المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الفصل الثالث في معرفة ما يجوز من النكاية بالعدو] - بداية المجتهد ونهاية المقتصد - جـ ٢

[ابن رشد الحفيد]

فهرس الكتاب

- ‌[كِتَابُ الزَّكَاةِ] [

- ‌الْجُمْلَةُ الْأُولَى فِي مَعْرِفَةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزكاة]

- ‌[الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي مَعْرِفَةِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزكاة مِنَ الْأَمْوَالِ]

- ‌[الْجُمْلَةُ الثَّالِثَةُ فِي مَعْرِفَةُ نصابِ الزكاة]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي نصاب الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي نِصَابِ الْإِبِلِ وَالْوَاجِبِ فِيهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي نِصَابِ الْبَقَرِ وَقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ]

- ‌[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي نِصَابِ الْغَنَمِ وَقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ]

- ‌[الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي نِصَابِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ]

- ‌[الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي نِصَابِ الْعُرُوضِ]

- ‌[الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ فِي وَقْتِ الزَّكَاةِ]

- ‌[الْجُمْلَةُ الْخَامِسَةُ فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ الصَّدَقَةُ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي عَدَدِ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ تَجِبُ لَهُمُ الزَّكَاةُ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي صِفَاتُ أهل الزكاة الَّتِي يَسْتَوْجِبُونَ بِهَا الصَّدَقَةَ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ قَدْرُ مَا يُعْطَى أهل الزكاة منها]

- ‌[كِتَابُ زَكَاةِ الْفِطْرِ] [

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْم زكاة الفطر]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ زكاة الفطر وَعَنْ مَنْ تَجِبُ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِمَّاذَا تَجِبُ زكاة الفطر]

- ‌[الْفَصْلُ الرَّابِعُ مَتَّى تَجِبُ زَكَاةُ الْفِطْرِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْخَامِسُ لِمَنْ تُصْرَفُ زكاة الفطر]

- ‌[كِتَابُ الصِّيَامِ] [

- ‌الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى أَنْوَاعُ الصِّيَامِ الْوَاجِبِ]

- ‌[الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي أَرْكَان الصيام]

- ‌[الرُّكْنُ الْأَوَّلُ في الصيام هو الزَّمَانُ]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّانِي في الصيام وَهُوَ الْإِمْسَاكُ]

- ‌[الرُّكْنُ الثَّالِثُ في الصيام وَهُوَ النِّيَّةُ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ وَهُوَ الْكَلَامُ فِي الْفِطْرِ وَأَحْكَامِهِ]

- ‌[قَضَاءُ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ]

- ‌[أَحْكَامُ الْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ في الصيام]

- ‌[أَحْكَامُ مَنْ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ إِذَا أَفْطَرَ]

- ‌[سُنَنُ الصَّوْمِ]

- ‌[كِتَابُ الصِّيَامِ الثَّانِي]

- ‌[الصيام الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ]

- ‌[الْأَيَّامُ الْمَنْهِيُّ عَنِ الصِّيَامِ فِيهَا]

- ‌[كِتَابُ الِاعْتِكَافِ]

- ‌[كِتَابُ الْحَجِّ] [

- ‌الْجِنْسُ الْأَوَّلُ مَعْرِفَةُ وُجُوبِ الحج وَشُرُوطِهِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الْجِنْسِ الثَّانِي أَرْكَانُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي شُرُوطِ الْإِحْرَامِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي مِيقَاتِ الْمَكَانِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي مِيقَاتِ الزَّمَانِ]

- ‌[مَا يَمْنَعُ الْإِحْرَامَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِلْحَلَالِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي أَنْوَاعِ هَذَا النُّسُكِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ]

- ‌[الْخُرُوجُ إِلَى عَرَفَةَ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي أَفْعَالِ الْمُزْدَلِفَةِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الْجِنْسِ الثَّالِثِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الْإِحْصَارِ في الحج]

- ‌[الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ جَزَاءِ الصَّيْدِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى وَحُكْمُ الْحَالِقِ رَأْسَهُ قَبْلَ مَحَلِّ الْحَلْقِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي كَفَّارَةِ الْمُتَمَتِّعِ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي كَفَّارَةِ الْجِمَاعِ فِي الْحَجِّ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي فَوَاتِ الْحَجِّ]

- ‌[الْقَوْلُ فِي الْكَفَّارَاتِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا في الحج]

- ‌ الْقَوْلُ فِي الْهَدْيِ

- ‌[كِتَابُ الْجِهَادِ]

- ‌[الْجُمْلَةُ الْأُولَى فِي مَعْرِفَةِ أَرْكَانِ الْحَرْبِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِ الجهاد]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الَّذِينَ يُحَارَبُونَ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَجُوزُ مِنَ النِّكَايَةِ بِالْعَدُوِّ]

- ‌[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي شَرْطِ الْحَرْبِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي مَعْرِفَةِ الْعَدَدِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ الْفِرَارُ عَنْهُمْ]

- ‌[الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي جَوَازِ الْمُهَادِنَةِ]

- ‌[الْفَصْلُ السَّابِعُ لِمَاذَا يُحَارَبُونَ]

- ‌ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حُكْمِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي حُكْمِ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي حُكْمِ الْأَنْفَالِ]

- ‌[الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي حُكْمِ مَا وُجِدَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ الْكُفَّارِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي حُكْمِ مَا افْتَتَحَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْأَرْضِ عَنْوَةً]

- ‌[الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي قِسْمَةِ الْفَيْءِ]

- ‌[الْفَصْلُ السَّابِعُ فِي الْجِزْيَةِ]

- ‌[كِتَابُ الْأَيْمَانِ] [

- ‌الْجُمْلَةُ الْأُولَى فِي مَعْرِفَةِ ضُرُوبِ الْأَيْمَانِ وَأَحْكَامِهَا] [

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَيْمَانِ الْمُبَاحَةِ وَتَمْيِيزِهَا مِنْ غَيْرِهَا]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الْأَيْمَانِ اللَّغْوِيَّةِ وَالْمُنْعَقِدَةِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَيْمَانِ الَّتِي تَرْفَعُهَا الْكَفَّارَةُ وَالَّتِي لَا تَرْفَعُهَا]

- ‌[الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي مَعْرِفَةِ الْأَشْيَاءِ الرَّافِعَةِ لِلْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ وَأَحْكَامِهَا]

- ‌[الْقِسْمُ الْأَوَّلُ النَّظَرُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي شُرُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْيَمِينِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ النَّظَرُ فِي الْكَفَّارَاتِ]

- ‌[الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مُوجِبِ الْحِنْثِ وَشُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي رَافِعِ الْحِنْثِ]

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ مَتَى تَرْفَعُ الْكَفَّارَةُ الْحِنْثَ وَكَمْ تَرْفَعُ]

- ‌[كِتَابُ النُّذُورِ] [

- ‌الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي أَصْنَافِ النُّذُورِ]

- ‌الْفَصْلُ الثَّانِي: فِيمَا يَلْزَمُ مِنَ النُّذُورِ وَمَا لَا يَلْزَمُ

- ‌[الْفَصْلُ الثَّالِثُ مَعْرِفَةِ الشَّيْءِ الَّذِي يَلْزَمُ عَنْ النذر وَأَحْكَام ذلك]

- ‌[المسألة الأولى الْوَاجِبُ فِي النَّذْرِ الْمُطْلَقِ]

- ‌[كِتَابُ الضَّحَايَا] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي حُكْمِ الضَّحَايَا وَمَنِ الْمُخَاطَبُ بِهَا]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي أَنْوَاعِ الضَّحَايَا وَصِفَاتِهَا وَأَسْنَانِهَا وَعَدَدِهَا]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِي أَحْكَامِ الذَّبْحِ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي أَحْكَامِ لُحُومِ الضَّحَايَا]

- ‌[كِتَابُ الذَّبَائِحِ] [

- ‌الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي مَعْرِفَةِ مَحَلِّ الذَّبْحِ وَالنَّحْرِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّانِي فِي الذَّكَاةِ]

- ‌[الْبَابُ الثَّالِثُ فِيمَا تَكُونُ بِهِ الذَّكَاةُ]

- ‌[الْبَابُ الرَّابِعُ فِي شُرُوطِ الذَّكَاةِ]

- ‌[الْبَابُ الْخَامِسُ فِيمَنْ تَجُوزُ تَذْكِيَتُهُ وَمَنْ لَا تَجُوزُ]

الفصل: ‌[الفصل الثالث في معرفة ما يجوز من النكاية بالعدو]

وَأَمَّا كَوْنُ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ تَخْتَصُّ بِالْأَحْرَارِ فَلَا أَعْلَمُ فِيهَا خِلَافًا. وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مِنْ شَرْطِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ إِذْنُ الْأَبَوَيْنِ فِيهَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ فَرْضَ عَيْنٍ مِثْلَ أنْ لَا يَكُونَ هُنَالِكَ مَنْ يَقُومُ بِالْفَرْضِ إِلَّا بِقِيَامِ الْجَمِيعِ بِهِ.

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا ثَبَتَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي أُرِيدُ الْجِهَادَ، قَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» . وَاخْتَلَفُوا فِي إِذْنِ الْأَبَوَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ.

وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي إِذْنِ الْغَرِيمِ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ؛ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام وَقَدْ سَأَلَهُ الرَّجُلُ: «أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّي خَطَايَايَ إِنْ مُتُّ صَابِرًا مُحْتَسِبًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِلَّا الدَّيْنَ، كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ آنِفًا» . وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا تَخَلَّفَ وَفَاءٌ مِنْ دَيْنِهِ.

[الْفَصْلُ الثَّانِي فِي مَعْرِفَةِ الَّذِينَ يُحَارَبُونَ]

َ فَأَمَّا الَّذِينَ يُحَارَبُونَ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُمْ جَمِيعُ الْمُشْرِكِينَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الْحَبَشَةِ بِالْحَرْبِ وَلَا التَّرْكُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: «ذَرُوا الْحَبَشَةَ مَا وَذَرَتْكُمْ» . وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ صِحَّةِ هَذَا الْأَثَرِ، فَلَمْ يَعْتَرِفْ بِذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَتَحَامَوْنَ غَزْوَهُمْ.

[الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَجُوزُ مِنَ النِّكَايَةِ بِالْعَدُوِّ]

وَأَمَّا مَا يَجُوزُ مِنَ النِّكَايَةِ بِالْعَدُوِّ فَإِنَّ النِّكَايَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ فِي الْأَمْوَالِ، أَوْ فِي النُّفُوسِ، أَوْ فِي الرِّقَابِ، أَعْنِي: الِاسْتِعْبَادَ وَالتَّمَلُّكَ.

فَأَمَّا النِّكَايَةُ الَّتِي هِيَ الِاسْتِعْبَادُ فَهِيَ جَائِزَةٌ بِطَرِيقِ الْإِجْمَاعِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمُشْرِكِينَ، أَعْنِي: ذُكْرَانَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ وَشُيُوخَهُمْ وَصِبْيَانَهُمْ صِغَارَهُمْ وَكِبَارَهُمْ إِلَّا الرُّهْبَانَ. فَإِنَّ قَوْمًا رَأَوْا أَنْ يُتْرَكُوا وَلَا يُؤْسَرُوا، بَلْ يُتْرَكُوا دُونَ أَنْ يُعْرَضَ إِلَيْهِمْ لَا بِقَتْلٍ وَلَا بِاسْتِعْبَادٍ ; لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«فَذَرُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَيْهِ» . وَاتِّبَاعًا لِفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ.

وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِي الْأُسَارَى فِي خِصَالٍ: مِنْهَا أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَعْبِدَهُمْ، وَمِنْهَا أَنْ يَقْتُلَهُمْ، وَمِنْهَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ، وَمِنْهَا أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْأَسِيرِ.

ص: 144

وَحَكَى الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ أَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.

وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ تَعَارُضُ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَتَعَارُضُ الْأَفْعَالِ، وَمُعَارَضَةُ ظَاهِرِ الْكِتَابِ لِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى:{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] الْآيَةَ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ بَعْدَ الْأَسْرِ إِلَّا الْمَنُّ أَوِ الْفِدَاءُ، وقَوْله تَعَالَى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] الْآيَةَ.

وَالسَّبَبُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَتْلَ أَفْضَلُ مِنَ الِاسْتِعْبَادِ. وَأَمَّا هُوَ عليه الصلاة والسلام فَقَدَ قَتَلَ الْأُسَارَى فِي غَيْرِ مَا مَوْطِنٍ، وَقَدْ مَنَّ وَاسْتَعْبَدَ النِّسَاءَ.

وَقَدْ حَكَى أَبُو عُبَيْدٍ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعْبِدْ أَحْرَارَ ذُكُورِ الْعَرَبِ، وَأَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ بَعْدَهُ عَلَى اسْتِعْبَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ ذُكْرَانِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ.

فَمَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَةَ الْخَاصَّةَ بِفِعْلِ الْأُسَارَى نَاسِخَةً لِفِعْلِهِ قَالَ: لَا يُقْتَلُ الْأَسِيرُ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَةَ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرٌ لِقَتْلِ الْأَسِيرِ وَلَا الْمَقْصُودُ مِنْهَا حَصْرُ مَا يُفْعَلُ بِالْأُسَارَى، بَلْ فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام، وَهُوَ حُكْمٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فِي الْآيَةِ، وَيَحُطُّ الْعُتْبَ الَّذِي وَقَعَ فِي تَرْكِ قَتْلِ أُسَارَى بَدْرٍ - قَالَ: بِجَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ.

وَالْقَتْلُ إِنَّمَا يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ بَعْدَ تَأْمِينٍ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَجُوزُ تَأْمِينُهُ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تَأْمِينِ الْإِمَامِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ أَمَانِ الرَّجُلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، إِلَّا مَا كَانَ مِنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ يَرَى أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إِذْنِ الْإِمَامِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي أَمَانِ الْعَبْدِ وَأَمَانِ الْمَرْأَةِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ، وَكَانَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَسَحْنُونٌ يَقُولَانِ: أَمَانُ الْمَرْأَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِذْنِ الْإِمَامِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَ.

وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْقِيَاسِ؛ أَمَّا الْعُمُومُ فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» فَهَذَا يُوجِبُ أَمَانَ الْعَبْدِ بِعُمُومِهِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُعَارِضُ لَهُ فَهُوَ أَنَّ الْأَمَانَ مِنْ شَرْطِهِ الْكَمَالُ، وَالْعَبْدُ نَاقِصٌ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِلْعُبُودِيَّةِ تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِهِ قِيَاسًا عَلَى تَأْثِيرِهَا فِي إِسْقَاطِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَنْ يُخَصَّصَ ذَلِكَ الْعُمُومُ بِهَذَا الْقِيَاسِ.

ص: 145

وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي أَمَانِ الْمَرْأَةِ فَسَبَبُهُ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» . وَقِيَاسُ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ. وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ» إِجَازَةَ أَمَانِهَا لَا صِحَّتَهُ فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَوْلَا إِجَازَتُهُ لِذَلِكَ لَمْ يُؤَثِّرْ - قَالَ: لَا أَمَانَ لِلْمَرْأَةِ إِلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْإِمَامُ.

وَمَنْ فَهِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِمْضَاءَهُ أَمَانَهَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدِ انْعَقَدَ وَأُثِرَ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ إِجَازَتَهُ هِيَ الَّتِي صَحَّحَتْ عَقْدَهُ - قَالَ: أَمَانُ الْمَرْأَةِ جَائِزٌ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَاسَهَا عَلَى الرَّجُلِ، وَلَمْ يَرَ بَيْنَهُمَا فَرْقًا فِي ذَلِكَ - أَجَازَ أَمَانَهَا، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا نَاقِصَةٌ عَنِ الرَّجُلِ لَمْ يُجِزْ أَمَانَهَا.

وَكَيْفَمَا كَانَ فَالْأَمَانُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الِاسْتِعْبَادِ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْقَتْلِ. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ نُدْخِلَ الِاخْتِلَافَ فِي هَذَا مِنْ قِبَلِ اخْتِلَافِهِمْ فِي أَلْفَاظِ جُمُوعِ الْمُذَكَّرِ هَلْ تَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ؟ أَمْ لَا؟ أَعْنِي: بِحَسَبِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ.

وَأَمَّا النِّكَايَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي النُّفُوسِ فَهِيَ الْقَتْلُ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْحَرْبِ قَتْلُ الْمُشْرِكِينَ الذُّكْرَانَ الْبَالِغِينَ الْمُقَاتِلِينَ. وَأَمَّا الْقَتْلُ بَعْدَ الْأَسْرِ فَفِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا.

وَكَذَلِكَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُ صِبْيَانِهِمْ وَلَا قَتْلُ نِسَائِهِمْ مَا لَمْ تُقَاتِلِ الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ، فَإِذَا قَاتَلَتِ الْمَرْأَةُ اسْتُبِيحَ دَمُهَا، وَذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ " أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ» ، وَقَالَ فِي امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ:«مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ» .

وَاخْتَلَفُوا فِي أَهْلِ الصَّوَامِعِ الْمُنْتَزِعِينَ عَنِ النَّاسِ، وَالْعُمْيَانِ وَالزَّمْنَى وَالشُّيُوخِ الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَ، وَالْمَعْتُوهِ وَالْحَرَّاثِ وَالْعَسِيفِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُقْتَلُ الْأَعْمَى وَلَا الْمَعْتُوهُ وَلَا أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ، وَيُتْرَكُ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ. وَكَذَلِكَ لَا يُقْتَلُ الشَّيْخُ الْفَانِي عِنْدَهُ. وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: لَا تُقْتَلُ الشُّيُوخُ فَقَطْ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا تُقْتَلُ الْحُرَّاثُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ عَنْهُ: تُقْتَلُ جَمِيعُ هَذِهِ الْأَصْنَافِ.

وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ بَعْضِ الْآثَارِ بِخُصُوصِهَا لِعُمُومِ الْكِتَابِ، وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام الثَّابِتُ «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ اللَّهُ» الْحَدِيثَ، وَذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى:{فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]

ص: 146

يَقْتَضِي قَتْلَ كُلِّ مُشْرِكٍ رَاهِبًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» .

وَأَمَّا الْآثَارُ الَّتِي وَرَدَتْ بِاسْتِبْقَاءِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم «كَانَ إِذَا بَعَثَ جُيُوشَهُ قَالَ: لَا تَقْتُلُوا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ» ".

وَمِنْهَا أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طِفْلًا صَغِيرًا، وَلَا امْرَأَةً. وَلَا تَغُلُّوا» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: " سَتَجِدُونَ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ فَدَعُوهُمْ وَمَا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ "، وَفِيهِ:" وَلَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً وَلَا صَبِيًّا وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا ".

وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ الْأَمْلَكُ فِي الِاخْتِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُعَارَضَةَ قَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] الْآيَةَ.

فَمَنْ رَأَى أَنَّ هَذِهِ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ أَوَّلًا إِنَّمَا أُبِيحَ لِمَنْ يُقَاتِلُ - قَالَ: الْآيَةُ عَلَى عُمُومِهَا. وَمَنْ رَأَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] ، وَهِيَ مُحْكَمَةٌ، وَأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافَ الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَ - اسْتَثْنَاهَا مِنْ عُمُومِ تِلْكَ.

وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ، وَاسْتَحْيُوا شِرْخَهُمْ» . وَكَأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْقَتْلِ عِنْدَهُ إِنَّمَا هِيَ الْكُفْرُ، فَوَجَبَ أَنْ تَطَّرِدَ هَذِهِ الْعِلَّةُ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ.

وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْحَرَّاثُ فَإِنَّهُ احْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ رضي الله عنه وَفِيهِ: " لَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا، وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلَّاحِينَ ".

