الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ جَزَاءِ الصَّيْدِ]
فَنَقُولُ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] . هِيَ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَفَاصِيلِ أَحْكَامِهَا، وَفِيمَا يُقَاسُ عَلَى مَفْهُومِهَا مِمَّا لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ.
فَمِنْهَا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلِ الْوَاجِبُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ قِيمَتُهُ أَوْ مِثْلُهُ؟ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الْمِثْلُ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِيمَةِ، أَعْنِي: قِيمَةَ الصَّيْدِ. وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا الْمِثْلَ.
وَمِنْهَا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي اسْتِئْنَافِ الْحُكْمِ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ فِيمَا حَكَمَ فِيهِ السَّلَفُ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِثْلُ حُكْمِهِمْ أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَعَامَةً فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ تَشْبِيهًا بِهَا، وَمَنْ قَتَلَ غَزَالًا فَعَلَيْهِ شَاةٌ، وَمَنْ قَتَلَ بَقَرَةً وَحْشِيَّةً فَعَلَيْهِ إِنْسِيَّةٌ. فَقَالَ مَالِكٌ: يَسْتَأْنِفُ فِي كُلِّ مَا وَقَعَ مِنْ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِهِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنِ اجْتَزَأَ بِحُكْمِ الصَّحَابَةِ مِمَّا حَكَمُوا فِيهِ جَازَ.
وَمِنْهَا هَلِ الْآيَةُ عَلَى التَّخْيِيرِ؟ أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، يُرِيدُ أَنَّ الْحُكْمَيْنِ يُخَيِّرَانِ الَّذِي عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَقَالَ زُفْرُ: هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ أَوِ الْمِثْلُ إِذَا اخْتَارَ الْإِطْعَامَ إِنْ وَجَبَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ، فَيَشْتَرِي بِقِيمَتِهِ طَعَامًا؟ فَقَالَ مَالِكٌ: يُقَوَّمُ الصَّيْدُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقَوَّمُ الْمِثْلُ.
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَقْدِيرِ الصِّيَامِ بِالطَّعَامِ بِالْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي التَّفْصِيلِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَصُومُ لِكُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَهُوَ الَّذِي يُطْعِمُ عِنْدَهُمْ كُلَّ مِسْكِينٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَهْلُ الْحِجَازِ. وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: يَصُومُ لِكُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُطْعَمُ كُلُّ مِسْكِينٍ عِنْدَهُمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي قَتْلِ الصَّيْدِ خَطَأً هَلْ فِيهِ جَزَاءٌ؟ أَمْ لَا؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ فِيهِ الْجَزَاءَ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَمَاعَةِ يَشْتَرِكُونَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ مُحْرِمُونَ صَيْدًا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ. وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ. وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ الْمُحْرِمِينَ يَقْتُلُونَ الصَّيْدَ، وَبَيْنَ الْمُحِلِّينَ يَقْتُلُونَهُ فِي الْحَرَمِ، فَقَالَ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحْرِمِينَ جَزَاءٌ، وَعَلَى الْمُحِلِّينَ جَزَاءٌ وَاحِدٌ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَكُونُ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ قَاتِلَ الصَّيْدِ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِ الْإِطْعَامِ فَقَالَ مَالِكٌ: فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَ فِيهِ الصَّيْدَ إِنْ كَانَ ثَمَّ طَعَامٌ، وَإِلَّا فَفِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إِلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَيْثُمَا أَطْعَمَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُطْعِمُ إِلَّا مَسَاكِينَ مَكَّةَ.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا قَتَلَ الصَّيْدَ أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ ; لِلنَّصِّ فِي ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَلَالِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ فَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ: عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَقَالَ دَاوُدُ وَأَصْحَابُهُ: لَا جَزَاءَ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمُسْلِمُونَ فِي تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْكَفَّارَةِ وَذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] . وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» . وَجُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا قَتَلَ الصَّيْدَ وَأَكَلَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَائِفَةٍ أَنَّ فِيهِ كَفَارَّتَيْنِ.
