الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا خِلَافٌ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا عَلَى مَنْ يَجِبُ وُجُوبًا غَيْرَ مُخَيِّرٍ: فَهُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الْحَاضِرُ الصَّحِيحُ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ الصِّفَةُ الْمَانِعَةُ مِنَ الصَّوْمِ وَهِيَ: الْحَيْضُ لِلنِّسَاءِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] .
[الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ فِي أَرْكَان الصيام]
[الرُّكْنُ الْأَوَّلُ في الصيام هو الزَّمَانُ]
الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ
فِي الْأَرْكَانِ
وَالْأَرْكَانُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا (وَهُمَا: الزَّمَانُ وَالْإِمْسَاكُ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ) . وَالثَّالِثُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ: النِّيَّةُ.
فَأَمَّا الرُّكْنُ الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ الزَّمَانُ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: زَمَانُ الْوُجُوبِ (وَهُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ) .
وَالْآخَرُ: زَمَانُ الْإِمْسَاكِ عَنِ الْمُفْطِرَاتِ (وَهُوَ أَيَّامُ هَذَا الشَّهْرِ دُونَ اللَّيَالِي) .
وَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الزَّمَانَيْنِ مَسَائِلُ قَوَاعِدُ اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَلْنَبْدَأْ بِمَا يَتَعَلَّقُ مِنْ ذَلِكَ بِزَمَانِ الْوُجُوبِ:
وَأَوَّلُ ذَلِكَ: فِي تَحْدِيدِ طَرَفَيْ هَذَا الزَّمَانِ.
وَثَانِيًا: فِي مَعْرِفَةِ الطَّرِيقِ الَّتِي بِهَا يُتَوَصَّلُ إِلَى مَعْرِفَةِ الْعَلَامَةِ الْمُحَدَّدَةِ فِي حَقِّ شَخْصٍ شَخْصٍ وَأُفُقٍ أُفُقٍ.
فَأَمَّا طَرَفَا هَذَا الزَّمَانِ: فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الشَّهْرَ الْعَرَبِيَّ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ وَيَكُونُ ثَلَاثِينَ، وَعَلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي تَحْدِيدِ شَهْرِ رَمَضَانَ إِنَّمَا هُوَ الرُّؤْيَةُ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» وَعَنَى بِالرُّؤْيَةِ أَوَّلَ ظُهُورِ الْقَمَرِ بَعْدَ الزَّوَالِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ إِذَا غُمَّ الشَّهْرُ وَلَمْ تُمْكِنِ الرُّؤْيَةُ، وَفِي وَقْتِ الرُّؤْيَةِ الْمُعْتَبَرِ: فَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ إِذَا غُمَّ الْهِلَالُ: فَإِنَّ الْجُمْهُورَ يَرَوْنَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ أَنْ تُكْمَلَ الْعِدَّةُ ثَلَاثِينَ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي غُمَّ هِلَالُ أَوَّلِ الشَّهْرِ عَنِ الشَّهْرِ الَّذِي قَبْلَهُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا، كَانَ أَوَّلُ رَمَضَانَ الْحَادِيَ وَالثَّلَاثِينَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي غُمَّ هِلَالَ آخِرِ الشَّهْرِ صَامَ النَّاسُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا.
وَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْمُغَمَّى عَلَيْهِ هِلَالَ أَوَّلِ الشَّهْرِ صِيمَ الْيَوْمُ الثَّانِي وَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِيَوْمِ الشَّكِّ.
وَرَوَى بَعْضُ السَّلَفِ أَنَّهُ إِذَا أُغْمِيَ الْهِلَالُ رَجَعَ إِلَى الْحِسَابِ بِمَسِيرِ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ.
وَحَكَى ابْنُ سُرَيْجٍ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ كَانَ مَذْهَبُهُ الِاسْتِدْلَالَ بِالنُّجُومِ وَمَنَازِلِ الْقَمَرِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْهِلَالَ مَرْئِيٌّ وَقَدْ غُمَّ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَعْقِدَ الصَّوْمَ وَيُجْزِيَهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: الْإِجْمَالُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ» . فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ تَأْوِيلَهُ أَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ مَعْنَى التَّقْدِيرِ لَهُ هُوَ عَدُّهُ بِالْحِسَابِ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يُصْبِحَ الْمَرْءُ صَائِمًا، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ - كَمَا ذَكَرْنَا - وَفِيهِ بُعْدٌ فِي اللَّفْظِ.
وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّابِتِ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ ثَلَاثِينَ» وَذَلِكَ مُجْمَلٌ وَهَذَا مُفَسَّرٌ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْمُجْمَلُ عَلَى الْمُفَسَّرِ، وَهِيَ طَرِيقَةٌ لَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ الْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ تَعَارُضٌ أَصْلًا، فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِي هَذَا لَائِحٌ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي اعْتِبَارِ وَقْتِ الرُّؤْيَةِ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا رُئِيَ مِنَ الْعَشِيِّ أَنَّ الشَّهْرَ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي، وَاخْتَلَفُوا إِذَا رُئِيَ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِ النَّهَارِ - أَعْنِي: أَوَّلَ مَا رُئِيَ - فَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْقَمَرَ فِي أَوَّلِ وَقْتٍ رُئِيَ مِنَ النَّهَارِ أَنَّهُ لِلْيَوْمِ الْمُسْتَقْبَلِ كَحُكْمِ رُؤْيَتِهِ بِالْعَشِيِّ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إِذَا رُئِيَ الْهِلَالُ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ وَإِنْ رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلْآتِيَةِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرْكُ اعْتِبَارِ التَّجْرِبَةِ فِيمَا سَبِيلُهُ التَّجْرِبَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ عَنِ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام يُرْجَعُ إِلَيْهِ، لَكِنْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَثَرَانِ: أَحَدُهُمَا عَامٌّ، وَالْآخَرُ مُفَسِّرٌ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى الْعَامِّ وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى الْمُفَسِّرِ.
فَأَمَّا الْعَامُّ: فَمَا رَوَاهُ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ وَنَحْنُ بِخَانِقِينَ أَنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضَهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ نَهَارًا فَلَا تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ رَجُلَانِ أَنَّهُمَا رَأَيَاهُ بِالْأَمْسِ.
وَأَمَّا الْخَاصُّ: فَمَا رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ قَوْمًا رَأَوُا الْهِلَالَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَأَفْطَرُوا، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ يَلُومُهُمْ وَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ نَهَارًا قَبْلَ الزَّوَالِ فَأَفْطِرُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا تُفْطِرُوا.
قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي يَقْتَضِي الْقِيَاسَ وَالتَّجْرِبَةَ أَنَّ الْقَمَرَ لَا يُرَى وَالشَّمْسُ بَعْدُ لَمْ تَغِبْ إِلَّا
وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْهَا، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ أَكْبَرَ مِنْ قَوْسِ الرُّؤْيَةِ، وَإِنْ كَانَ يَخْتَلِفُ فِي الْكِبَرِ وَالصِّغَرِ فَبَعِيدٌ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنْ يَبْلُغَ مِنَ الْكِبَرِ أَنْ يُرَى وَالشَّمْسُ بَعْدُ لَمْ تَغِبْ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي ذَلِكَ التَّجْرِبَةُ كَمَا قُلْنَا وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَلَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مَغِيبُ الشَّمْسِ أَوْ لَا مَغِيبُهَا.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي حُصُولِ الْعِلْمِ بِالرُّؤْيَةِ: فَإِنَّ لَهُ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْحِسُّ، وَالْآخَرُ الْخَبَرُ.
