المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعريف: الآداب، والأخلاق - الحديث الموضوعي - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الحديث الموضوعي - إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌تعريف الحديث الموضوعي، وبيان فوائده

- ‌إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌الدرس: 2 تابع: إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌تتمة الحديث عن إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌كيف يخلص العبد نيته لله تعالى

- ‌الدرس: 3 تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته

- ‌تعريف الإيمان، وبيان أنه قول وعمل

- ‌متعلقات الإيمان "الإيمان بالله وملائكته

- ‌الدرس: 4 تابع: تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته

- ‌تتمة الحديث عن الإيمان بالملائكة

- ‌من متعلقات الإيمان: الإيمان بالكتب السماوية، والإيمان بالرسل

- ‌الدرس: 5 أثر الإيمان في حياة الأمة

- ‌من آثار الإيمان: ترابط المسلمين وتآخيهم، وصيانة الأعراض، والحياء

- ‌من آثار الإيمان: ترك أذى المسلمين، وهجرة الذنوب

- ‌ما كتبه الشيخ سيد سابق رحمه الله تحت عنوان "ثمار الإيمان

- ‌الدرس: 6 علامات الساعة، وحكم الإيمان بها

- ‌علامات الساعة في حديث جبريل عليه السلام

- ‌حكم الإيمان بعلامات الساعة

- ‌الدرس: 7 علامات الساعة الصغرى - علامات الساعة الكبرى

- ‌من علامات الساعة الصغرى

- ‌رفع العلم، وثبوت الجهل، وشرب الخمر، وظهور الزنا، وقلة الرجال وكثرة النساء

- ‌علامات الساعة الكبرى

- ‌الدرس: 8 تابع: علامات الساعة الكبرى

- ‌طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة، وظهور المهدي

- ‌العلامات الكبرى

- ‌خروج المسيح الدجال، وما يتبعه من علامات

- ‌الدرس: 9 الفتن وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع فيها

- ‌الفتن: تعريفها، والمراد منها

- ‌تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في الفتن

- ‌الدرس: 10 كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌المراد بالتقوى في كيفية اتقاء المسلم للفتن

- ‌كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌الدرس: 11 تابع: كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌التورع عن الشبهات، وأكل الطيب من الحلال، والتحذير من أكل الحرام

- ‌فضل الورع والزهد، وما جاء في الشهرة، وباب الصمت وحفظ اللسان

- ‌الدرس: 12 الآداب والأخلاق الإسلامية

- ‌تعريف: الآداب، والأخلاق

- ‌دعوة الإسلام إلى الأخلاق الكريمة الفاضلة

- ‌الدرس: 13 الحياء من الإيمان

- ‌نماذج من الآداب والأخلاق الإسلامية

- ‌الحياء من الإيمان

- ‌الدرس: 14 الوفاء بالعهد، وحفظ السر

- ‌(الوفاء بالعهد

- ‌حفظ السر

- ‌الدرس: 15 الأمانة

- ‌الأمانة: تعريفها، والنصوص التي وردت فيها

- ‌المجالات التي تراعى فيها الأمانة

- ‌الدرس: 16 تابع: الأمانة - العدل

- ‌تتمة الحديث عن الأمانة

- ‌العدل، ونماذج من عدل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 17 الدعوة إلى الصدق، والتحذير من الكذب

- ‌تعريف الصدق، والدعوة إليه

- ‌تعريف الكذب، والتحذير منه

- ‌الدرس: 18 أدب الحديث في الإسلام، ولين الكلام واختيار الألفاظ

- ‌(أدب الحديث في الإسلام

- ‌لين الكلام واختيار الألفاظ

- ‌الدرس: 19 الدعوة إلى التواضع، والتحذير من الكبر

- ‌(الدعوة إلى التواضع

- ‌التحذير من الكبر

- ‌الدرس: 20 بر الوالدين، وصلة الرحم

- ‌(بر الوالدين

- ‌صلة الرحم

- ‌الدرس: 21 حق المسلم على المسلم، وجزاء من قام بهذه الحقوق

- ‌(حق المسلم على المسلم

- ‌جزاء من قام بهذه الحقوق

الفصل: ‌تعريف: الآداب، والأخلاق

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الثاني عشر

(الآداب والأخلاق الإسلامية)

‌تعريف: الآداب، والأخلاق

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين:

المراد بالآداب: ما يتأدَّب به المسلم من السِّمات والأوصاف الحميدة، وما يتخلَّق به المسلم من الأخلاق الحسنة الرفيعة، يقول ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى:"والأدب استعمال ما يُحمد قولًا وفعلًا، وعبَّر بعضهم عنه بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق، وقيل: الوقوف مع المستحسنات، وقيل: هو تعظيم من فوقك، والرفق بمن دونك، وقيل: إنه مأخوذ من المَأدبة، وهي الدعوة إلى الطعام، سُمّي بذلك؛ لأنه يُدعى إليه"، فالأدب هو الأخذ بمجامع الأخلاق الكريمة، وإذا أريد به الطعام أي: المأدبة فهو أيضًا يدل على أن الأدب خلق كريم طيب، يُعدّ الطعام؛ ليكون مأدبة يأكل منه الجياع، ويلجأ إليه المحتاجون.

ولقد جاء في (النهاية) لابن الأثير -رحمه الله تعالى: "أنه يُراد بالأدب المأدبة وهي الطعام الذي يصنعه الرجل يدعو إليه الناس، وكان العرب يتفاخرون بالمأدبة، ويدعون الناس جميعًا إليها لا يختارون أحدًا على أحد، ولذلك قال شاعرهم:

لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى

لا ترى الآدب فينا ينتقر

والقرآن الكريم عُرف بأنه مأدبة الله في الأرض، كما جاء في حديث ابن مسعود:((القرآن مأدبة الله في الأرض)) يعني: مدعاته أي: دعا الناس إليه للانتفاع به والأخذ منه، شُبّه القرآن بصنيع صنعه الله تعالى للناس لهم فيه خير ومنفعة.

يقول ابن الأثير في (النهاية) تحت مادة أدب يقول في حديث علي: "أما إخواننا بنو أمية فقادة أدبة، جمع آدب مثل كاتب وكتبة، وهو الذي يدعو إلى المأدبة وهي

ص: 211

الطعام الذي يصنعه الرجل يدعو إليه الناس، ومنه حديث ابن مسعود:((القرآن مأدبة الله في الأرض)) يعني: مدعاته للناس للخير والنفع.

تعريف الأخلاق: الأخلاق جمع خلق، وهو يُستعمل عند أهل اللغة في معانٍ كثيرة منها: الطبع، وهو الصفة الراسخة التي جُبل عليها الإنسان دون إرادة منه.

2 -

العادة: وهي الصفة الراسخة المكتسبة بالإرادة عن طريق المران والتدريب.

3 -

السجية: وتشمل المطبوع والمكتسب الذي أصبح عادة.

وقال ابن الأثير: الخُلق -بضم اللام وسكونها- الدين والطبع والسجية، وإليك ما جاء في (النهاية) في شرح معنى الخلق يقول: في مادة خلق يقول: في أسماء الله تعالى الخالق، وهو الذي أوجد الأشياء جميعها بعد أن لم تكن موجودة، وأصل الخلق التقدير، فهو باعتبار تقدير ما منه وجودها، وباعتبار الإيجاد على وفق التقدير خالق، وفي حديث الخوارج ((هم شرُّ الخلق والخليقة)) الخلق هو الناس، والخليقة البهائم، وقيل: هما بمعنًى واحد، ويريد بهما جميع الخلائق.

وفيه ((ليس في الميزان أثقل من حسن الخلق)) يُراد به الدين والطبع والسجية، وحقيقته: أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه، وأوصافها، ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخلق لصورته الظاهرة، وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة، والثواب والعقاب مما يتعلقان بأوصاف الصور الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة، ولهذا تكررت الأحاديث في مدح حسن الخلق في غير موضع، كقوله صلى الله عليه وسلم:((أكثرُ ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق))، وقوله صلى الله عليه وسلم:((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا))، وقوله

ص: 212

-صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليُدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم))، وقوله صلى الله عليه وسلم:((بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق))، وأحاديث من هذا النوع كثيرة، وكذلك جاء في ذم سوء الخلق أحاديث كثيرة، وفي حديث عائشة رضي الله عنها:((كان خلقه القرآن)) صلى الله عليه وسلم أي: كان متمسكًا بآدابه وأوامره ونواهيه، وما يشتمل عليه من المكارم والمحاسن والألطاف، وفي حديث عمر رضي الله عنه:((من تخلَّق للناس بما يعلم أنه ليس من نفسه شانه الله تعالى)) أي: تكلَّف أن يُظهر من خلقه خلاف ما ينطوي عليه مثل: تصنع، وتجمل إذا أظهر الصنيع والجميل (النهاية) لابن الأثير.