فَهَذِهِ هِيَ مَشْهُورَاتُ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الَّتِي دَعَتْهُمْ إِلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ فَنَحْنُ نُشِيرُ إِلَى طَرَفٍ مِنْهَا فَنَقُولُ: أَمَّا مَنِ اشْتَرَطَ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَحُجَّتُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ نَصٌّ فِي الْآيَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَمْدَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْعِقَابِ، وَالْكَفَّارَاتِ عِقَابٌ مَا.
وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ مَعَ النِّسْيَانِ فَلَا حُجَّةَ لَهُ، إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَ الْجَزَاءَ عِنْدَ إِتْلَافِ الصَّيْدِ بِإِتْلَافِ الْأَمْوَالِ؛ فَإِنَّ الْأَمْوَالَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تُضَمَّنُ خَطَأً وَنَسِيَانًا. لَكِنْ يُعَارِضُ هَذَا الْقِيَاسَ اشْتِرَاطُ الْعَمْدِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ، فَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا - أَيِ الْعَمْدِ - إِنَّمَا اشْتَرَطَ؛ لِمَكَانِ تَعَلُّقِ الْعِقَابِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ:{لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] . وَذَلِكَ لَا مَعْنَى لَهُ ; لِأَنَّ الْوَبَالَ الْمَذُوقَ هُوَ فِي الْغَرَامَةِ، فَسَوَاءٌ قَتَلَهُ مُخْطِئًا أَوْ مُتَعَمِّدًا قَدْ ذَاقَ الْوَبَالَ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ النَّاسِيَ غَيْرُ مُعَاقَبٍ. وَأَكْثَرُ مَا تَلْزَمُ هَذِهِ الْحُجَّةُ لِمَنْ كَانَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ لَا دَلِيلَ لِمَنْ أَثْبَتَهَا عَلَى النَّاسِي إِلَّا الْقِيَاسُ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمِثْلِ: هَلْ هُوَ الشَّبِيهُ؟ أَوِ الْمِثْلُ فِي الْقِيمَةِ؟ فَإِنَّ سَبَبَ الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْمِثْلَ يُقَالُ عَلَى الَّذِي هُوَ مِثْلٌ، وَعَلَى الَّذِي هُوَ مِثْلٌ فِي الْقِيمَةِ، لَكِنَّ حُجَّةَ مَنْ رَأَى أَنَّ الشَّبِيهَ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ أَنَّ انْطِلَاقَ لَفْظِ الْمِثْلِ عَلَى الشَّبِيهِ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَظْهَرُ، وَأَظْهَرُ مِنْهُ عَلَى الْمِثْلِ فِي الْقِيمَةِ، لَكِنْ لِمَنْ حَمَلَ هَا هُنَا الْمِثْلَ عَلَى الْقِيمَةِ دَلَائِلُ حَرَّكَتْهُ إِلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ، أَحَدُهَا أَنَّ الْمِثْلَ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمِثْلَ إِذَا حُمِلَ هَا هُنَا عَلَى التَّعْدِيلِ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الصَّيْدِ، فَإِنَّ مِنَ الصَّيْدِ مَا لَا يُلْقَى لَهُ شَبِيهٌ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمِثْلَ فِيمَا لَا يُوجَدُ لَهُ شَبِيهٌ هُوَ التَّعْدِيلُ، وَلَيْسَ يُوجَدُ لِلْحَيَوَانِ الْمَصِيدِ فِي الْحَقِيقَةِ شَبِيهٌ إِلَّا مِنْ جِنْسِهِ، وَقَدْ نَصَّ أَنَّ الْمِثْلَ الْوَاجِبَ فِيهِ هُوَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ فِي التَّعْدِيلِ وَالْقِيمَةِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الشَّبِيهِ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ.
