الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمَا يَقْضِيَانِ فَقَطْ وَلَا إِطْعَامَ عَلَيْهِمَا، وَهُوَ مُقَابِلُ الْأَوَّلِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا يَقْضِيَانِ وَيُطْعِمَانِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَامِلَ تَقْضِي وَلَا تُطْعِمُ، وَالْمُرْضِعُ تَقْضِي وَتُطْعِمُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ شَبَهِهِمَا بَيْنَ الَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ وَبَيْنَ الْمَرِيضِ، فَمَنْ شَبَّهَهُمَا بِالْمَرِيضِ قَالَ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ فَقَطْ، وَمَنْ شَبَّهَهُمَا بِالَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ قَالَ: عَلَيْهِمَا الْإِطْعَامُ فَقَطْ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] الْآيَةَ.
وَأَمَّا مَنْ جَمَعَ عَلَيْهِمَا الْأَمْرَيْنِ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ رَأَى فِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ شَبَهًا فَقَالَ: عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِمَا مِنْ شَبَهِ الْمَرِيضِ، وَعَلَيْهِمَا الْفِدْيَةُ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِمَا مِنْ شَبَهِ الَّذِينَ يُجْهِدُهُمُ الصِّيَامُ، وَشَبَهِ أَنْ يَكُونَ شَبَّهَهُمَا بِالْمُفْطِرِ الصَّحِيحِ لَكِنْ يَضْعُفُ هَذَا، فَإِنَّ الصَّحِيحَ لَا يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ.
وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ أَلْحَقَ الْحَامِلَ بِالْمَرِيضِ، وَأَبْقَى حُكْمَ الْمُرْضِعِ مَجْمُوعًا مِنْ حُكْمِ الْمَرِيضِ وَحُكْمِ الَّذِي يُجْهِدُهُ الصَّوْمُ، أَوْ شَبَّهَهَا بِالصَّحِيحِ.
وَمَنْ أَفْرَدَ لَهُمَا أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ أَوْلَى - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مِمَّنْ جَمَعَ، كَمَا أَنَّ مَنْ أَفْرَدَهُمَا بِالْقَضَاءِ أَوْلَى مِمَّنْ أَفْرَدَهُمَا بِالْإِطْعَامِ فَقَطْ لِكَوْنِ الْقِرَاءَةِ غَيْرَ مُتَوَاتِرَةٍ فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ بَيِّنٌ.
وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ اللَّذَانِ لَا يَقْدِرَانِ عَلَى الصِّيَامِ: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لَهُمَا أَنْ يُفْطِرَا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا عَلَيْهِمَا إِذَا أَفْطَرَا، فَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِمَا الْإِطْعَامُ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ عَلَيْهِمَا إِطْعَامٌ. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَبِالثَّانِي قَالَ مَالِكٌ إِلَّا أَنَّهُ اسْتَحَبَّهُ.
وَأَكْثَرُ مَنْ رَأَى الْإِطْعَامَ عَلَيْهِمَا يَقُولُ: مُدٌّ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَقِيلَ: إِنْ حَفَنَ حَفَنَاتٍ كَمَا كَانَ أَنَسٌ يَصْنَعُ أَجْزَأَهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا - أَعْنِي: قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184]- فَمَنْ أَوْجَبَ الْعَمَلَ بِالْقِرَاءَةِ الَّتِي لَمْ تَثْبُتْ فِي الْمُصْحَفِ إِذَا وَرَدَتْ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ الْعُدُولِ قَالَ: الشَّيْخُ مِنْهُمْ، وَمَنْ لَمْ يُوجِبْ بِهَا عَمَلًا جَعَلَ حُكْمَهُ حُكْمَ الْمَرِيضِ الَّذِي يَتَمَادَى بِهِ الْمَرَضُ حَتَّى يَمُوْتَ.
فَهَذِهِ هِيَ أَحْكَامُ الصِّنْفِ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَجُوزُ لَهُمُ الْفِطْرُ - أَعْنِي: أَحْكَامَهُمُ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي أَكْثَرُهَا مَنْطُوقٌ بِهِ أَوْ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الصِّنْفِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ.
[أَحْكَامُ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ إِذَا أَفْطَرَ]
وَأَمَّا النَّظَرُ فِي أَحْكَامِ الصِّنْفِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ إِذَا أَفْطَرَ: فَإِنَّ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ يَتَوَجَّهُ
إِلَى مَنْ يُفْطِرُ بِجِمَاعٍ، وَإِلَى مَنْ يُفْطِرُ بِغَيْرِ جِمَاعٍ، وَإِلَى مَنْ يُفْطِرُ بِأَمْرٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وَإِلَى مَنْ يُفْطِرُ بِأَمْرٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ - أَعْنِي: بِشُبْهَةٍ أَوْ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ - وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى طَرِيقِ السَّهْوِ، أَوْ طَرِيقِ الْعَمْدِ، أَوْ طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ، أَوْ طَرِيقِ الْإِكْرَاهِ.