والأخلاق -كما سبق- منها ما هو محمود وهو ما يدعو إليه الإسلام، ومنها ما هو مذموم، وهو ما حذَّر منه الإسلام، وحسن الخلق وصف جميل تخلَّق به سيد الرسل صلى الله عليه وسلم قال تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، وفي تعريف الأخلاق قال الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكه الميداني في كتابه المشهور:((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) قال تحت عنوان تعريف الأخلاق: "يقتضينا البحث أولًا أن نميز الأخلاق عن غيرها من الصفات الإنسانية، وأن نميز أنواع السلوك التي هي آثار خلقية عن أنواع السلوك التي ليست آثارًا خلقية حتى نعرف موضوع البحث الذي نحن في صدده، فلا يختلط علينا ما ليس من قبيل الأخلاق بما هو منها، وما ليس سلوكًا أخلاقيًّا بما هو سلوك أخلاقي، ولدى المتأمل وإمعان النظر يتبيَّن لنا أن الخُلق صفة مستقرة في النفس، فطرية، أو مكتسبة، ذات آثار في السلوك محمودة أو مذمومة، فالخلق منه ما هو محمود، ومنه ما هو مذموم، والإسلام يدعو إلى محمود الأخلاق، وينهي عن مذمومها.

نستطيع أن نقيس مستوى الخلق النفسي عن طريق قياس آثاره في سلوك الإنسان، الصفة الخلقية المستقرة في النفس إذا كانت حميدة كانت آثارها حميدة،

ص: 213

وإذا كانت ذميمة كانت آثارها ذميمة، وعلى قدر قيمة الخلق في النفس تكون بحسب العادة آثاره في السلوك، إلا أن توجد أسباب معوّقة أو صوارف صادَّة عن ظهور آثار الخلق في السلوك.

وليست كل الصفات المستقرة في النفس من قبيل الأخلاق، بل منها غرائز ودوافع لا صلة لها بالخلق، ولكن الذي يفصل الأخلاق ويميزها عن جنس هذه الصفات كون آثارها في السلوك قابلة للحمد أو للذم، فبذلك يتميَّز الخلق عن الغريزة ذات المطالب المكافئة لحاجات الإنسان الفطرية.

إن الغريزة المعتدلة ذات آثار في السلوك إلا أن هذه الآثار ليست مما يُحمد الإنسان أو يُذم عليه، فالأكل عند الجوع بدافع الغريزة ليس مما يُحمد أو يُذمّ في باب السلوك الأخلاقي، لكن الشَّره الزائد عن حاجة الغريزة العضوية أمر مذموم؛ لأنه أثر وخلق في النفس مذموم هو الطبع المفرط، وعكس ذلك أثر لخلق في النفس محمود هو القناعة، والحذر من وقوع مكروه أثر من آثار غريزة حب البقاء، وليس محلًّا للمدح أو الذم في باب السلوك الأخلاقي، لكن الخوف الزائد عن حاجات هذه الغريزة أثر بخلق في النفس مذموم هو الجبن.

أما الإقدام الذي لا يصل إلى حدّ التهور فهو أثر لخلق في النفس محمود هو الشجاعة، وهكذا سائر الغرائز والدوافع النفسية التي لا تدخل في باب الأخلاق؛ إنما يميزها عن الأخلاق كون آثارها في السلوك أمورًا طبيعية ليست مما تُحمد إرادة الإنسان عليه أو تذم، والعبادات الإسلامية كلها تدعو إلى مكارم الأخلاق؛ فالصلاة تدعو إلى حسن الخلق، وتدعو صاحبها إلى البعد والانتهاء عن الفحشاء والمنكر، ومن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر؛ فلا صلاة له قال تعالى:{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} (الكهف: 27)،

ص: 214

{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45).

وكذلك الصوم يدعو إلى تقوى الله ومكارم الأخلاق، وعفة اللسان، يقول صلى الله عليه وسلم:((الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يفسق، ولا يرفث، ولا يصخب، وإن سابّه أحد أو شاتمه، فليقل: إني امرؤ صائم، إني امرؤ صائم))، ويقول صلى الله عليه وسلم:((مَنْ لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).

والزكاة تدعو إلى مكارم الأخلاق؛ فالمسلم يخرج زكاته ولا يمنّ على الفقير والمسكين؛ فتبطل زكاته، وتضيع صدقته قال تعالى:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 263: 265).

والحج يدعو إلى مكارم الأخلاق كسائر عبادات الإسلام، فالحج لا رفث فيه، ولا فسوق، ولا جدال، فالذي يُقبل حجة والذي تظهر عليه أخلاق الحجيج قال تعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 197)، وقال صلى الله عليه وسلم:((من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه)) رواه أحمد، والبخاري، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة.