فَأَمَّا الْحُكْمُ بِالتَّعْدِيلِ فَهُوَ شَيْءٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَلِذَلِكَ هُوَ كُلُّ وَقْتٍ يَحْتَاجُ إِلَى الْحَكَمَيْنِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِمَا. وَعَلَى هَذَا، يَأْتِي التَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ بِمُشَابِهٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ، أَوْ عَدْلُ الْقِيمَةِ طَعَامًا، أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ هَلِ الْمُقَدَّرُ هُوَ الصَّيْدُ؟ أَوْ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ إِذَا قُدِّرَ بِالطَّعَامِ؟ فَمَنْ قَالَ: الْمُقَدَّرُ هُوَ الصَّيْدُ - قَالَ: لِأَنَّهُ الَّذِي لَمَّا لَمْ يُوجَدْ مِثْلُهُ رَجَعَ إِلَى تَقْدِيرِهِ بِالطَّعَامِ. وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُقَدَّرَ هُوَ الْوَاجِبُ مِنَ النَّعَمِ - قَالَ: لِأَنَّ الشَّيْءَ إِنَّمَا تُقَدَّرُ قِيمَتُهُ إِذَا عُدِمَ بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ، أَعْنِي: شَبِيهَهُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ عَلَى التَّخْيِيرِ - فَإِنَّهُ الْتَفَتَ إِلَى حَرْفِ (أَوْ) ؛ إِذْ كَانَ مُقْتَضَاهَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ التَّخْيِيرَ. وَأَمَّا مَنْ نَظَرَ إِلَى تَرْتِيبِ الْكَفَّارَاتِ فِي ذَلِكَ فَشَبَهُهَا فِي الْكَفَّارَاتِ الَّتِي فِيهَا التَّرْتِيبُ بِاتِّفَاقٍ، وَهِيَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ يُسْتَأْنَفُ الْحُكْمُ فِي الصَّيْدِ الْوَاحِدِ الَّذِي قَدْ وَقَعَ الْحُكْمُ فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ - فَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ هُوَ هَلِ الْحُكْمُ شَرْعِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى؟ أَمْ هَذَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى؟ فَمَنْ قَالَ: هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى - قَالَ: مَا قَدْ حُكِمَ فِيهِ فَلَيْسَ يُوجَدُ شَيْءٌ أَشْبَهُ بِهِ مِنْهُ، مِثْلُ النَّعَامَةِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ أَشْبَهُ بِهَا مِنَ الْبَدَنَةِ، فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَةِ الْحُكْمِ. وَمَنْ قَالَ: هُوَ عِبَادَةٌ - قَالَ: يُعَادُ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْجَمَاعَةِ يَشْتَرِكُونَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ الْوَاحِدِ فَسَبَبُهُ هَلِ الْجَزَاءُ مُوجِبُهُ هُوَ التَّعَدِّي فَقَطْ؟ أَوِ التَّعَدِّي عَلَى جُمْلَةِ الصَّيْدِ؟ فَمَنْ قَالَ: التَّعَدِّي فَقَطْ - أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ الْقَاتِلَةِ لِلصَّيْدِ جَزَاءً. وَمَنْ قَالَ: التَّعَدِّي عَلَى جُمْلَةِ الصَّيْدِ - قَالَ: عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ شَبِيهَةٌ بِالْقِصَاصِ فِي النِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ، وَفِي الْقِصَاصِ فِي الْأَعْضَاءِ، وَفِي الْأَنْفُسِ. وَسَتَأْتِي فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَتَفْرِيقُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْمُحْرِمِينَ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُحْرِمِينَ الْقَاتِلِينَ فِي الْحَرَمِ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْمُحْرِمِينَ، وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْجَمَاعَةِ جَزَاءً فَإِنَّمَا نَظَرَ إِلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ سَقَطَ عَنْهُمُ الْجَزَاءُ جُمْلَةً لَكَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيدَ فِي الْحَرَمِ صَادَ فِي جَمَاعَةٍ. وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الْجَزَاءَ هُوَ كَفَّارَةٌ لِلْإِثْمِ، فَيُشْبِهُ أَنَّهُ لَا يَتَبَعَّضُ إِثْمُ قَتْلِ الصَّيْدِ بِالِاشْتِرَاكِ فِيهِ، فَيَجِبُ أَلَّا يَتَبَعَّضَ الْجَزَاءُ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ كَفَّارَةٌ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي هَلْ يَكُونُ أَحَدُ الْحَكَمَيْنِ قَاتِلَ الصَّيْدِ فَالسَّبَبُ فِيهِ مُعَارَضَةُ مَفْهُومِ الظَّاهِرِ؛ لِمَفْهُومِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ فِي الشَّرْعِ. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الْحَكَمَيْنِ إِلَّا الْعَدَالَةَ، فَيَجِبُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا أَنْ يَجُوزَ الْحُكْمُ مِمَّنْ يُوجَدُ فِيهِ هَذَا الشَّرْطُ، سَوَاءٌ كَانَ قَاتِلَ الصَّيْدِ أَوْ غَيْرَ قَاتِلٍ. وَأَمَّا مَفْهُومُ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ فِي الشَّرْعِ فَهُوَ أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ حَاكِمًا عَلَى نَفْسِهِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ فَسَبَبُهُ الْإِطْلَاقُ، أَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ مَوْضِعٌ. فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالزَّكَاةِ فِي أَنَّهُ حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ فَقَالَ: لَا يُنْقَلُ مِنْ مَوْضِعِهِ. وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الرِّفْقُ بِمَسَاكِينِ مَكَّةَ قَالَ: لَا يُطْعِمُ إِلَّا مَسَاكِينَ مَكَّةَ. وَمَنِ اعْتَمَدَ ظَاهِرَ الْإِطْلَاقِ قَالَ: يُطْعِمُ حَيْثُ شَاءَ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْحَلَالِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ؟ أَمْ لَا؟ فَسَبَبُهُ: هَلْ يُقَاسُ فِي الْكَفَّارَاتِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ؟ وَهَلِ الْقِيَاسُ أَصْلٌ مَنْ أُصُولِ الشَّرْعِ عِنْدَ الَّذِينَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ؟ فَأَهْلُ الظَّاهِرِ يَنْفُونَ قِيَاسَ قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِمَنْعِهِمُ الْقِيَاسَ فِي الشَّرْعِ.
وَيَحِقُّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَمْنَعَهُ لِمَنْعِهِ الْقِيَاسَ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي تَعَلُّقِ الِاسْمِ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ سبحانه وتعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] . وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ» .
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ قَتَلَهُ، ثُمَّ أَكَلَهُ - هَلْ عَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ؟ أَمْ جَزَاءَانِ؟ فَسَبَبُهُ: هَلْ أَكْلُهُ تَعَدٍّ ثَانٍ عَلَيْهِ سِوَى تَعَدِّي الْقَتْلِ؟ أَمْ لَا؟ وَإِنْ كَانَ تَعَدِّيًا عَلَيْهِ فَهَلْ هُوَ مُسَاوٍ لِلتَّعَدِّي الْأَوَّلِ؟ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِنْ أَكَلَ أَثِمَ.
وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ فِي كَفَّارَةِ الْجَزَاءِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ: مَعْرِفَةِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ، وَمَعْرِفَةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَعْرِفَةِ الْفِعْلِ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَجِبُ، وَمَعْرِفَةِ مَحَلِّ الْوُجُوبِ. وَكَانَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ، وَبَقِيَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافٌ فِي بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ مِنَ الْأَمْثَالِ فِي بَعْضِ الْمَصِيدَاتِ.
وَالثَّانِي: مَا هُوَ صَيْدٌ مِمَّا لَيْسَ بِصَيْدٍ.
يَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ فِيمَا بَقِيَ عَلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ. فَمِنْ أُصُولِ هَذَا الْبَابِ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ " أَنَّهُ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ، وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍِ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ ". وَالْيَرْبُوعُ: دُوَيْبَّةٌ لَهَا أَرْبَعُ قَوَائِمَ وَذَنَبٌ، تَجْتَرُّ كَمَا تَجْتَرُّ الشَّاةُ، وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْكُرُوشِ، وَالْعَنْزُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمَعْزِ مَا قَدْ وُلِدَ أَوْ وُلِدَ مِثْلُهُ. وَالْجَفْرَةُ وَالْعَنَاقُ مِنَ الْمَعْزِ، فَالْجَفْرَةُ مَا أَكَلَ وَاسْتَغْنَى عَنِ الرِّضَاعِ، وَالْعَنَاقُ قِيلَ: فَوْقَ الْجَفْرَةِ، وَقِيلَ: دُونَهَا.
