الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَفْظَيْنِ، إمَّا أَنْ يَقُولَ: قَدْ قَبِلْته، أَوْ قَبَضْته. لِأَنَّ الْقَبُولَ يُغْنِي عَنْ الْقَبْضِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ مَا ذَكَرْنَاهُ
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا فِيمَا ذَكَرْنَا، وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ وَهَبَ لَهُ مَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ كَالْأَثْمَانِ، لَمْ يَجُزْ، إلَّا أَنْ يَضَعَهَا عَلَى يَدِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ قَدْ يُتْلِفُ ذَلِكَ، وَيَتْلَفُ بِغَيْرِ سَبَبِهِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَنْفَعُ الْقَبْضُ شَيْئًا. وَلَنَا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَصِحُّ هِبَتُهُ، فَإِذَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ، وَقَبَضَهُ لَهُ، وَجَبَ أَنْ تَصِحَّ كَالْعُرُوضِ.
[فَصْلٌ كَانَ الْوَاهِبُ لِلصَّبِيِّ غَيْرَ الْأَبِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ]
(4457)
فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ لِلصَّبِيِّ غَيْرَ الْأَبِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَقْبَلُ لِلصَّبِيِّ، وَيَقْبِضُ لَهُ، لِيَكُونَ الْإِيجَابُ مِنْهُ، وَالْقَبُولُ، وَالْقَبْضُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ. بِخِلَافِ الْأَبِ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ وَيَقْبَلَ وَيَقْبِضَ، لِكَوْنِهِ يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْأَبَ وَغَيْرَهُ فِي هَذَا سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَجُوزُ أَنْ يَصْدُرَ مِنْهُ وَمِنْ وَكِيلِهِ، فَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْهِ، كَالْأَبِ
وَفَارَقَ الْبَيْعَ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمُرَابَحَةٍ، فَيُتَّهَمُ فِي عَقْدِهِ لِنَفْسِهِ، وَالْهِبَةُ مَحْضُ مَصْلَحَةٍ لَا تُهْمَةَ فِيهَا، وَهُوَ وَلِيٌّ فِيهِ، فَجَازَ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ، كَالْأَبِ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا مُنِعَ مِنْهُ لِمَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْعِوَضِ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ، وَهُوَ هَاهُنَا يُعْطِي وَلَا يَأْخُذُ، فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَتَوْقِيفِهِ عَلَى تَوْكِيلِ غَيْرِهِ، وَلِأَنَّنَا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُسْتَغْنَى بِالْإِيجَابِ وَالْإِشْهَادِ عَنْ الْقَبْضِ وَالْقَبُولِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّوْكِيلِ فِيهِمَا مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمَا.
[فَصْلٌ الْهِبَةُ مِنْ الصَّبِيِّ لِغَيْرِهِ]
(4458)
فَصْلٌ: فَأَمَّا الْهِبَةُ مِنْ الصَّبِيِّ لِغَيْرِهِ، فَلَا تَصِحُّ، سَوَاءٌ أَذِنَ فِيهَا الْوَلِيُّ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ لِحَظِّ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ تَبَرُّعُهُ، كَالسَّفِيهِ. وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَهَبَ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ لِسَيِّدِهِ، وَمَالُهُ مَالٌ لِسَيِّدِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ إزَالَةُ مِلْكِ سَيِّدِهِ عَنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، كَالْأَجْنَبِيِّ. وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ الْهِبَةَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ لِلْمَالِ لِسَيِّدِهِ، فَلَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُهُ فِيهِ، كَالِالْتِقَاطِ، وَمَا وُهِبَهُ لِسَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ اكْتِسَابِهِ، فَأَشْبَهَ اصْطِيَادَهُ.
