المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[القول في أنواع هذا النسك] - بداية المجتهد ونهاية المقتصد - جـ ٢

[ابن رشد الحفيد]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الزَّكَاةِ] [

- ‌الْجُمْلَةُ الْأُولَى فِي مَعْرِفَةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزكاة]

- ‌[الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي مَعْرِفَةِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزكاة مِنَ الْأَمْوَالِ]

- ‌[الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ فِي مَعْرِفَةُ نصابِ الزكاة]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي نصاب الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي نِصَابِ الْإِبِلِ وَالْوَاجِبِ فِيهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي نِصَابِ الْبَقَرِ وَقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ]

- ‌[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي نِصَابِ الْغَنَمِ وَقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ]

- ‌[الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي نِصَابِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ]

- ‌[الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي نِصَابِ الْعُرُوضِ]

- ‌[الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ فِي وَقْتِ الزَّكَاةِ]

- ‌[الْجُمْلَةُ الْخَامِسَةُ فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ الصَّدَقَةُ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ تَجِبُ لَهُمُ الزَّكَاةُ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي صِفَاتُ أهل الزكاة الَّتِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا الصَّدَقَةَ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ قَدْرُ مَا يُعْطَى أهل الزكاة منها]

- ‌[كِتَابُ زَكَاةِ الْفِطْرِ] [

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْم زكاة الفطر]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ زكاة الفطر وَعَنْ مَنْ تَجِبُ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِمَّاذَا تَجِبُ زكاة الفطر]

- ‌[الْفَصْلُ الرَّابِعُ مَتَّى تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْخَامِسُ لِمَنْ تُصْرَفُ زكاة الفطر]

- ‌[كِتَابُ الصِّيَامِ] [

- ‌الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى أَنْوَاعُ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ]

- ‌[الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي أَرْكَان الصيام]

- ‌[الرُّكْنُ الْأَوَّلُ في الصيام هو الزَّمَانُ]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّانِي في الصيام وَهُوَ الْإِمْسَاكُ]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّالِثُ في الصيام وَهُوَ النِّيَّةُ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ وَهُوَ الْكَلَامُ فِي الْفِطْرِ وَأَحْكَامِهِ]

- ‌[قَضَاءُ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ]

- ‌[أَحْكَامُ الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ في الصيام]

- ‌[أَحْكَامُ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ إِذَا أَفْطَرَ]

- ‌[سُنَنُ الصَّوْمِ]

- ‌[كِتَابُ الصِّيَامِ الثَّانِي]

- ‌[الصيام الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ]

- ‌[الْأَيَّامُ الْمَنْهِيُّ عَنِ الصِّيَامِ فِيهَا]

- ‌[كِتَابُ الِاعْتِكَافِ]

- ‌[كِتَابُ الْحَجِّ] [

- ‌الْجِنْسُ الْأَوَّلُ مَعْرِفَةُ وُجُوبِ الحج وَشُرُوطِهِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الْجِنْسِ الثَّانِي أَرْكَانُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي شُرُوطِ الْإِحْرَامِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي مِيقَاتِ الْمَكَانِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي مِيقَاتِ الزَّمَانِ]

- ‌[مَا يَمْنَعُ الْإِحْرَامَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِلْحَلَالِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي أَنْوَاعِ هَذَا النُّسُكِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ]

- ‌[الْخُرُوجُ إِلَى عَرَفَةَ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي أَفْعَالِ الْمُزْدَلِفَةِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الْجِنْسِ الثَّالِثِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الْإِحْصَارِ في الحج]

- ‌[الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ جَزَاءِ الصَّيْدِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى وَحُكْمُ الْحَالِقِ رَأْسَهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَلْقِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي كَفَّارَةِ الْمُتَمَتِّعِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي الْحَجِّ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي فَوَاتِ الْحَجِّ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الْكَفَّارَاتِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا في الحج]

- ‌ الْقَوْلُ فِي الْهَدْيِ

- ‌[كِتَابُ الْجِهَادِ]

- ‌[الْجُمْلَةُ الْأُولَى فِي مَعْرِفَةِ أَرْكَانِ الْحَرْبِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الجهاد]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الَّذِينَ يُحَارَبُونَ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَجُوزُ مِنَ النِّكَايَةِ بِالْعَدُوِّ]