وَخَالَفَ مَالِكٌ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ فِي الْأَرْنَبِ وَالْيَرْبُوعِ: لَا يَقُومَانِ إِلَّا بِمَا يَجُوزُ هَدْيًا وَأُضْحِيَةً، وَذَلِكَ الْجَذَعُ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيُّ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وَحُجَّةُ مَالِكٍ قَوْله تَعَالَى:{هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] .
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ مَنْ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ هَدْيًا أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ أَقَلُّ مِنَ الْجَذَعِ فَمَا فَوْقَهُ مِنَ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيِّ مَا سِوَاهُ. وَفِي صِغَارِ الصَّيْدِ عِنْدَ مَالِكٍ مِثْلُ مَا فِي كِبَارِهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْدَى صِغَارُ الصَّيْدِ بِالْمِثْلِ مِنْ صِغَارِ النَّعَمِ، وَكِبَارُ الصَّيْدِ بِالْكِبَارِ مِنْهَا. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَحُجَّتُهُ أَنَّهَا حَقِيقَةُ الْمِثْلِ، فَعِنْدَهُ فِي النَّعَامَةِ الْكَبِيرَةِ بَدَنَةٌ، وَفِي الصَّغِيرَةِ فَصِيلٌ. وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْقِيمَةِ.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي حَمَامِ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا فَقَالَ مَالِكٌ: فِي حَمَامِ مَكَّةَ شَاةٌ، وَفِي حَمَامِ الْحِلِّ حُكُومَةٌ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي حَمَامِ الْحَرَمِ غَيْرِ مَكَّةَ، فَقَالَ مَرَّةً: شَاةٌ كَحَمَامِ مَكَّةَ، وَمَرَّةً قَالَ: حُكُومَةٌ كَحَمَامِ الْحِلِّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي كُلِّ حَمَامٍ شَاةٌ، وَفِي حَمَامِ سِوَى الْحَرَمِ قِيمَتُهُ. وَقَالَ دَاوُدُ: كُلُّ شَيْءٍ لَا مِثْلَ لَهُ فِي الصَّيْدِ فَلَا جَزَاءَ فِيهَا إِلَّا الْحَمَامُ فَإِنَّ فِيهِ شَاةً، وَلَعَلَّهُ ظَنَّ
ذَلِكَ إِجْمَاعًا، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الطَّيْرِ شَاةٌ.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ: أَرَى فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ عُشْرُ ثَمَنِ الْبَدَنَةِ. وَأَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي الْقِيمَةِ، وَوَافَقَهُ الشَّافِعِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ، أَعْنِي: جَزَاءَ النَّعَامَةِ. وَاشْتَرَطَ أَبُو ثَوْرٍ فِي ذَلِكَ أَنْ يَخْرُجَ حَيًّا ثُمَّ يَمُوتُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَضَى فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ بِأَنْ يُرْسِلَ الْفَحْلُ عَلَى الْإِبِلِ، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَقَاحُهَا سَمَّيْتَ مَا أَصَبْتَ مِنَ الْبَيْضِ. فَقُلْتُ: وَهَذَا هَدْيٌ. ثُمَّ لَيْسَ عَلَيْكَ ضَمَانٌ مَا فَسَدَ مِنَ الْحَمْلِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ كَانَتْ لَهُ إِبِلٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ عَلِيٍّ، وَإِلَّا فَفِي كُلِّ بَيْضَةٍ دِرْهَمَانِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام: «فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمِ ثَمَنُهُ» مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ فِيهِ الْقِيمَةَ، قَالَ: وَفِيهِ أَثَرٌ ضَعِيفٌ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ فِيهِ الْجَزَاءُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: قَبْضَةٌ مِنْ طَعَامٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الْجَرَادِ قِيمَتُهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ مِنْ حَفْنَةِ طَعَامٍ أَوْ تَمْرَةٍ فَهُوَ لَهُ قِيمَةٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ فِيهَا تَمْرَةً مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: فِيهَا صَاعٌ مِنْ طَعَامٍ، وَهُوَ شَاذٌّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ فِيهَا شُوَيْهَةً، وَهُوَ أَيْضًا شَاذٌّ.