[مَسْأَلَة فَاضَلَ بَيْنَ وَلَدِهِ فِي الْعَطِيَّةِ]
(4459)
مَسْأَلَةٌ قَالَ: (وَإِذَا فَاضَلَ بَيْنَ وَلَدِهِ فِي الْعَطِيَّةِ، أُمِرَ بِرَدِّهِ، كَأَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ، وَإِذَا لَمْ يَخْتَصَّ أَحَدُهُمْ بِمَعْنًى يُبِيحُ التَّفْضِيلَ، فَإِنْ خَصَّ بَعْضَهُمْ بِعَطِيَّتِهِ، أَوْ فَاضَلَ بَيْنَهُمْ فِيهَا أَثِمَ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ؛ إمَّا رَدُّ مَا فَضَّلَ بِهِ الْبَعْضَ، وَإِمَّا إتْمَامُ نَصِيبِ الْآخَرِ. قَالَ طَاوُسٌ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَلَا رَغِيفٌ مُحْتَرِقٌ.
وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ
وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعُرْوَةَ. وَكَانَ الْحَسَنُ يَكْرَهُهُ، وَيُجِيزُهُ فِي الْقَضَاءِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: ذَلِكَ جَائِزٌ. وَرُوِيَ مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه نَحَلَ عَائِشَةَ ابْنَتَهُ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا، دُونَ سَائِرِ وَلَدِهِ. وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بُقُولِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ:«أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي»
فَأَمَرَهُ بِتَأْكِيدِهَا دُونَ الرُّجُوعِ فِيهَا، وَلِأَنَّهَا عَطِيَّةٌ تَلْزَمُ بِمَوْتِ الْأَبِ، فَكَانَتْ جَائِزَةً، كَمَا لَوْ سَوَّى بَيْنَهُمْ. وَلَنَا مَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ قَالَ:«تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ عَلَيْهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَجَاءَ أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِهِ، فَقَالَ: أَكُلَّ وَلَدِك أَعْطَيْت مِثْلَهُ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ. قَالَ: فَرَجَعَ أَبِي، فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ» . وَفِي لَفْظٍ قَالَ: " فَارْدُدْهُ ". وَفِي لَفْظٍ قَالَ: " فَأَرْجِعْهُ ". وَفِي لَفْظٍ: " لَا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ " وَفِي لَفْظٍ: " فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي ". وَفِي لَفْظٍ: " سَوِّ بَيْنَهُمْ ". وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ جَوْرًا، وَأَمَرَ بِرَدِّهِ، وَامْتَنَعَ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَالْجَوْرُ حَرَامٌ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَلِأَنَّ تَفْضِيلَ بَعْضِهِمْ يُورِثُ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَة وَالْبَغْضَاءَ وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ، فَمُنِعَ مِنْهُ، كَتَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا. وَقَوْلُ أَبِي بَكْرٍ لَا يُعَارِضُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ مَعَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه خَصَّهَا بِعَطِيَّتِهِ لِحَاجَتِهَا وَعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ وَالتَّسَبُّبِ فِيهِ، مَعَ اخْتِصَاصِهَا بِفَضْلِهَا، وَكَوْنِهَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ زَوْجَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِهَا
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ نَحَلَهَا وَنَحَلَ غَيْرَهَا مِنْ وَلَدِهِ، أَوْ نَحَلَهَا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَنْحَلَ غَيْرَهَا، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ ذَلِكَ. وَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ حَدِيثِهِ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ حَمْلَهُ عَلَى مِثْلِ مَحَلِّ النِّزَاعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ الْكَرَاهَةُ، وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ أَبِي بَكْرٍ اجْتِنَابُ الْمَكْرُوهَاتِ. وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي» . لَيْسَ بِأَمْرٍ؛ لِأَنَّ أَدْنَى أَحْوَالِ الْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ وَالنَّدْبُ، وَلَا خِلَافَ فِي كَرَاهَةِ هَذَا. وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِتَأْكِيدِهِ، مَعَ أَمْرِهِ بِرَدِّهِ، وَتَسْمِيَتِهِ إيَّاهُ جَوْرًا، وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا حَمْلٌ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّنَاقُضِ وَالتَّضَادِّ.
وَلَوْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِإِشْهَادِ غَيْرِهِ، لَامْتَثَلَ بَشِيرٌ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَرُدَّ، وَإِنَّمَا هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُ عَلَى هَذَا، فَيُفِيدُ مَا أَفَادَهُ النَّهْيُ عَنْ إتْمَامِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.