أَمَّا مَنْ أَفْطَرَ بِجِمَاعٍ مُتَعَمِّدًا فِي رَمَضَانَ، فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ:«جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا أَهْلَكَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ بِهِ رَقَبَةً؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ الشَّهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ بِهِ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا، ثُمَّ جَلَسَ فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ فَقَالَ: تَصَدَّقْ بِهَذَا، فَقَالَ: أَعْلَى أَفْقَرَ مِنِّي؟ فَمَا بَيْنَ لَابَّتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا، قَالَ: فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» .
وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ:
مِنْهَا: هَلِ الْإِفْطَارُ مُتَعَمَّدًا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِفْطَارِ بِالْجِمَاعِ فِي الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ أَمْ لَا؟
وَمِنْهَا: إِذَا جَامَعَ سَاهِيًا مَاذَا عَلَيْهِ؟
وَمِنْهَا: مَاذَا عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ مُكْرَهَةً؟
وَمِنْهَا: هَلِ الْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ فِيهِ مُتَرَتِّبَةٌ أَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ؟
وَمِنْهَا: كَمِ الْمِقْدَارُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ إِذَا كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ؟
وَمِنْهَا: هَلِ الْكَفَّارَةُ مُتَكَرِّرَةٌ بِتَكَرُّرِ الْجِمَاعِ أَمْ لَا؟
وَمِنْهَا: إِذَا لَزِمَهُ الْإِطْعَامُ وَكَانَ مُعْسِرًا هَلْ يَلْزَمُهُ الْإِطْعَامُ إِذَا أَثْرَى أَمْ لَا؟
وَشَذَّ قَوْمٌ فَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى الْمُفْطِرِ عَمْدًا بِالْجِمَاعِ إِلَّا الْقَضَاءَ فَقَطْ، إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ عَزْمَةً فِي هَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَزْمَةً لَوَجَبَ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْإِعْتَاقَ أَوِ الْإِطْعَامَ أَنْ يَصُومَ، وَلَا بُدَّ إِذَا كَانَ صَحِيحًا عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ عَزْمَةً لَأَعْلَمَهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ إِذَا صَحَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الصِّيَامُ أَنْ لَوْ كَانَ مَرِيضًا.
وَكَذَلِكَ شَذَّ قَوْمٌ أَيْضًا فَقَالُوا: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْكَفَّارَةُ فَقَطْ؛ إِذْ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْقَضَاءِ، وَالْقَضَاءُ الْوَاجِبُ بِالْكِتَابِ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ أَفْطَرَ مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الصَّوْمُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ قَبْلُ فِي ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فَلَيْسَ فِي إِيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ نَصٌّ، فَيَلْحَقُ فِي قَضَاءِ الْمُتَعَمِّدِ الْخِلَافُ الَّذِي لَحِقَ فِي قَضَاءِ تَارِكِ الصَّلَاةِ عَمْدًا حَتَّى خُرُوجِ وَقْتِهَا، إِلَّا أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ شَاذٌّ.
وَأَمَّا الْخِلَافُ الْمَشْهُورُ فَهُوَ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي عَدَّدْنَاهَا قَبْلُ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: وَهِيَ هَلْ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْإِفْطَارِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مُتَعَمَّدًا؟ فَإِنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ وَأَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ وَالثَّوْرِيَّ وَجَمَاعَةً ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَلْزَمُ فِي الْإِفْطَارِ مِنَ الْجِمَاعِ فَقَطْ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي جَوَازِ قِيَاسِ الْمُفْطِرِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عَلَى الْمُفْطِرِ بِالْجِمَاعِ، فَمَنْ رَأَى أَنَّ شَبَهَهُمَا فِيهِ وَاحِدٌ وَهُوَ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الصَّوْمِ جَعَلَ حُكْمَهُمَا وَاحِدًا.
وَمَنْ رَأَى أَنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الْكَفَّارَةُ عِقَابًا لِانْتِهَاكِ الْحُرْمَةِ فَإِنَّهَا أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِلْجِمَاعِ مِنْهَا لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعِقَابَ الْمَقْصُودَ بِهِ الرَّدْعُ، وَالْعِقَابُ الْأَكْبَرُ قَدْ يُوضَعُ لِمَا إِلَيْهِ النَّفْسُ أَمْيَلُ، وَهُوَ لَهَا أَغْلَبُ مِنَ الْجِنَايَاتِ، وَإِنْ كَانَتِ الْجِنَايَةُ مُتَقَارِبَةً; إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْتِزَامَ النَّاسِ الشَّرَائِعَ، وَأَنْ يَكُونُوا أَخْيَارًا عُدُولًا كَمَا قَالَ تَعَالَى:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] قَالَ: هَذِهِ الْكَفَّارَةُ الْمُغَلَّظَةُ خَاصَّةٌ بِالْجِمَاعِ، وَهَذَا إِذَا كَانَ مِمَّنْ يَرَى الْقِيَاسَ.
وَأَمَّا مَنْ لَا يَرَى الْقِيَاسَ فَأَمْرُهُ بَيِّنٌ أَنَّهُ لَيْسَ يُعَدَّى حُكْمَ الْجِمَاعِ إِلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
وَأَمَّا مَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْكَفَّارَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ ; لِأَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي فَأَفْطَرَ هُوَ مُجْمَلٌ، وَالْمُجْمَلُ لَيْسَ لَهُ عُمُومٌ فَيُؤْخَذُ بِهِ، لَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ عَلَى أَنَّ الرَّاوِيَ كَانَ يَرَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ كَانَتْ لِمَوْضِعِ الْإِفْطَارِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا عَبَّرَ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَذَكَرَ النَّوْعَ مِنَ الْفِطْرِ الَّذِي أَفْطَرَ بِهِ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ إِذَا جَامَعَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ -: فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ يَقُولَانِ: لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ أَحْمَدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي قَضَاءِ النَّاسِي مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْأَثَرِ فِي ذَلِكَ لِلْقِيَاسِ.
أَمَّا الْقِيَاسُ: فَهُوَ تَشْبِيهُ نَاسِي الصَّوْمِ بِنَاسِي الصَّلَاةِ. فَمَنْ شَبَّهَهُ بِنَاسِي الصَّلَاةِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ كَوُجُوبِهِ بِالنَّصِّ عَلَى نَاسِي الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمُعَارِضُ بِظَاهِرِهِ لِهَذَا الْقِيَاسِ: فَهُوَ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ
اللَّهُ وَسَقَاهُ» . وَهَذَا الْأَثَرُ يَشْهَدُ لَهُ عُمُومُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» . وَمِنْ هَذَا الْبَابِ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَنْ ظَنَّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَرَبَتْ فَأَفْطَرَ ثُمَّ ظَهَرَتِ الشَّمْسُ بَعْدَ ذَلِكَ، هَلْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ أَمْ لَا؟ وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا مُخْطِئٌ، وَالْمُخْطِئُ وَالنَّاسِي حُكْمُهُمَا وَاحِدٌ، فَكَيْفَمَا قُلْنَا فَتَأْثِيرُ النِّسْيَانِ فِي إِسْقَاطِ الْقَضَاءِ بَيِّنٌ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -، وَذَلِكَ أَنَّا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْأَصْلَ هُوَ أَنْ لَا يَلْزَمَ النَّاسِيَ قَضَاءٌ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ النِّسْيَانُ لَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ فِي الصَّوْمِ، إِذْ لَا دَلِيلَ هَاهُنَا عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَمْرِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْأَصْلَ هُوَ إِيجَابُ الْقَضَاءِ حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى رَفْعِهِ عَنِ النَّاسِي، فَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى رَفْعِهِ عَنِ النَّاسِي، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي اسْتَثْنَى نَاسِيَ الصَّوْمِ مِنْ نَاسِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي رُفِعَ عَنْ تَارِكِهَا الْحَرَجُ بِالنَّصِّ هُوَ قِيَاسُ الصَّوْمِ عَلَى الصَّلَاةِ، لَكِنَّ إِيجَابَ الْقَضَاءِ بِالْقِيَاسِ فِيهِ ضَعْفٌ، وَإِنَّمَا الْقَضَاءُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَاجِبٌ بِأَمْرٍ مُتَجَدِّدٍ.
وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُجَامِعِ نَاسِيًا فَضَعِيفٌ، فَإِنَّ تَأْثِيرَ النِّسْيَانِ فِي إِسْقَاطِ الْعُقُوبَاتِ بَيِّنٌ فِي الشَّرْعِ، وَالْكَفَّارَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ، وَإِنَّمَا أَصَارَهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَخْذُهُمْ بِمُجْمَلِ الصِّفَةِ الْمَنْقُولَةِ فِي الْحَدِيثِ - أَعْنِي: مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا وَلَا نِسْيَانًا -، لَكِنَّ مَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى قَاتِلِ الصَّيْدِ نِسْيَانًا لَمْ يَحْفَظْ أَصْلَهُ فِي هَذَا، مَعَ أَنَّ النَّصَّ إِنَّمَا جَاءَ فِي الْمُتَعَمِّدِ، وَقَدْ كَانَ يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الظَّاهِرِ أَنْ يَأْخُذُوا بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ إِيجَابُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْعَامِدِ إِلَى أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى إِيجَابِهَا عَلَى النَّاسِي، أَوْ يَأْخُذُوا بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» حَتَّى يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى التَّخْصِيصِ، وَلَكِنْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ لَمْ يَلْزَمْ أَصْلَهُ، وَلَيْسَ فِي مُجْمَلِ مَا نُقِلَ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ حُجَّةٌ. وَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: إِنَّ تَرْكَ التَّفْصِيلِ فِي اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِنَ الشَّارِعِ بِمَنْزِلَةِ الْعُمُومِ فِي الْأَقْوَالِ فَضَعِيفٌ، فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَحْكُمْ قَطُّ إِلَّا عَلَى مُفَصَّلٍ، وَإِنَّمَا الْإِجْمَالُ فِي حَقِّنَا.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ - وَهُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا طَاوَعَتْهُ عَلَى الْجِمَاعِ -: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ وَمَالِكًا وَأَصْحَابَهُ أَوْجَبُوا عَلَيْهَا الْكَفَّارَةَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَدَاوُدُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْأَثَرِ لِلْقِيَاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَأْمُرِ الْمَرْأَةَ فِي الْحَدِيثِ بِكَفَّارَةٍ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهَا مِثْلُ الرَّجُلِ إِذْ كَانَ كِلَاهُمَا مُكَلَّفًا.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ هَلْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ مُرَتَّبَةٌ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَوْ عَلَى التَّخْيِيرِ؟ - وَأَعْنِي بِالتَّرْتِيبِ: أَنْ لَا يَنْتَقِلَ الْمُكَلَّفُ إِلَى وَاحِدٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ الْمُخَيَّرَةِ إِلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَبِالتَّخْيِيرِ: أَنْ يَفْعَلَ مِنْهَا مَا شَاءَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ عَجْزٍ عَنِ الْآخَرِ - فَإِنَّهُمْ أَيْضًا اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَسَائِرُ الْكُوفِيِّينَ: هِيَ مُرَتَّبَةٌ، فَالْعِتْقُ أَوَّلًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالصِّيَامُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَالْإِطْعَامُ. وَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ. وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِطْعَامُ أَكْثَرُ مِنَ الْعِتْقِ وَمِنَ الصِّيَامِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ تَعَارُضُ ظَوَاهِرِ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ وَالْأَقْيِسَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ الْمُتَقَدِّمِ يُوجِبُ أَنَّهَا عَلَى التَّرْتِيبِ إِذْ سَأَلَهُ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عَنِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَيْهَا مُرَتَّبًا. وَظَاهِرُ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ مِنْ:«أَنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً، أَوْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعِينَ، أَوْ يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا» أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ، إِذْ (أَوْ) إِنَّمَا يَقْتَضِي فِي لِسَانِ الْعَرَبِ التَّخْيِيرَ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِ الرَّاوِي الصَّاحِبِ، إِذْ كَانُوا أَقْعَدَ بِمَفْهُومِ الْأَحْوَالِ وَدَلَالَاتِ الْأَقْوَالِ.
وَأَمَّا الْأَقْيِسَةُ الْمُعَارِضَةُ فِي ذَلِكَ: فَتَشْبِيهُهَا تَارَةً بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَتَارَةً بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، لَكِنَّهَا أَشْبَهُ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِنْهَا بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَأَخْذُ التَّرْتِيبِ مِنْ حِكَايَةِ لَفْظِ الرَّاوِي.
