُ. قُلْنَا: فَلِذَلِكَ أَبْطَلَ الشَّرْعُ تَأْقِيتَهَا، وَجَعَلَهَا تَمْلِيكًا مُطْلَقًا.
(4486)
فَصْلٌ: إذَا شَرَطَ فِي الْعُمْرَى أَنَّهَا لِلْمُعْمَرِ وَعَقِبِهِ، فَهَذَا تَأْكِيدٌ لِحُكْمِهَا، وَتَكُونُ لِلْمُعْمَرِ وَوَرَثَتِهِ. وَهَذَا قَوْلُ جَمِيعِ الْقَائِلِينَ بِهَا
وَإِذَا أَطْلَقَهَا فَهِيَ لِلْمُعْمَرِ وَوَرَثَتِهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ لِلرَّقَبَةِ، فَأَشْبَهَتْ الْهِبَةَ. فَإِنْ شَرَطَ أَنَّك إذَا مِتَّ فَهِيَ لِي. فَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، صِحَّةُ الْعَقْدِ وَالشَّرْطِ، وَمَتَى مَاتَ الْمُعْمَرُ رَجَعَتْ إلَى الْمُعْمِرِ. وَبِهِ قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَزَيْدُ بْنُ قُسَيْطٍ، وَالزُّهْرِيُّ، وَمَالِكٌ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُد
وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، قَالَ: إنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَك وَلِعَقِبِك. فَأَمَّا إذَا قَالَ: هِيَ لَك مَا عِشْت. فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى صَاحِبِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَرَوَى مَالِكٌ، فِي " مُوَطَّئِهِ "، عَنْ جَابِرٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى لَهُ، وَلِعَقِبِهِ، فَإِنَّهَا لِلَّذِي أُعْطِيَهَا، لَا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا» . لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: مَا أَدْرَكْت النَّاسَ إلَّا عَلَى شُرُوطِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّهَا تَكُونُ لِلْمُعْمَرِ وَلِوَرَثَتِهِ، وَيَسْقُطُ الشَّرْطُ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ الْجَدِيدُ، وَقَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ. وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالِبٍ؛ لِلْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَا رُقْبَى، فَمَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا، فَهُوَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الرُّقْبَى أَنْ يَقُولَ هِيَ لِلْآخِرِ مِنِّي وَمِنْك مَوْتًا. وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:«لَا عُمْرَى، وَلَا رُقْبَى، فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا، أَوْ أُرْقِبَهُ، فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَوْتَهُ»
وَهَذَا صَرِيحٌ فِي إبْطَالِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الرُّقْبَى يُشْتَرَطُ فِيهَا عَوْدُهَا إلَى الْمُرْقِبِ إنْ مَاتَ الْآخَرُ قَبْلَهُ. وَأَمَّا حَدِيثُهُمْ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، فَمِنْ قَوْلِ جَابِرٍ نَفْسِهِ، وَأَمَّا نَقْلُ لَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَلَا تُفْسِدُوهَا، فَإِنَّهُ مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَهَا حَيًّا وَمَيِّتًا، وَلِعَقِبِهِ» . وَلِأَنَّا لَوْ أَجَزْنَا هَذَا الشَّرْطَ، كَانَتْ هِبَةً مُؤَقَّتَةً، وَالْهِبَةُ لَا يَجُوزُ فِيهَا التَّأْقِيتُ، وَلَمْ يُفْسِدْهَا الشَّرْطُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى الْمُعْمَرِ، وَإِنَّمَا شَرْطُ ذَلِكَ عَلَى وَرَثَتِهِ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ مَعَ الْمَعْقُودِ مَعَهُ، لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: إنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ. فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ كَلَامِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، كَذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وَفَصَّلَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فَقَالَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّهُ قَضَى فِي مَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ، فَهِيَ لَهُ بَتْلَةً، لَا يَجُوزُ لِلْمُعْطِي فِيهَا شَرْطٌ وَلَا مَثْنَوِيَّةٌ. قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ.
(4487)
فَصْلٌ: وَالرُّقْبَى هِيَ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَك عُمُرَك، فَإِنْ مِتَّ قَبْلِي رَجَعَ إلَيَّ، وَإِنْ مِتَّ قَبْلَك فَهُوَ لَك
وَمَعْنَاهُ هِيَ لِآخِرِنَا مَوْتًا. وَكَذَلِكَ فَسَّرَهَا مُجَاهِدٌ. سُمِّيَتْ رُقْبَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَك حَيَاتَك، فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ لِفُلَانٍ، أَوْ هِيَ رَاجِعَةٌ إلَيَّ. وَالْحُكْمُ فِيهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَأَنَّهَا كَالْعُمْرَى إذَا شَرَطَ عَوْدَهَا إلَى الْمُعْمَرِ. وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى سَوَاءٌ. وَقَالَ طَاوُسٌ: مَنْ أُرْقِبَ شَيْئًا فَهُوَ عَلَى سَبِيل الْمِيرَاثِ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الرُّقْبَى وَصِيَّةٌ. يَعْنِي أَنَّ مَعْنَاهَا إذَا مِتُّ فَهَذَا لَك. وَقَالَ الْحَسَنُ، وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: الرُّقْبَى بَاطِلَةٌ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَ الْعُمْرَى، وَأَبْطَلَ الرُّقْبَى. وَلِأَنَّ مَعْنَاهَا أَنَّهَا لِلْآخِرِ مِنَّا، وَهَذَا تَمْلِيكٌ مُعَلَّقٌ بِخَطَرٍ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ. وَلَنَا مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ الْأَخْبَارِ، وَحَدِيثُهُمْ لَا نَعْرِفُهُ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَعْنَاهَا مَا ذَكَرُوهُ، بَلْ مَعْنَاهَا أَنَّهَا