الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى، فَإِنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي الْقِسْمَةَ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ، وَالْمَعْنَى يَقْتَضِي أَنْ يُؤْثَرَ بِهَا أَهْلُ الْحَاجَةِ إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ سَدَّ الْخَلَّةِ، فَكَأَنَّ تَعْدِيدَهُمْ فِي الْآيَةِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إِنَّمَا وَرَدَ لِتَمْيِيزِ الْجِنْسِ - أَعْنِي: أَهْلَ الصَّدَقَاتِ - لَا تَشْرِيكِهِمْ فِي الصَّدَقَةِ، فَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.
وَمِنَ الْحُجَّةِ لِلشَّافِعِيِّ: مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ الصُّدَائِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ» .
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَهَلِ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ حَقُّهُمْ بَاقٍ إِلَى الْيَوْمِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا مُؤَلَّفَةَ الْيَوْمَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: بَلْ حَقُّ الْمُؤَلَّفَةِ بَاقٍ إِلَى الْيَوْمِ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ، وَهُمُ الَّذِينَ يَتَأَلَّفُهُمُ الْإِمَامُ عَلَى الْإِسْلَامِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ عَامٌّ لَهُ وَلِسَائِرِ الْأُمَّةِ؟ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ عَامٌّ.
وَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ أَوْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ؟ - أَعْنِي: فِي حَالِ الضَّعْفِ لَا فِي حَالِ الْقُوَّةِ - وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا حَاجَةَ إِلَى الْمُؤَلَّفَةِ الْآنَ لِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ، وَهَذَا كَمَا قُلْنَا الْتِفَاتٌ مِنْهُ إِلَى الْمَصَالِحِ.
[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي صِفَاتُ أهل الزكاة الَّتِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا الصَّدَقَةَ]
الْفَصْلُ الثَّانِي
فِي الصِّفَةِ الَّتِي تَقْتَضِي صَرْفَهَا إِلَيْهِمْ
وَأَمَّا صِفَاتُهُمُ الَّتِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا الصَّدَقَةَ وَيَمْنَعُونَ مِنْهَا بِأَضْدَادِهَا:
فَأَحَدُهَا: الْفَقْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْغِنَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْغَنِيِّ الَّذِي تَجُوزُ لَهُ الصَّدَقَةُ مِنَ الَّذِي لَا تَجُوزُ، وَمَا مِقْدَارُ الْغِنَى الْمُحَرِّمِ لِلصَّدَقَةِ:
فَأَمَّا الْغَنِيُّ الَّذِي لَا تَجُوزُ لَهُ الصَّدَقَةُ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ لِلْأَغْنِيَاءِ بِأَجْمَعِهِمْ إِلَّا لِلْخَمْسِ الَّذِينَ نَصَّ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام فِي قَوْلِهِ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ لِغَارِمٍ، أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ» . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ لِغَنِيٍّ أَصْلًا مُجَاهِدًا كَانَ أَوْ عَامِلًا، وَالَّذِينَ
أَجَازُوهَا لِلْعَامِلِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا أَجَازُوهَا لِلْقُضَاةِ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِمَّنِ الْمَنْفَعَةُ بِهِمْ عَامَّةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ فَقِيَاسُ ذَلِكَ عِنْدَهُ هُوَ أَنْ لَا تَجُوزَ لِغَنِيٍّ أَصْلًا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ هُوَ: هَلِ الْعِلَّةُ فِي إِيجَابِ الصَّدَقَةِ لِلْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ هُوَ الْحَاجَةُ فَقَطْ، أَوِ الْحَاجَةُ وَالْمَنْفَعَةُ الْعَامَّةُ؟ فَمَنِ اعْتَبَرَ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْحَاجَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْحَاجَةُ فَقَطْ. وَمَنْ قَالَ: الْحَاجَةُ وَالْمَنْفَعَةُ الْعَامَّةُ تُوجِبُ أَخْذَ الصَّدَقَةِ اعْتَبَرَ الْمَنْفَعَةَ لِلْعَامِلِ وَالْحَاجَةَ بِسَائِرِ الْأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا حَدُّ الْغِنَى الَّذِي يَمْنَعُ مِنَ الصَّدَقَةِ: فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنَ الصَّدَقَةِ هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْغَنِيَّ هُوَ مَالِكُ النِّصَابِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام أَغْنِيَاءَ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ لَهُ: «فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» وَإِذَا كَانَ الْأَغْنِيَاءُ هُمْ أَهْلُ النِّصَابِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفُقَرَاءُ ضِدَّهُمْ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ إِنَّمَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الْغِنَى الْمَانِعُ هُوَ مَعْنًى شَرْعِيٌّ أَمْ مَعْنًى لُغَوِيٌّ؟ فَمَنْ قَالَ: مَعْنًى شَرْعِيٌّ قَالَ: وُجُوبُ النِّصَابِ هُوَ الْغِنَى، وَمَنْ قَالَ: مَعْنًى لُغَوِيٌّ اعْتَبَرَ فِي ذَلِكَ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ أَقَلَّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ هُوَ مَحْدُودٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَفِي كُلِّ شَخْصٍ جَعَلَ حَدَّهُ هَذَا، وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ وَأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَالَاتِ وَالْحَاجَاتِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ: هُوَ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي حَدِيثَ الْغَنِيِّ الَّذِي يَمْنَعُ الصَّدَقَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مَلَكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَفِي أَثَرٍ آخَرَ أَنَّهُ مَلَكَ أُوقِيَّةً وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَأَحْسَبُ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا بِهَذِهِ الْآثَارِ فِي حَدِّ الْغِنَى.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي صِفَةِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ وَالْفَصْلِ الَّذِي بَيْنَهُمَا، فَقَالَ قَوْمٌ: الْفَقِيرُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ، وَبِهِ قَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمِسْكِينُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ الثَّانِي: