الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
وقول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} "64) .
وفي "الصحيح" عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} "65" قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت) .
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"[أخرجاه] .
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو".
ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً.
فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده، تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
الثانية: معرفة أول شرك حدث على وجه الأرض أنه بشبهة الصالحين.
الثالثة: أول شيء غيّر به دين الأنبياء، وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم.
الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين، والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئاً أرادوا به خيراً، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد.
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدعة سبب الكفر.
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل.
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
الثانية عشرة: معرفة: النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها.
الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه، فهو الكفر المبيح للدم والمال.
الخامسة عشرة: التصريح أنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك.
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين.
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده.
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.
فيه مسائل:
الأولى "أن من فهم هذا الباب وبابين بعده تبين له غربة الإسلام ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب" أي من فهم باب سبب الكفر هو الغلو في الصالحين والتغليظ في من عبد الله عند قبر رجل صالح وأن الغلو في قبور الصالحين يجعلها أوثانا تعبد، تبين له غربة الإسلام لكون أكثر الخلق جعلوا مثل هذا هو أفضل الأعمال وكفروا من نهى عنه وهذا من قدرة الله وتقليبه للقلوب لما أعرضت عن الشرع ولم تؤمن به كما قال تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
الثانية "معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين" أي لما غلا هؤلاء في الصالحين حدث الشرك فيمن بعدهم بسببه.
الثالثة "أول شيء غير به دين الأنبياء وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم" أي هو بعبادة غير الصالحين وسبب ذلك الغلو الذي فعله هؤلاء فلما ماتوا وأتى من بعدهم فعبدوهم لظنهم أن الأولين أرادوا ذلك.
الرابعة "قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها" أي لما أوحى إليهم الشيطان ذلك قبلوه ولو أنهم رجعوا إلى الشرع وعملوا به لما قبلوا ما أوحاه إليهم الشيطان ولكنهم استحسنوا ما قالوه فحصل ما حصل.
الخامسة "أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل فالأول محبة الصالحين والثاني فعل أناس من أهل العلم شيئا أرادوا به خيرا فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره" أي أن سبب هذا الكفر خلط الحق بالباطل فالأول الذي هو الحق محبة الصالحين والثاني الذي هو الباطل ما فعله الأولون من نصب الأنصاب إلى مجالسهم وهذا فعلوه من باب المحبة لهم فصار هذا العمل المركب من الحق
والباطل سببا لعبادة من أتى بعدهم لهم من دون الله لكونهم ظنوا أنهم ما صوروا صورهم إلا ليعبدوهم ولو أن الأولين فهموا أن المحبة تحصل بدون تصوير صورهم والغلو فيهم لما حصل ذلك ولكنهم التبس عليهم الأمر وهذا من مكائد الشيطان التي كاد بها بني آدم قديما وحديثا ولم يسلم منها إلا القليل.
السادسة "تفسير الآية التي في سورة نوح" أي قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} الآية.
السابعة "جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد" أي أن هؤلاء نقص في قلوبهم الحق فلم يكتفوا بمحبة الصالحين والاقتداء بهم بل زادوا عليه الباطل وهو أن نصبوا إلى مجالسهم أنصابا وعكفوا على قبورهم وهذا من جبلة الآدمي إنه كان ظلوما جهولا.
الثامنة "فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر" أي أن الكفر الذي حصل في الأرض بسبب ما ابتدعه هؤلاء من تصوير صورهم والغلو فيهم.
التاسعة "معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل" أي لما عرف الشيطان أن ما تؤول إليه البدعة هو الكفر حسنها لهم ولم ينظر إلى حسن مقصدهم فيفسده عليهم بل زادهم رغبة فيه حتى يحصل ما يريد من الكفر.
العاشرة "معرفة القاعدة الكلية وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه" أي القاعدة الجامعة تقتضي النهي عن الغلو مطلقا لأنه يؤول إلى الكفر.
الحادية عشرة "مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح" أي لأنه صار سببا لعبادة هؤلاء من دون الله.
الثانية عشرة "معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها" أي معرفة النهي عن الصور والحكمة في إزالتها لأن بقاءها سبب لعبادتها من دون الله ولو بعد حين.
الثالثة عشرة "معرفة شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها" أي قصة الصالحين من قوم نوح ومعرفة شدة الحاجة إليها لئلا يجهلها الإنسان فيفعل كما فعلوا ومع هذا غفل عنها أكثر الناس فوقعوا فيما وقع فيه قوم نوح.
الرابعة عشرة "وهي أعجب وأعجب قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث ومعرفتهم بمعنى الكلام وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات فاعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال" أي أعجب شيء قراءة من يدعي العلم في هذه الأوقات قصة قوم نوح مع معرفتهم بمعنى الكلام ولكن حيل بينهم وبين معرفة التوحيد حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات فصوروا صور الصالحين وعظموا قبورهم وعبدوهم وجعلوا هذا الذي نهى الله ورسوله عنه هو أفضل الأعمال وإذا نهاهم أحد عن هذا حكموا عليه بالكفر والخروج عن الإسلام وقالوا: تنقصت الصالحين. وهذا معنى قول المؤلف: "فاعتقدوا أن ما نهى الله عنه ورسوله" إلخ، فما في كلامه مصدرية أي اعتقدوا أن نهي الله ورسوله - كما في بعض النسخ - فهم في الحقيقة قد عكسوا القضية فجعلوا الكفر إسلاما والإسلام كفرا.
الخامسة عشرة "التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة" أي أن الذين عبدوا هؤلاء الصالحين لم يريدوا إلا الشفاعة وإلا فكانوا مقرين أن الله هو الخالق الرازق النافع الضار.
السادسة عشرة "ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك" أي ظن الذين عبدوهم أن الذين قبلهم أرادوا الشفاعة وهم لم يريدوها وإنما فعلوا ذلك ليتذكروا أفعالهم.
السابعة عشرة "البيان العظيم في قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين" أي لا تمدحوني بالباطل ولا تتجاوزوا الحد في مدحي فتعبدوني كما عبدت النصارى المسيح لما غلوا فيه وهذا
من كمال نصحه صلى الله عليه وسلم.
الثامنة عشرة "نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين" أي المتكلفين المتشددين في غير موضع التشديد ومن التنطع رفع المخلوق فوق منزلته.
التاسعة عشرة "التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده" أي أن صور هؤلاء الصالحين وأنصابهم لم تعبد حتى فقد العلم فيؤخذ منه معرفة قدر وجود العلم ومضرة ذهابه لأن بوجوده حصل التوحيد وبفقده وجد الشرك.
العشرون "أن سبب فقد العلم موت العلماء" أي إذا ذهب أهله فقد كما في الحديث الصحيح: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء" الحديث.