وَأَمَّا اسْتِحْبَابُ مَالِكٍ الِابْتِدَاءَ بِالْإِطْعَامِ فَمُخَالِفٌ لِظَوَاهِرِ الْآثَارِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى هَذَا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّهُ رَأَى الصِّيَامَ قَدْ وَقَعَ بَدَلَهُ الْإِطْعَامُ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنَ الشَّرْعِ، وَأَِنَّهُ مُنَاسِبٌ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهِ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] وَلِذَلِكَ اسْتَحَبَّ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ أَنْ يُكَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ عَنْهُ، وَهَذَا كَأَنَّهُ مِنْ بَابِ تَرْجِيحِ الْقِيَاسِ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْأُصُولُ عَلَى الْأَثَرِ الَّذِي لَا تَشْهَدُ لَهُ الْأُصُولُ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ - وَهُوَ اخْتِلَافُهُمْ فِي مِقْدَارِ الْإِطْعَامِ -: فَإِنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَصْحَابَهُمَا قَالُوا: يُطْعِمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ مُدَّيْنِ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ صَاعٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْأَثَرِ.
أَمَّا الْقِيَاسُ: فَتَشْبِيهُ هَذِهِ الْفِدْيَةِ بِفِدْيَةِ الْأَذَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْأَثَرُ: فَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ الْكَفَّارَةِ: أَنَّ الْفَرْقَ كَانَ فِيهِ خَمْسَةَ
عَشَرَ صَاعًا، لَكِنْ لَيْسَ يَدُلُّ كَوْنُهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا عَلَى الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ إِلَّا دَلَالَةً ضَعِيفَةً، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَدَلَ الصِّيَامِ فِي هَذِهِ الْكَفَّارَةِ هُوَ هَذَا الْقَدْرُ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ - وَهِيَ تُكَرَّرُ الْكَفَّارَةِ بِتَكَرُّرِ الْإِفْطَارِ -: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى مَنْ وَطِئَ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ وَطِئَ فِي يَوْمٍ آخَرَ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً أُخْرَى.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَنْ وَطِئَ مِرَارًا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ.
وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ وَطِئَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى وَطِئَ فِي يَوْمٍ ثَانٍ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ: عَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: عَلَيْهِ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ مَا لَمْ يُكَفِّرْ عَنِ الْجِمَاعِ الْأَوَّلِ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: تَشْبِيهُ الْكَفَّارَاتِ بِالْحُدُودِ، فَمَنْ شَبَّهَهَا بِالْحُدُودِ قَالَ: كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِئُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا يَلْزَمُ الزَّانِيَ جَلْدٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ زَنَى أَلْفَ مَرَّةٍ إِذَا لَمْ يُحَدَّ لِوَاحِدٍ مِنْهَا. وَمَنْ لَمْ يُشَبِّهْهَا بِالْحُدُودِ جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَيَّامِ حُكْمًا مُنْفَرِدًا بِنَفْسِهِ فِي هَتْكِ الصَّوْمِ فِيهِ أَوْجَبَ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةً.
قَالُوا: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا نَوْعٌ مِنَ الْقُرْبَةِ، وَالْحُدُودُ زَجْرٌ مَحْضٌ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ - وَهِيَ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ إِذَا أَيْسَرَ وَكَانَ مُعْسِرًا فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ؟ : فَإِنَّ الْأَوْزَاعِيَّ قَالَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مُعْسِرًا. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَتَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُ حُكْمُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُشَبَّهَ بِالدُّيُونِ، فَيَعُودُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ فِي وَقْتِ الْإِثْرَاءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ لَبَيَّنَهُ لَهُ عليه الصلاة والسلام.
فَهَذِهِ أَحْكَامُ مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا فِي رَمَضَانَ مِمَّا أُجْمِعُ عَلَى أَنَّهُ مُفْطِرٌ.
وَأَمَّا مَنْ أَفْطَرَ مِمَّا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَإِنَّ بَعْضَ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ أَوْجَبَ فِيهِ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ، وَبَعْضُهُمْ أَوْجَبَ فِيهِ الْقَضَاءَ فَقَطْ، مِثْلُ مَنْ رَأَى الْفِطْرَ مِنَ الْحِجَامَةِ وَمِنَ الِاسْتِقَاءِ، وَمَنْ بَلَعَ الْحَصَاةَ، وَمِثْلُ الْمُسَافِرِ يُفْطِرُ أَوَّلَ يَوْمٍ يَخْرُجُ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَإِنَّ مَالِكًا أَوْجَبَ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ سَائِرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِ.
وَأَمَّا مَنْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ عَلَى مَنِ اسْتَقَاءَ فَأَبُو ثَوْرٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَسَائِرُ مَنْ يَرَى أَنَّ الِاسْتِقَاءَ مُفْطِرٌ لَا يُوجِبُونَ إِلَّا الْقَضَاءَ فَقَطْ. وَالَّذِي أَوْجَبَ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ فِي الِاحْتِجَامِ