فَهَذِهِ هِيَ مَشْهُورَاتُ مَا اتَّفَقُوا عَلَى الْجَزَاءِ فِيهِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ الْجَزَاءُ فِيهِ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا هُوَ صَيْدٌ مِمَّا لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَفِيمَا هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ - فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْبَرِّ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ إِلَّا الْخَمْسَ الْفَوَاسِقَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَلْحَقُ بِهِ مِمَّا لَيْسَ يَلْحَقُ. وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ حَلَالًا كُلَّهُ لِلْمُحْرِمِ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ. وَهَذَا كُلُّهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] .
وَنَحْنُ نَذْكُرُ مَشْهُورَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ - فَنَقُولُ: ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ جُنَاحٌ فِي قَتْلِهِنَّ: الْغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» . وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى الْقَوْلِ بِإِبَاحَةِ قَتْلِ مَا تَضَمَّنَهُ؛ لِكَوْنِهِ لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمُ اشْتَرَطَ فِي ذَلِكَ أَوْصَافًا مَا.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ هَذَا بَابٌ مِنَ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ، أَوْ بَابٌ مِنَ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ. وَالَّذِينَ قَالُوا: هُوَ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ - اخْتَلَفُوا فِي أَيِّ عَامٍّ أُرِيدَ بِذَلِكَ، فَقَالَ مَالِكٌ: الْكَلْبُ الْعَقُورُ الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ إِشَارَةٌ إِلَى كُلِّ سَبُعٍ عَادٍ، وَأَنَّ مَا لَيْسَ بِعَادٍ مِنَ السِّبَاعِ فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ قَتْلُهُ. وَلَمْ يَرَ قَتْلَ صِغَارِهَا الَّتِي لَا تَعْدُو، وَلَا مَا كَانَ مِنْهَا أَيْضًا لَا يَعْدُو. وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي قَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْأَفْعَى وَالْأَسْوَدِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «تُقْتَلُ الْأَفْعَى وَالْأَسْوَدُ» .
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا أَرَى قَتْلَ الْوَزَغِ، وَالْأَخْبَارَ بِقَتْلِهَا مُتَوَاتِرَةً، لَكِنْ مُطْلَقًا لَا فِي الْحَرَمِ، وَلِذَلِكَ تَوَقَّفَ فِيهَا مَالِكٌ فِي الْحَرَمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ مِنَ الْكِلَابِ الْعَقُورَةِ إِلَّا الْكَلْبُ الْإِنْسِيُّ وَالذِّئْبُ. وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: كُلُّ مُحَرَّمِ الْأَكْلِ فَهُوَ مَعْنِيٌّ فِي الْخَمْسِ. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ إِنَّمَا حَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ مَا أُحِلَّ لِلْحَلَالِ. وَأَنَّ الْمُبَاحَةَ الْأَكْلُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهَا بِإِجْمَاعٍ؛ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ صَيْدِ الْبَهَائِمِ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلَمْ يَفْهَمْ مِنِ اسْمِ الْكَلْبِ الْإِنْسِيَّ فَقَطْ، بَلْ مِنْ مَعْنَاهُ كُلُّ ذِئْبٍ وَحْشِيٍّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الزُّنْبُورِ فَبَعْضُهُمْ شَبَّهَهُ بِالْعَقْرَبِ، وَبَعْضُهُمْ رَأَى أَنَّهُ أَضْعَفُ نِكَايَةً مِنَ الْعَقْرَبِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا تَتَضَمَّنُ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ، فَمَنْ رَأَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ أَلْحَقَ بِوَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا يُشْبِهُهُ إِنْ كَانَ لَهُ شَبَهٌ، وَمَنْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ قَصَرَ النَّهْيَ عَلَى الْمَنْطُوقِ بِهِ.
وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ. فَخَصَّصَتْ عُمُومَ الِاسْمِ الْوَارِدِ