فَأَمَّا طَرِيقُ الْحِسِّ: فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ أَبْصَرَ هِلَالَ الصَّوْمِ وَحْدَهُ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ، إِلَّا عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يَصُومُ إِلَّا بِرُؤْيَةِ غَيْرِهِ مَعَهُ، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُفْطِرُ بِرُؤْيَتِهِ وَحْدَهُ؟ فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُفْطِرُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُفْطِرُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَهَذَا لَا مَعْنَى لَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام قَدْ أَوْجَبَ الصَّوْمَ وَالْفِطْرَ لِلرُّؤْيَةِ، فَالرُّؤْيَةُ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْحِسِّ، وَلَوْلَا الْإِجْمَاعُ عَلَى الصِّيَامِ بِالْخَبَرِ عَنِ الرُّؤْيَةِ لَبَعُدَ وُجُوبُ الصِّيَامِ بِالْخَبَرِ لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هِلَالِ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ لِمَكَانِ سَدِّ الذَّرِيعَةِ أَنْ لَا يَدَّعِيَ الْفُسَّاقُ أَنَّهُمْ رَأَوُا الْهِلَالَ فَيُفْطِرُونَ وَهُمْ بَعْدُ لَمْ يَرَوْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ خَافَ التُّهْمَةَ أَمْسَكَ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاعْتَقَدَ الْفِطْرَ، وَشَذَّ مَالِكٌ فَقَالَ: مَنْ أَفْطَرَ وَقَدْ رَأَى الْهِلَالَ وَحْدَهُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ.
وَأَمَّا طَرِيقُ الْخَبَرِ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْمُخْبِرِينَ الَّذِينَ يَجِبُ قَبُولُ خَبَرِهِمْ عَنِ الرُّؤْيَةِ فِي صِفَتِهِمْ: فَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَامَ وَلَا يُفْطَرَ بِأَقَلِّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ الْمُزَنِيِّ: إِنَّهُ يُصَامُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى الرُّؤْيَةِ، وَلَا يُفْطَرُ بِأَقَلَّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَتِ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً قُبِلَ وَاحِدٌ، وَإِنْ كَانَتْ صَاحِيَةً بِمِصْرٍ كَبِيرٍ لَمْ تُقْبَلْ إِلَّا شَهَادَةُ الْجَمِّ الْغَفِيرِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الشَّاهِدِينَ إِلَّا إِذَا كَانَتِ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً.
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الْفِطْرِ إِلَّا اثْنَانِ، إِلَّا أَبَا ثَوْرٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ كَمَا فَرَّقَ الشَّافِعِيُّ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَتَرَدُّدُ الْخَبَرِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ أَوْ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ بِالْأَحَادِيثِ الَّتِي لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَدُ.
أَمَّا الْآثَارُ: فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ فَقَالَ: إِنِّي جَالَسْتُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَأَلْتُهُمْ، وَكُلُّهُمْ حَدَّثُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم -
وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَبْصَرْتُ الْهِلَالَ اللَّيْلَةَ، فَقَالَ أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا» خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ. قَالَ: وَفِي إِسْنَادِهِ خِلَافٌ لِأَنَّهُ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مُرْسَلًا.
وَمِنْهَا حَدِيثُ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَانَ النَّاسُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَقَامَ أَعْرَابِيَّانِ فَشَهِدَا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَأَهَلَّ الْهِلَالُ أَمْسِ عَشِيَّةً، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ أَنْ يُفْطِرُوا وَأَنْ يَعُودُوا إِلَى الْمُصَلَّى» .
فَذَهَبَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآثَارِ مَذْهَبَ التَّرْجِيحِ وَمَذْهَبَ الْجَمْعِ، فَالشَّافِعِيُّ جَمَعَ بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَلَى ظَاهِرِهِمَا، فَأَوْجَبَ الصَّوْمَ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ وَالْفِطْرَ بِاثْنَيْنِ.