- ‌[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي شَرْطِ الْحَرْبِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي مَعْرِفَةِ الْعَدَدِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ الْفِرَارُ عَنْهُمْ]

- ‌[الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي جَوَازِ الْمُهَادِنَةِ]

- ‌[الْفَصْلُ السَّابِعُ لِمَاذَا يُحَارَبُونَ]

- ‌ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حُكْمِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ الْأَنْفَالِ]

- ‌[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي حُكْمِ مَا وُجِدَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْكُفَّارِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي حُكْمِ مَا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْأَرْضِ عَنْوَةً]

- ‌[الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي قِسْمَةِ الْفَيْءِ]

- ‌[الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي الْجِزْيَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْأَيْمَانِ] [

- ‌الْجُمْلَةُ الْأُولَى فِي مَعْرِفَةِ ضُرُوبِ الْأَيْمَانِ وَأَحْكَامِهَا] [

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَيْمَانِ الْمُبَاحَةِ وَتَمْيِيزِهَا مِنْ غَيْرِهَا]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الْأَيْمَانِ اللَّغْوِيَّةِ وَالْمُنْعَقِدَةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَيْمَانِ الَّتِي تَرْفَعُهَا الْكَفَّارَةُ وَالَّتِي لَا تَرْفَعُهَا]

- ‌[الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ الرَّافِعَةِ لِلْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ وَأَحْكَامِهَا]

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ النَّظَرُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي شُرُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْيَمِينِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ النَّظَرُ فِي الْكَفَّارَاتِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مُوجِبِ الْحِنْثِ وَشُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي رَافِعِ الْحِنْثِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ مَتَى تَرْفَعُ الْكَفَّارَةُ الْحِنْثَ وَكَمْ تَرْفَعُ]

- ‌[كِتَابُ النُّذُورِ] [

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي أَصْنَافِ النُّذُورِ]

- ‌الْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا يَلْزَمُ مِنَ النُّذُورِ وَمَا لَا يَلْزَمُ

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يَلْزَمُ عَنْ النذر وَأَحْكَام ذلك]

- ‌[المسألة الأولى الْوَاجِبُ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ]

- ‌[كِتَابُ الضَّحَايَا] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حُكْمِ الضَّحَايَا وَمَنِ الْمُخَاطَبُ بِهَا]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي أَنْوَاعِ الضَّحَايَا وَصِفَاتِهَا وَأَسْنَانِهَا وَعَدَدِهَا]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي أَحْكَامِ الذَّبْحِ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي أَحْكَامِ لُحُومِ الضَّحَايَا]

- ‌[كِتَابُ الذَّبَائِحِ] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ مَحَلِّ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي الذَّكَاةِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا تَكُونُ بِهِ الذَّكَاةُ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي شُرُوطِ الذَّكَاةِ]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ فِيمَنْ تَجُوزُ تَذْكِيَتُهُ وَمَنْ لَا تَجُوزُ]

الفصل: ‌[القول في أنواع هذا النسك]

عَبَّاسٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَكَحَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ» . خَرَّجَهُ أَهْلُ الصِّحَاحِ، إِلَّا أَنَّهُ عَارَضَتْهُ آثَارٌ كَثِيرَةٌ «. عَنْ مَيْمُونَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ» . رَوَيْتُ عَنْهَا مِنْ طُرُقٍ شَتَّى عَنْ أَبِي رَافِعٍ وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَهُوَ مَوْلَاهَا، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ الْأَصَمِّ.

وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنْ يُحْمَلَ الْوَاحِدُ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ، وَالثَّانِي عَلَى الْجَوَازِ. فَهَذِهِ هِيَ مَشْهُورَاتُ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ.

وَأَمَّا مَتَى يَحِلُّ فَسَنَذْكُرُهُ عِنْدَ ذَكْرِنَا أَفْعَالَ الْحَجِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَمِرَ يَحِلُّ إِذَا طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَاجِّ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ. وَإِذْ قَدْ قُلْنَا فِي تُرُوكِ الْمُحْرِمِ فَلْنَقُلْ فِي أَفْعَالِهِ.

