الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي نِصَابِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ]
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْحُبُوبِ: أَمَّا مَا سُقِيَ بِالسَّمَاءِ فَالْعُشْرُ، وَأَمَّا مَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ فَنِصْفُ الْعُشْرِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا النِّصَابُ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ.
فَصَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى إِيجَابِ النِّصَابِ فِيهِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَالْوَسْقُ: سِتُّونَ صَاعًا بِإِجْمَاعٍ، وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مُدَّهُ رِطْلٌ وَثُلُثٌ وَزِيَادَةٌ يَسِيرَةٌ بِالْبَغْدَادِيِّ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ حِينَ نَاظَرَهُ مَالِكٌ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِشَهَادَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِذَلِكَ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ فِي الْمُدِّ رِطْلَانِ، وَفِي الصَّاعِ إِنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ نِصَابٌ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْخُصُوصِ. أَمَّا الْعُمُومُ: فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» . وَأَمَّا الْخُصُوصُ: فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» .
وَالْحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ، فَمَنْ رَأَى الْخُصُوصَ يُبْنَى عَلَى الْعُمُومِ قَالَ: لَا بُدَّ مِنَ النِّصَابِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ مُتَعَارِضَانِ إِذَا جَهِلَ الْمُتَقَدِّمَ فِيهِمَا وَالْمُتَأَخِّرَ إِذْ كَانَ قَدْ يُنْسَخُ الْخُصُوصُ بِالْعُمُومِ عِنْدَهُ، وَيُنْسَخُ الْعُمُومُ بِالْخُصُوصِ، إِذْ كُلُّ مَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ جَازَ نَسْخُهُ، وَالنَّسْخُ قَدْ يَكُونُ لِلْبَعْضِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْكُلِّ، وَمَنْ رَجَّحَ الْعُمُومَ قَالَ: لَا نِصَابَ، وَلَكِنَّ حَمْلَ الْجُمْهُورِ عِنْدِي الْخُصُوصَ عَلَى الْعُمُومِ هُوَ مِنْ بَابِ تَرْجِيحِ الْخُصُوصِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْجُزْءِ الَّذِي تَعَارَضَا فِيهِ، فَإِنَّ الْعُمُومَ فِيهِ ظَاهِرٌ وَالْخُصُوصَ فِيهِ نَصٌّ، فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ السَّبَبُ الَّذِي صَيَّرَ الْجُمْهُورَ إِلَى أَنْ يَكُونَ الْخُصُوصُ مُتَّصِلًا بِالْعُمُومِ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً.
وَاحْتِجَاجُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النِّصَابِ بِهَذَا الْعُمُومِ فِيهِ ضَعْفٌ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ تَبْيِينِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْهُ.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي النِّصَابِ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فِي ضَمِّ الْحُبُوبِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي النِّصَابِ. الثَّانِيَةُ: فِي جَوَازِ تَقْدِيرِ النِّصَابِ فِي الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ بِالْخَرْصِ. الثَّالِثَةُ: هَلْ يُحْسَبُ عَلَى الرَّجُلِ مَا يَأْكُلُهُ مِنْ ثَمَرِهِ وَزَرْعِهِ قَبْلَ الْحَصَادِ وَالْجَذَاذِ فِي النِّصَابِ، أَمْ لَا؟ .
أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصِّنْفَ الْوَاحِدَ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثَّمَرِ يُجْمَعُ جِيِّدُهُ إِلَى رَدِيئِهِ، وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ عَنْ جَمِيعِهِ بِحَسَبِ قَدْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا - أَعْنِي: مِنَ الْجَيِّدِ والرَّدِئِ -، فَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ أَصْنَافًا أُخِذَ مِنْ وَسَطِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمِّ الْقَطَانِيِّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ، وَفِي ضَمِّ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالسُّلْتِ فَقَالَ مَالِكٌ: الْقِطْنِيَّةُ كُلُّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ، الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ أَيْضًا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ: الْقَطَانِيُّ كُلُّهَا أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ بِحَسَبِ أَسْمَائِهَا، وَلَا يُضَمُّ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَى غَيْرِهِ فِي حِسَابِ النِّصَابِ.
وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ وَالْحِنْطَةُ عِنْدَهُمْ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ لَا يُضَمُّ وَاحِدٌ مِنْهَا إِلَى الْآخَرِ لِتَكْمِيلِ النِّصَابِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلِ الْمُرَاعَاةُ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ هُوَ اتِّفَاقُ الْمَنَافِعِ أَوِ اتِّفَاقُ الْأَسْمَاءِ؟ فَمَنْ قَالَ: اتِّفَاقُ الْأَسْمَاءِ، قَالَ: كُلَّمَا اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا فَهِيَ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ، وَمَنْ قَالَ: اتِّفَاقُ الْمَنَافِعِ، قَالَ: كُلَّمَا اتَّفَقَتْ مَنَافِعُهَا فَهِيَ صِنْفٌ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا.
فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرُومُ قَاعِدَتَهُ بِاسْتِقْرَاءِ الشَّرْعِ - أَعْنِي: أَنَّ أَحَدَهُمَا يَحْتَجُّ لِمَذْهَبِهِ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي اعْتَبَرَ فِيهَا الشَّرْعُ الْأَسْمَاءَ، وَالْآخَرُ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي اعْتَبَرَ الشَّرْعُ فِيهَا الْمَنَافِعَ -، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ شَهَادَةُ الشَّرْعِ لِلْأَسْمَاءِ فِي الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِنْ شَهَادَتِهِ لِلْمَنَافِعِ، وَإِنْ كَانَ كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ مَوْجُودًا فِي الشَّرْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ - وَهِيَ تَقْدِيرُ النِّصَابِ بِالْخَرْصِ وَاعْتِبَارُهُ بِهِ دُونَ الْكَيْلِ -: فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى إِجَازَةِ الْخَرْصِ فِي النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ حِينَ يَبْدُو صَلَاحُهَا لِضَرُورَةِ أَنْ يُخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَهْلِهَا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا.
وَقَالَ دَاوُدُ: لَا خَرْصَ إِلَّا فِي النَّخِيلِ فَقَطْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: الْخَرْصُ بَاطِلٌ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يُؤَدِّيَ عُشْرَ مَا تَحَصَّلَ يَده زَادَ الْخَرْص أَوْ نَقَصَ مِنْهُ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي جَوَازِ الْخَرْصِ: مُعَارَضَةُ الْأُصُولِ لِلْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ: أَمَّا الْأَثَرُ الْوَارِدُ فِي ذَلِكَ - وَهُوَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الْجُمْهُورُ - فَهُوَ مَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرْسِلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ وغيره إِلَى خَيْبَرَ فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمُ النَّخْلَ» .
وَأَمَّا الْأُصُولُ الَّتِي تُعَارِضُهُ: فَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُزَابَنَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا - وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِالثَّمَرِ كَيْلًا -، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا مِنْ بَابِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً، فَيَدْخُلُهُ الْمَنْعُ مِنَ التَّفَاضُلِ وَمِنَ النَّسِيئَةِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أُصُولِ الرِّبَا، فَلَمَّا رَأَى الْكُوفِيُّونَ هَذَا مَعَ أَنَّ الْخَرْصَ الَّذِي كَانَ يُخْرَصُ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ لَمْ يَكُنْ لِلزَّكَاةِ، إِذْ كَانُوا لَيْسُوا بِأَهْلِ زَكَاةٍ، قَالُوا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَخْمِينًا لِيُعْلَمَ مَا بِأَيْدِي كُلِّ قَوْمٍ مِنَ الثِّمَارِ.
قَالَ الْقَاضِي:
أَمَّا بِحَسَبِ خَبَرِ مَالِكٍ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الْخَرْصِ قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي - أَعْنِي: فِي قِسْمَةِ الثِّمَارِ لَا فِي قِسْمَةِ الْحَبِّ.
وَأَمَّا بِحَسَبِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: فَإِنَّمَا الْخَرْصُ لِمَوْضِعِ النَّصِيبِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ هُوَ: أَنَّهَا قَالَتْ - وَهِيَ تَذْكُرُ شَأْنَ خَيْبَرَ -: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ» .