وَمَالِكٌ رَجَّحَ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ لِمَكَانِ الْقِيَاسِ - أَعْنِي: تَشْبِيهَ ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَبُو ثَوْرٍ لَمْ يَرَ تَعَارُضًا بَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي فِي حَدِيثِ رِبْعِيِّ بْنِ خِرَاشٍ أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، لَا أَنَّ ذَلِكَ تَعَارُضٌ، وَلَا أَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ مُخْتَصٌّ بِالصَّوْمِ وَالثَّانِيَ بِالْفِطْرِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا إِنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى تَوَهُّمِ التَّعَارُضِ، وَكَذَلِكَ يُشْبِهُ أَلَّا يَكُونَ تَعَارُضٌ بَيْنَ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ وَبَيْنَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ إِذَا عَارَضَهُ النَّصُّ، فَقَدْ نَرَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي ثَوْرٍ عَلَى شُذُوذِهِ هُوَ أَبْيَنُ، مَعَ أَنَّ تَشْبِيهَ الرَّائِي بِالرَّاوِي هُوَ أَمْثَلُ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالشَّاهِدِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِمَّا أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ فِيهَا عِبَادَةٌ غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقِيسَ عَلَيْهَا، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ فِيهَا لِمَوْضِعِ التَّنَازُعِ الَّذِي فِي الْحُقُوقِ، وَالشُّبْهَةِ الَّتِي تَعْرِضُ مِنْ قِبَلِ قَوْلِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فَاشْتَرَطَ فِيهَا الْعَدَدَ وَلِيَكُونَ الظَّنُّ أَغْلَبَ وَالْمَيْلُ إِلَى حُجَّةِ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ أَقْوَى، وَلَمْ يَتَعَدَّ بِذَلِكَ الِاثْنَيْنِ لِئَلَّا يَعْسُرَ قِيَامُ الشَّهَادَةِ فَتَبْطُلَ الْحُقُوقُ، وَلَيْسَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ شُبْهَةٌ مِنْ مُخَالِفٍ تُوجِبُ الِاسْتِظْهَارَ بِالْعَدَدِ.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ هِلَالِ الْفِطْرِ وَهِلَالِ
الصَّوْمِ لِلتُّهْمَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلنَّاسِ فِي هِلَالِ الْفِطْرِ وَلَا تَعْرِضَ فِي هِلَالِ الصَّوْمِ، وَمَذْهَبُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي ثَوْرٍ وَأَحْسَبُهُ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَقَدِ احْتَجَّ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْمُنْذِرِ لِهَذَا الْحَدِيثِ بِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الْفِطْرِ وَالْإِمْسَاكِ عَنِ الْأَكْلِ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي دُخُولِ الشَّهْرِ وَخُرُوجِهِ، إِذْ كِلَاهُمَا عَلَامَةٌ تَفْصِلُ زَمَانَ الْفِطْرِ مِنْ زَمَانِ الصَّوْمِ.
وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّ الرُّؤْيَةَ تَثْبُتُ بِالْخَبَرِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَرَهُ، فَهَلْ يَتَعَدَّى ذَلِكَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ؟ - أَعْنِي: هَلْ يَجِبُ عَلَى أَهْلِ بَلَدٍ مَا إِذَا لَمْ يَرَوْهُ أَنْ يَأْخُذُوا فِي ذَلِكَ بِرُؤْيَةِ بَلَدٍ آخَرَ أَمْ لِكُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَةٌ؟ - فِيهِ خِلَافٌ، فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ وَالْمِصْرِيِّينَ رَوَوْا عَنْهُ أَنَّهُ إِذَا ثَبَتَ عِنْدَ أَهْلِ بَلَدٍ أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ آخَرَ رَأَوُا الْهِلَالَ أَنَّ عَلَيْهِمْ قَضَاءَ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْطَرُوهُ وَصَامَهُ غَيْرُهُمْ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَرَوَى الْمَدَنِيُّونَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَلْزَمُ بِالْخَبَرِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَتْ فِيهِ الرُّؤْيَةُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَالْمُغِيرَةُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يُرَاعَى ذَلِكَ فِي الْبُلْدَانِ النَّائِيَةِ كَالْأَنْدَلُسِ وَالْحِجَازِ.
وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الْخِلَافِ: تَعَارُضُ الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ.
أَمَّا النَّظَرُ: فَهُوَ أَنَّ الْبِلَادَ إِذَا لَمْ تَخْتَلِفْ مَطَالِعُهَا كُلَّ الِاخْتِلَافِ فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ لِأَنَّهَا فِي قِيَاسِ الْأُفُقِ الْوَاحِدِ. وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَتِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَلَيْسَ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ: فَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بَنَتَ الْحَرْثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ فَقَالَ: قَدِمْتُ الشَّامَ فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا، وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ رَمَضَانُ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلَالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلَالَ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتُمُ الْهِلَالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ قَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ فَلَا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَلَا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ؟ فَقَالَ: لَا، هَكَذَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام.