[الْقَوْلُ فِي أَنْوَاعِ هَذَا النُّسُكِ]

ِ وَالْمُحْرِمُونَ إِمَّا مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ، أَوْ مُحْرِمٌ بِحَجٍّ فَرْدٍ، أَوْ جَامِعٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَهَذَانِ ضَرْبَانِ: إِمَّا مُتَمَتِّعٌ، وَإِمَّا قَارِنٌ. فَيَنْبَغِي أَوَّلًا أَنْ نُجَرِّدَ أَصْنَافَ هَذِهِ الْمَنَاسِكِ الثَّلَاثَ، ثُمَّ نَقُولُ مَا يَفْعَلُ الْمُحْرِمُ فِي كُلِّهَا، وَمَا يَخُصُّ وَاحِدًا وَاحِدًا مِنْهَا إِنْ كَانَ هُنَالِكَ مَا يَخُصُّ، وَكَذَلِكَ نَفْعَلُ فِيمَا بَعْدَ الْإِحْرَامُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْقَوْلُ فِي شَرْحِ أَنْوَاعِ هَذِهِ الْمَنَاسِكِ فَنَقُولُ: إِنَّ الْإِفْرَادَ هُوَ مَا يَتَعَرَّى عَنْ صِفَاتِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ، فَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ نَبْدَأَ أَوَّلًا بِصِفَةِ التَّمَتُّعِ، ثُمَّ نُرْدِفُ ذَلِكَ بِصِفَةِ الْقِرَانِ.

الْقَوْلُ فِي التَّمَتُّعِ

فَنَقُولُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ النُّسُكِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] هُوَ أَنْ يُهِلَّ الرَّجُلُ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنَ الْمِيقَاتِ، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ مَسْكَنُهُ خَارِجًا عَنِ الْحَرَمِ، ثُمَّ يَأْتِي حَتَّى يَصِلَ الْبَيْتَ فَيَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ فِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ بِعَيْنِهَا. ثُمَّ يُحِلَّ بِمَكَّةَ، ثُمَّ يُنْشِئُ الْحَجَّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ بِعَيْنِهِ. وَفِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ بِعَيْنِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى بَلَدِهِ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُوَ مُتَمَتِّعٌ، وَإِنْ عَادَ إِلَى بَلَدِهِ وَلَمْ يَحُجَّ ; أَيْ عَلَيْهِ هَدْيُ الْمُتَمَتِّعِ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: عُمْرَةٌ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مُتْعَةٌ.

ص: 97

وَقَالَ طَاوُسٌ: مَنِ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى الْحَجَّ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ - فَإِنَّهُ مُتَمَتِّعٌ.

وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَكِّيِّ هَلْ يَقَعُ مِنْهُ التَّمَتُّعُ؟ أَمْ لَا يَقَعُ؟ وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهُ يَقَعُ مِنْهُ - اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] . وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ هُوَ حَاضِرُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ، فَقَالَ مَالِكٌ: حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَذِي طُوَى، وَمَا كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ مَكَّةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُمْ أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ، فَمَنْ دُونَهُمْ إِلَى مَكَّةَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِمِصْرَ: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ لَيْلَتَانِ، وَهُوَ أَكْمَلُ الْمَوَاقِيتِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: مَنْ كَانَ سَاكِنَ الْحَرَمِ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ فَقَطْ.

وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: إِنَّ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَقَعُ مِنْهُمُ التَّمَتُّعُ، وَكَرِهَ ذَلِكَ مَالِكٌ. وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ اخْتِلَافُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْمُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ، وَلِذَلِكَ لَا يُشَكُّ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ هُمْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَا لَا يُشَكُّ أَنَّ مَنْ خَارَجَ الْمَوَاقِيتِ لَيْسَ مِنْهُمْ.

فَهَذَا هُوَ نَوْعُ التَّمَتُّعِ الْمَشْهُورُ، وَمَعْنَى التَّمَتُّعِ أَنَّهُ تَمَتُّعٌ بِتَحَلُّلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ وَسُقُوطُ السَّفَرِ عَنْهُ مَرَّةً ثَانِيَةً إِلَى النُّسُكِ الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْحَجُّ. وَهُمَا نَوْعَانِ مِنَ التَّمَتُّعِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمَا:

أَحَدُهُمَا: فَسْخُ الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ، وَهُوَ تَحْوِيلُ النِّيَّةِ مِنَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ: فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ مِنَ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ. وَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُدُ.

وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ عَامَ حَجَّ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:«لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» . وَأَمْرُهُ لِمَنْ لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنْ يَفْسَخَ إِهْلَالَهُ فِي الْعُمْرَةِ، وَبِهَذَا تَمَسَّكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ.

وَالْجُمْهُورُ رَأَوْا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْخُصُوصِ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَدَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:«قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَسْخٌ لَنَا خَاصَّةً؟ أَمْ لِمَنْ بَعْدَنَا؟ قَالَ: لَنَا خَاصَّةً» .

ص: 98

وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَهْلِ الظَّاهِرِ صِحَّةً يُعَارَضُ بِهَا الْعَمَلُ الْمُتَقَدِّمُ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَا أَنْهَى عَنْهُمَا وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا: مُتْعَةُ النِّسَاءِ، وَمُتْعَةُ الْحَجِّ» . وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: مُتْعَةُ الْحَجِّ كَانَتْ لَنَا وَلَيْسَتْ لَكُمْ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: مَا كَانَ لِأَحَدٍ بَعْدَنَا أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ، ثُمَّ يَفْسَخُهُ فِي عُمْرَةٍ.

هَذَا كُلُّهُ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . وَالظَّاهِرِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ اتِّبَاعُ فِعْلِ الصَّحَابَةِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَوْ سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ عَلَى أَنَّهُ خَاصٌّ. فَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ هَلْ فِعْلُ الصَّحَابَةِ مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ؟ أَوْ عَلَى الْخُصُوصِ؟

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ التَّمَتُّعِ فَهُوَ مَا كَانَ يَذْهَبُ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ أَنَّ التَّمَتُّعَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُوَ تَمَتُّعُ الْمُحْصَرِ بِمَرَضٍ أَوْ عَدُوٍّ، وَذَلِكَ إِذَا خَرَجَ الرَّجُلُ حَاجًّا فَحَبَسَهُ عَدُوٌّ أَوْ أَمْرٌ تَعَذَّرَ بِهِ عَلَيْهِ الْحَجُّ حَتَّى تَذْهَبَ أَيَّامُ الْحَجِّ، فَيَأْتِي الْبَيْتَ، فَيَطُوفُ وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيُحِلُّ، ثُمَّ يَتَمَتَّعُ بِحَلِّهِ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ، ثُمَّ يَحُجُّ وَيَهْدِيَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ يَكُونُ التَّمَتُّعُ الْمَشْهُورُ إِجْمَاعًا. وَشَذَّ طَاوُسٌ أَيْضًا فَقَالَ: إِنَّ الْمَكِّيَّ إِذَا تَمَتَّعَ مِنْ بَلَدٍ غَيْرِ مَكَّةَ كَانَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ.

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ أَنْشَأَ عُمْرَةً فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ عَمِلَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ - فَقَالَ مَالِكٌ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي حَلَّ فِيهِ؛ فَإِنْ كَانَ حَلَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ. وَبِقَرِيبٍ مِنْهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ، إِلَّا أَنَّ الثَّوْرِيَّ اشْتَرَطَ أَنْ يُوقِعَ طَوَافَهُ كُلَّهُ فِي شَوَّالٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فِي رَمَضَانَ، وَأَرْبَعَةً فِي شَوَّالٍ - كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَإِنْ كَانَ عَكْسَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فِي رَمَضَانَ وَثَلَاثَةً فِي شَوَّالٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: إِذَا دَخَلَ الْعُمْرَةَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَسَوَاءٌ طَافَ لَهَا فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، أَوْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ - لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا.

وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: هَلْ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِإِيقَاعِ إِحْرَامِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَطْ؟ أَمْ بِإِيقَاعِ الطَّوَافِ مَعَهُ؟ ثُمَّ إِنْ كَانَ بِإِيقَاعِ الطَّوَافِ مَعَهُ فَهَلْ بِإِيقَاعِهِ كُلِّهِ؟ أَمْ أَكْثَرِهِ؟ فَأَبُو ثَوْرٍ يَقُولُ: لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا إِلَّا بِإِيقَاعِ الْإِحْرَامِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ بِالْإِحْرَامِ تَنْعَقِدُ الْعُمْرَةُ. وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: الطَّوَافُ هُوَ أَعْظَمُ أَرْكَانِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بِهِ مُتَمَتِّعًا. فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مَنْ أَوْقَعَ بَعْضَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَمَنْ أَوْقَعَهَا كُلَّهَا. وَشُرُوطُ التَّمَتُّعِ عِنْدَ مَالِكٍ سِتَّةٌ:

ص: 99

أَحَدُهَا: أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ.

وَالرَّابِعُ: أَنْ يُقَدِّمَ الْعُمْرَةَ عَلَى الْحَجِّ.

وَالْخَامِسُ: أَنْ يُنْشِئَ الْحَجَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعُمْرَةِ وَإِحْلَالِهِ مِنْهَا.

وَالسَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ وَطَنُهُ غَيْرَ مَكَّةَ.

فَهَذِهِ هِيَ صُورَةُ التَّمَتُّعِ، وَالِاخْتِلَافُ الْمَشْهُورِ فِيهِ وَالِاتِّفَاقُ.

الْقَوْلُ فِي الْقَارِنِ وَأَمَّا الْقِرَانُ فَهُوَ أَنْ يُهِلَّ بِالنُّسُكَيْنِ مَعًا، أَوْ يُهِلَّ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، ثُمَّ يُرْدِفَ ذَلِكَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يُهِلَّ مِنَ الْعُمْرَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ لَهُ فِيهِ، فَقِيلَ: ذَلِكَ لَهُ مَا لَمْ يَشْرَعْ فِي الطَّوَافِ وَلَوْ شَوْطًا وَاحِدًا. وَقِيلَ: مَا لَمْ يَطُفْ وَيَرْكَعْ، وَيُكْرَهْ بَعْدَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ الرُّكُوعِ، فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ. وَقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِ الْعُمْرَةِ مِنْ طَوَافٍ أَوْ سَعْيٍ، مَا خَلَا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ إِلَّا الْحِلَاقُ - فَإِنَّهُ لَيْسَ بِقَارِنٍ. وَالْقَارِنُ الَّذِي يَلْزَمُهُ هَدْيُ الْمُتَمَتِّعِ هُوَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنْ غَيْرِ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، إِلَّا ابْنَ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، فَإِنَّ الْقَارِنَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ عِنْدَهُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ.

وَأَمَّا الْإِفْرَادُ فَهُوَ مَا تَعَرَّى مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَهُوَ أَلَّا يَكُونَ مُتَمَتِّعًا وَلَا قَارِنًا، بَلْ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ فَقَطْ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيٌّ أَفْضَلُ؟ هَلِ الْإِفْرَادُ؟ أَوِ الْقِرَانُ؟ أَوِ التَّمَتُّعُ؟

وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا، وَرُوِيَ أَنَّهُ تَمَتَّعَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا. فَاخْتَارَ مَالِكٌ الْإِفْرَادَ، وَاعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ:«خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ» . وَرَوَاهُ عَنْ عَائِشَةَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَرُوِيَ

ص: 100

الْإِفْرَادُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى مُتَوَاتِرَةٍ صِحَاحٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ.

وَالَّذِينَ رَأَوْا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَمَتِّعًا احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عَامِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى، وَسَاقَ الْهَدْيَ مَعَهُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ» . وَهُوَ مَذْهَبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ. وَاخْتُلِفَ عَنْ عَائِشَةَ فِي التَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ.

وَاعْتَمَدَ مَنْ رَأَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ قَارِنًا أَحَادِيثَ كَثِيرَةً، مِنْهَا حَدِيثُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِوَادِي الْعَقِيقِ: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: أَهِلَّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ، وَقُلْ: عُمْرَةٌ فِي حِجَّةٍ» خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَحَدِيثُ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: " شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَعُثْمَانَ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ، وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحِجَّةٍ، وَقَالَ: مَا كُنْتُ لِأَدَعَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِ أَحَدٍ " خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ.

وَحَدِيثُ أَنَسٍ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحِجَّةً» ". وَحَدِيثُ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا» .

وَاحْتَجُّوا، فَقَالُوا: وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ صلى الله عليه وسلم هَدْيٌ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْقِرَانِ مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ، وَيَكُونَ مَعَهُ هَدْيٌ وَلَا يَكُونَ قَارِنًا.