وَخَرْصُ الثِّمَارِ لَمْ يُخَرِّجْهُ الشَّيْخَانِ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَالْخَرْصُ مُسْتَثْنًى مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ، هَذَا إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام حُكْمًا مِنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَوْ ثَبَتَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا عَامًّا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ صَحَّ حَدِيثُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ لَكَانَ جَوَازُ الْخَرْصِ بَيِّنًا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَدِيثُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ هُوَ أَنَّهُ قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَخْرُصَ الْعِنَبَ وَآخُذَ زَكَاتَهُ زَبِيبًا، كَمَا تُؤْخَذُ زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا» . وَحَدِيثُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ طُعِنَ فِيهِ، لِأَنَّ رَاوِيَهُ عَنْهُ هُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجِزْ دَاوُدُ خَرْصَ الْعِنَبِ. وَاخْتَلَفَ مَنْ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ فِي جَوَازِ خَرْصِهِ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي قِيَاسِهِ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّخْلِ وَالْعِنَبِ ; وَالْمُخْرَجُ عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنَ النَّخْلِ فِي الزَّكَاةِ هُوَ التَّمْرُ لَا الرُّطَبُ، وَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ مِنَ الْعِنَبِ لَا الْعِنَبُ نَفْسُهُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الزَّيْتُونِ هُوَ الزَّيْتُ لَا الْحَبُّ قِيَاسًا عَلَى التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْعِنَبِ الَّذِي لَا يَتَزَبَّبُ وَالزَّيْتُونِ الَّذِي لَا يَعتصِرُ، أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ حَبًّا.
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ قَالَا: يُحْسَبُ عَلَى الرَّجُلِ مَا أَكَلَ مِنْ ثَمَرِهِ وَزَرْعِهِ قَبْلَ الْحَصَادِ فِي النِّصَابِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ الْخَارِصُ لِرَبِّ الْمَالِ مَا يَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ.
وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مَا يُعَارِضُ الْآثَارَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالْقِيَاسِ: أَمَّا السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ: فَمَا رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا حَثْمَةَ خَارِصًا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا حَثْمَةَ قَدْ زَادَ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ ابْنَ عَمِّكَ يَزْعُمُ أَنَّكَ زِدْتَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ تَرَكْتُ لَهُ قَدْرَ عَرِيَّةِ أَهْلِهِ وَمَا يُطْعِمُهُ الْمَسَاكِينَ، وَمَا تُسْقِطُهُ الرِّيحُ، فَقَالَ: قَدْ زَادَكَ ابْنُ عَمِّكَ وَأَنْصَفَكَ» . وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ» . وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَفِّفُوا فِي الْخَرْصِ، فَإِنَّ الْمَالَ الْعَرِيَّةُ وَالْآكِلَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَالْعَامِلُ وَالنَّوَائِبُ وَمَا وَجَبَ فِي التَّمْرِ مِنَ الْحَقِّ» .
وَأَمَّا الْكِتَابُ الْمُعَارِضُ لِهَذِهِ الْآثَارِ وَالْقِيَاسُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَلِأَنَّهُ مَالٌ فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالْوَاجِب مِنْهُ فِي هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثلاثة الَّتِي الزَّكَاةُ مُخْرَجَةٌ مِنْ أَعْيَانِهَا، لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الْأَعْيَانِ أَنْفُسِهَا أَنَّهَا مُجْزِئَةٌ.
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ فِيهَا أَنْ يُخْرِجَ بَدَلَ الْعَيْنِ الْقَيِّمَةَ أَوْ لَا يَجُوزُ؟ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ بَدَلَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الزَّكَوَاتِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الزَّكَاةُ عِبَادَةٌ، أَوْ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْمَسَاكِينِ؟ فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا عِبَادَةٌ قَالَ: إِنْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْأَعْيَانِ لَمْ يَجُزْ ; لِأَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالْعِبَادَةِ عَلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَهِيَ فَاسِدَةٌ، وَمَنْ قَالَ: هِيَ حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقِيمَةِ وَالْعَيْنِ عِنْدَهُ. وَقَدْ قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: لَنَا أَنْ نَقُولَ - وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ -: إِنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا عَلَّقَ الْحَقَّ بِالْعَيْنِ تصدر مِنْهُ لِتَشْرِيَكِ الْفُقَرَاءِ مَعَ الْأَغْنِيَاءِ فِي أَعْيَانِ الْأَمْوَالِ. وَالْحَنَفِيَّةُ تَقُولُ: إِنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ أَعْيَانُ