وَجَاءَ فِي حَدِيثِ رَبَاحِ بْنِ رَبِيعَةَ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الْعَسِيفِ الْمُشْرِكِ، وَذَلِكَ «أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَمَرَّ رَبَاحٌ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ! ثُمَّ نَظَرَ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَقَالَ لِأَحَدِهِمُ: الْحَقْ

ص: 147

بِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَلَا يَقْتُلَنَّ ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا وَلَا امْرَأَةً» .

وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ بِالْجُمْلَةِ لِاخْتِلَافِهِمُ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَتْلِ؛ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِذَلِكَ هِيَ الْكُفْرُ لَمْ يَسْتَثْنِ أَحَدًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ إِطَاقَةُ الْقَتَّالِ لِلنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ مَعَ أَنَّهُنَّ كُفَّارٌ - اسْتَثْنَى مَنْ لَمْ يُطِقِ الْقِتَالَ، وَمَنْ لَمْ يَنْصِبْ نَفْسَهُ إِلَيْهِ كَالْفَلَّاحِ وَالْعَسِيفِ.

وَصَحَّ النَّهْيُ عَنِ الْمُثْلَةِ. وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَوَازِ قَتْلِهِمْ بِالسِّلَاحِ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيقِهِمْ بِالنَّارِ؛ فَكَرِهَ قَوْمٌ تَحْرِيقَهُمْ بِالنَّارِ، وَرَمْيَهُمْ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ، وَيُرْوَى عَنْ مَالِكٍ. وَأَجَازَ ذَلِكَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنِ ابْتَدَأَ الْعَدُوَّ بِذَلِكَ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا.

وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْخُصُوصِ؛ أَمَّا الْعُمُومُ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وَلَمْ يَسْتَثْنِ قَتْلًا مِنْ قَتْلٍ. وَأَمَّا الْخُصُوصُ فَمَا ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي رَجُلٍ:«إِنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْهِ فَاقْتُلُوهُ، وَلَا تَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ» .

وَاتَّفَقَ عَوَّامُ الْفُقَهَاءِ عَلَى جَوَازِ رَمْيِ الْحُصُونِ بِالْمَجَانِيقِ، سَوَاءً كَانَ فِيهَا نِسَاءٌ وَذُرِّيَّةٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِمَا جَاءَ «أَنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ» .

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحِصْنُ فِيهِ أُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطْفَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَكُفُّ عَنْ رَمْيِهِمْ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَ اللَّيْثُ: ذَلِكَ جَائِزٌ.

وَمُعْتَمَدُ مَنْ لَمْ يُجِزْهُ قَوْله تَعَالَى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25] الْآيَةَ. وَأَمَّا مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى الْمَصْلَحَةِ.

فَهَذَا هُوَ مِقْدَارُ النِّكَايَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ تَبْلُغَ بِهِمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَرِقَابِهِمْ. وَأَمَّا النِّكَايَةُ الَّتِي تَجُوزُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَذَلِكَ فِي الْمَبَانِي وَالْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ - فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ؛ فَأَجَازَ مَالِكٌ قَطْعَ الشَّجَرَةِ وَالثِّمَارِ وَتَخْرِيبَ الْعَامِرِ، وَلَمْ يُجِزْ قَتْلَ الْمَوَاشِي وَلَا تَحْرِيقَ النَّخْلِ.

وَكَرِهَ الْأَوْزَاعِيُّ قَطْعَ الشَّجَرِ الْمُثْمِرِ وَتَخْرِيبَ الْعَامِرِ كَنِيسَةً كَانَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تُحَرَّقُ الْبُيُوتُ وَالشَّجَرُ إِذَا كَانَتْ لَهُمْ مَعَاقِلَ، وَكَرِهَ تَخْرِيبَ الْبُيُوتِ وَقَطْعَ الشَّجَرِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعَاقِلَ.

وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ مُخَالَفَةُ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ لِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام، ذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ " أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «حَرَّقَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ» . وَثَبَتَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ:" لَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا "؛ فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ فِعْلَ أَبِي بَكْرٍ هَذَا إِنَّمَا كَانَ لِمَكَانِ

ص: 148