وَحَدِيثُ مَالِكٍ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ عَنْ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي، وَلَبَّدْتُ رَأْسِي - فَلَا أُحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ هَدْيِي» . وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا أَشُكُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا، وَالتَّمَتُّعُ أَحَبُّ إِلَيَّ. وَاحْتَجَّ فِي اخْتِيَارِهِ التَّمَتُّعَ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ، وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» .

ص: 101

وَاحْتَجَّ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى مَنْ رَأَى أَنَّ الْإِفْرَادَ الْأَفْضَلُ وَأَنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ رُخْصَةٌ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ فِيهِمَا الدَّمُ.

وَإِذْ قُلْنَا فِي وُجُوبِ هَذَا النُّسُكِ، وَعَلَى مَنْ يَجِبُ، وَمَا شُرُوطُ وُجُوبِهِ، وَمَتَى يَجِبُ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَجِبُ، وَمِنْ أَيِّ مَكَانٍ يَجِبُ -قُلْنَا بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ بِمَا هُوَ مُحْرِمٌ، ثُمَّ قُلْنَا أَيْضًا فِي أَنْوَاعِ هَذَا النُّسُكِ، وَيَجِبُ أَنْ نَقُولَ فِي أَوَّلِ أَفْعَالِ الْحَاجِّ أَوِ الْمُعْتَمِرِ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ.

الْقَوْلُ فِي الْإِحْرَامِ وَاتَّفَقَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لِلْإِهْلَالِ سُنَّةٌ، وَأَنَّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُحْرِمِ حَتَّى قَالَ ابْنُ نَوَّارٍ: إِنَّ هَذَا الْغُسْلَ لِلْإِهْلَالِ عِنْدَ مَالِكٍ أَوْكَدُ مِنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هُوَ وَاجِبٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ: يُجْزِئُ مِنْهُ الْوُضُوءُ.

وَحُجَّةُ أَهْلِ الظَّاهِرِ مُرْسَلُ مَالِكٍ مِنْ «حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ أَنَّهَا وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالْبَيْدَاءِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: مُرْهَا، فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لْتُهِلَّ» . وَالْأَمْرُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْوُجُوبِ.

وَعُمْدَةُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ حَتَّى يَثْبُتَ الْوُجُوبُ بِأَمْرٍ لَا مَدْفَعَ فِيهِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَغْتَسِلُ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِدُخُولِهِ مَكَّةَ، وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَمَالِكٌ يَرَى هَذِهِ الِاغْتِسَالَاتِ الثَّلَاثَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُحْرِمِ.

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِنْيَةٍ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُجْزِئُ النِّيَّةُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ التَّلْبِيَةِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: تُجْزِئُ النِّيَّةُ مِنْ غَيْرِ التَّلْبِيَةِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: التَّلْبِيَةُ فِي الْحَجِّ كَالتَّكْبِيرَةِ فِي الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ، إِلَّا أَنَّهُ يُجْزِئُ عِنْدَهُ كُلُّ لَفْظٍ يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ، كَمَا يُجْزِئُ عِنْدَهُ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ كُلُّ لَفْظٍ يَقُومُ مَقَامَ التَّكْبِيرِ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ.

وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لَا شَرِيكَ لَكَ» . وَهِيَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَصَحُّ سَنَدًا.

وَاخْتَلَفُوا فِي هَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ بِهَذَا اللَّفْظِ؟ أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هِيَ وَاجِبَةٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي اسْتِحْبَابِ هَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ أَوْ فِي تَبْدِيلِهِ.

وَأَوْجَبَ أَهْلُ الظَّاهِرِ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ؛ لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ

ص: 102

«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَأَمَرَنِي أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي وَمَنْ مَعِي أَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ وَبِالْإِهْلَالِ» .

وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ تَلْبِيَةَ الْمَرْأَةَ فِيمَا حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ هُوَ أَنْ تُسْمِعَ نَفْسَهَا بِالْقَوْلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرْفَعُ الْمُحْرِمُ صَوْتَهُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ، بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يُسْمِعَ مَنْ يَلِيهِ، إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ مِنًى فَإِنَّهُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِيهِمَا.