فَظَاهِرُ هَذَا الْأَثَرِ يَقْتَضِي أَنَّ لِكُلِّ بَلَدٍ رُؤْيَتَهُ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ، وَالنَّظَرُ يُعْطِي الْفَرْقَ بَيْنَ الْبِلَادِ النَّائِيَةِ، وَبِخَاصَّةٍ مَا كَانَ نَأْيُهُ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ كَثِيرًا. وَإِذَا بَلَغَ الْخَبَرُ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ لَمْ يُحْتَجْ فِيهِ إِلَى شَهَادَةٍ. فَهَذِهِ هِيَ الْمَسَائِلُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِزَمَانِ الْوُجُوبِ.
وَأَمَّا الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِزَمَانِ الْإِمْسَاكِ: فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ آخِرَهُ غَيْبُوبَةُ الشَّمْسِ لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّلِهِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ الثَّانِي الْمُسْتَطِيرِ الْأَبْيَضِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْنِي: حَدَّهُ بِالْمُسْتَطِيرِ - وَلِظَاهِرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] الْآيَةَ. وَشَذَّتْ فِرْقَةٌ فَقَالُوا: هُوَ الْفَجْرُ الْأَحْمَرُ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْأَبْيَضِ وَهُوَ نَظِيرُ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ حُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ.
وَسَبَبُ هَذَا الْخِلَافِ هُوَ: اخْتِلَافُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ، وَاشْتِرَاكُ اسْمِ الْفَجْرِ - أَعْنِي: أَنَّهُ يُقَالُ عَلَى الْأَبْيَضِ وَالْأَحْمَرِ -.
وَأَمَّا الْآثَارُ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا: فَمِنْهَا حَدِيثُ زِرٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: «تَسَحَّرْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ: هُوَ النَّهَارُ إِلَّا أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَطْلُعْ» . وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا يَهِيدَنَّكُمُ السَّاطِعُ الْمُصَعَّدُ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَعْتَرِضَ لَكُمُ الْأَحْمَرُ» . قَالَ أَبُو دَاوُدَ: هَذَا مَا تَفَرَّدَ بِهِ أَهْلُ الْيَمَامَةِ وَهَذَا شُذُوذٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى -:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} [البقرة: 187] نَصٌّ فِي ذَلِكَ أَوْ كَالنَّصِّ.
وَالَّذِينَ رَأَوْا أَنَّهُ الْفَجْرُ الْأَبْيَضُ الْمُسْتَطِيرُ - هُمُ الْجُمْهُورُ وَالْمُعْتَمَدُ - اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْمُحَرِّمِ لِلْأَكْلِ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ طُلُوعُ الْفَجْرِ نَفْسُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ تَبَيُّنُهُ عِنْدَ النَّاظِرِ إِلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَتَبَيَّنْهُ، فَالْأَكْلُ مُبَاحٌ لَهُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَإِنْ كَانَ قَدْ طَلَعَ. وَفَائِدَةُ الْفَرْقِ: أَنَّهُ إِذَا انْكَشَفَ أَنَّ مَا ظُنَّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُعْ كَانَ قَدْ طَلَعَ، فَمَنْ كَانَ الْحَدُّ عِنْدَهُ هُوَ الطُّلُوعُ نَفْسُهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ بِهِ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ القَضَاءَ.
وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ: الِاحْتِمَالُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] هَلِ عَلَى الْإِمْسَاكِ بِالتَّبَيُّنِ نَفْسِهِ أَوْ بِالشَّيْءِ الْمُتَبَيَّنِ؟ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَتَجَوَّزُ فَتَسْتَعْمِلُ لَاحِقَ الشَّيْءِ بَدَلَ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ - تَعَالَى -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] لِأَنَّهُ إِذَا تَبَيَّنَ فِي نَفْسِهِ تَبَيَّنَ لَنَا، فَإِذًا إِضَافَةُ التَّبَيُّنِ لَنَا هِيَ الَّتِي أَوْقَعَتِ الْخِلَافَ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَبَيَّنُ فِي