ص: 215

وهكذا كل عبادات الإسلام سُمُوٌّ ورقي بالأخلاق، فالمسلم الحق الذي يقوم بما فرض الله عليه من عبادات تظهر عليه وعلى سلوكياته أخلاق كريمة فاضلة، دعت إليها هذه العبادات، وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله تعالى- في كتابه (خلق المسلم) يقول تحت عنوان أركان الإسلام ومبادئ الأخلاق، جاء ذلك في مقدمة الكتاب يقول:"لقد حدَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم الغاية الأولى من بعثته، والمنهاج المبين في دعوته بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق))، هذا الحديث رواه الإمام مالك بن أنس في (الموطأ) وغيره".

فكأن الرسالة التي خطَّت مجراها في تاريخ الحياة، وبذل صاحبها جهدًا كبيرًا في مدِّ شعاعها وجمع الناس حولها، لا تنشد أكثر من تدعيم فضائلهم، وإنارة آفاق الكمال أمام أعينهم؛ حتى يسعوا إليها على بصيرة، والعبادات التي شُرعت في الإسلام، واعتبرت أركانًا في الإيمان به ليست طقوسًا مبهمة من النوع الذي يربط الإنسان بالغيوب المجهولة، ويكلّفه بأداء أعمال غامضة، وحركات لا معنى لها، كلا، فالفرائض التي ألزم الإسلام بها كل منتسب إليه، هي تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة، وأن يظلَّ مستمسكًا بهذه الأخلاق مهما تغيرت أمامه الظروف، إنها أشبه بالتمارين الرياضية التي يُقبل الإنسان عليها بشغف ملتمسًا من المداومة عليها عافية البدن وسلامة الحياة، والقرآن الكريم والسنة المطهرة يكشفان بوضوح عن هذه الحقائق.

فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها فقال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت: 45) فالإبعاد عن الرذائل، والتطهير من سوء القول وسوء العمل هو حقيقة الصلاة، وقد جاء في حديث يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربِّه، رواه الإمام البزار، قال فيه صلى الله عليه وسلم فيما يرويه

ص: 216

عن ربه: ((إنما أتقبَّل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل على خلقي -يعني: لم يتكبر على خلقي- ولم يبت مصرًّا على معصيتي، وقطع النهار في ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة، ورحم المصاب)).

والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هي أولًا غرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات، وقد نصَّ القرآن الكريم على الغاية من إخراج الزكاة بقوله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: 103) فتنظيف النفس من أدران النقص، والتسامي بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى.

ومن أجل ذلك وسَّع النبي صلى الله عليه وسلم في دلالة كلمة الصدقة التي ينبغي أن يبذلها المسلم فقال: ((تبسُّمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة)) يعني: الرجل الأعمى لما تهديه تكون أنت مبصرًا له هذه صدقة.

وهذه التعاليم في البيئة الصحراوية التي عاشت دهورًا على التخاصم والنزق تشير إلى الأهداف التي رسمها الإسلام.

وكذلك شرَع الإسلام الصوم، فلم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة، بل اعتبره خُطوة إلى حرمان النفس دائمًا من شهواتها المحذورة، ونزواتها المنكورة، وإقرارًا لهذا المعنى قال الرسول صلى الله عليه وسلم:((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك

ص: 217

أحد أو جهل عليك؛ فقل: إني صائم)) رواه ابن خزيمة، والقرآن الكريم يُذكّر المسلم ثمرة الصيام بقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).

وقد يحسب الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة الذي كُلِّف به المستطيع، واعتبر من فرائض الإسلام على بعض أتباعه، يحسب الإنسان هذا السفر رحلة مجردة من المعاني الخلقية، ومثلًا لما قد تحتويه الأديان أحيانًا من تعبُّدات غيبية، وهذا خطأ؛ إذ يقول الله تعالى في الحديث عن هذه الشعيرة:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 197).

هذا العرض المجمل لبعض العبادات التي اشتُهر بها الإسلام عُرفت على أنها أركانه الأصيلة، نستبين منه متانة الأواصر التي تربط الدين بالخلق، إنها عبادات متباينة في جوهرها ومظهرها، ولكنها تلتقي عند الغاية التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) فالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام، هي مدارج الكمال المنشود، وروافد التطهر الذي يصون الحياة، ويُعلي شأنها، ولهذه السجايا الكريمة التي ترتبط بها، أو تنشأ عنها أعطيت منزلة كبيرة في دين الله، فإذا لم يستفد المرء منها ما يُزكي قلبه، وينقي لبَّه، ويهذب بالله ومن الناس صلته؛ فقد هوى قال الله عز وجل:{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} (طه:74: 76).

ص: 218