وَاسْتَحَبَّ الْجُمْهُورُ رَفْعَ الصَّوْتِ عِنْدَ الْتِقَاءِ الرِّفَاقِ، وَعِنْدَ الْإِطْلَالِ عَلَى شَرَفٍ مِنَ الْأَرْضِ. وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَبْلُغُونَ الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحَّ حُلُوقُهُمْ. وَكَانَ مَالِكٌ لَا يَرَى التَّلْبِيَةَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَيَرَى عَلَى تَارِكِهَا دَمًا، وَكَانَ غَيْرُهُ يَرَاهَا مِنْ أَرْكَانِهِ.

وَحُجَّةُ مَنْ رَآهَا وَاجِبَةً أَنَّ أَفْعَالَهُ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَتْ بَيَانًا لِوَاجِبٍ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوُجُوبِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» . وَبِهَذَا يَحْتَجُّ مَنْ أَوْجَبَ لَفْظَهُ فِيهَا فَقَطْ.

وَمَنْ لَمْ يَرَ وُجُوبَ لَفْظِهِ فَاعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ: «أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» - " فَذَكَرَ التَّلْبِيَةَ الَّتِي فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ. وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: «وَالنَّاسُ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ: لَبَّيْكَ ذَا الْمَعَارِجِ، وَنَحْوَهُ مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّبِيُّ يَسْمَعُ وَلَا يَقُولُ شَيْئًا» . وَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ فِي التَّلْبِيَةِ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ.

وَاسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْمُحْرِمِ بِالتَّلْبِيَةِ بِأَثَرِ صَلَاةٍ يُصَلِّيهَا، فَكَانَ مَالِكٌ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ بِأَثَرِ نَافِلَةٍ؛ لِمَا رُوِيَ مِنْ مُرْسَلِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ أَهَلَّ» .

وَاخْتَلَفَتِ الْآثَارُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَحْرَمَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحُجَّتِهِ مِنْ أَقْطَارِ ذِي الْحُلَيْفَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: مِنْ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى فِيهِ.

ص: 103

وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا أَحْرَمَ حِينَ أَطَلَّ عَلَى الْبَيْدَاءِ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ.

وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: كُلٌّ حَدَّثَ لَا عَنْ أَوَّلِ إِهْلَالِهِ عليه الصلاة والسلام بَلْ عَنْ أَوَّلِ إِهْلَالٍ سَمِعَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ مُتَسَابِقِينَ. فَعَلَى هَذَا، لَا يَكُونُ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ، وَيَكُونُ الْإِهْلَالُ إِثْرَ الصَّلَاةِ.

وَأَجْمَعَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ الْمَكِّيَّ لَا يَلْزَمُهُ الْإِهْلَالُ حَتَّى إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى؛ لِيَتَّصِلَ لَهُ عَمَلُ الْحَجِّ. وَعُمْدَتُهُمْ «مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ هُنَا أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدٌ يَفْعَلُهَا، فَذَكَرَ مِنْهَا: وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلَالَ، وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ إِلَى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ! فَأَجَابَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَمَّا الْإِهْلَالُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ» . يُرِيدُ حَتَّى يَتَّصِلَ لَهُ عَمَلُ الْحَجِّ. وَرَوَى مَالِكٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ يُهِلُّوا إِذَا رَأَوُا الْهِلَالَ.

وَلَا خِلَافَ عِنْدِهِمْ أَنَّ الْمَكِّيَّ لَا يُهِلُّ إِلَّا مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ إِذَا كَانَ حَاجًّا، وَأَمَّا إِذَا كَانَ مُعْتَمِرًا فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ، ثُمَّ يُحْرِمَ مِنْهُ؛ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، كَمَا يَجْمَعُ الْحَاجُّ، أَعْنِي؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ إِلَى عَرَفَةَ وَهُوَ حِلٌّ) وَبِالْجُمْلَةِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا سُنَّةُ الْمُعْتَمِرِ. وَاخْتَلَفُوا إِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَقَالَ قَوْمٌ: يُجْزِيهِ، وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْقَاسِمِ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُجْزِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَأَشْهَبَ.

وَأَمَّا مَتَى يَقْطَعُ الْمُحْرِمُ التَّلْبِيَةَ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَرَوَى مَالِكٌ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه كَانَ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: وَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا. وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَتِ الْأَئِمَّةُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - يَقْطَعُونَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ.

قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ. وَقَالَ جُمْهُورُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو عُبَيْدٍ وَالطَّبَرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حُيَيٍّ: إِنَّ

ص: 104