الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دعوة الإسلام إلى الأخلاق الكريمة الفاضلة
لقد بيَّنَّا فيما سبق أن الأخلاق تُطلق على ما يتخلَّق به الإنسان، وأن منها المحمود ومنها المذموم، والإسلام دعا إلى الأخلاق الكريمة المحمودة، وحذَّر من الأخلاق المذمومة، وقال صلى الله عليه وسلم كما سبق ((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
وكان صلى الله عليه وسلم أجمل الناس خلقًا وخلقًا قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4)، وقال تعالى واصفًا رسوله بالرحمة وحسن الخلق قال:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159)، وقال تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)، وحول دعوة الإسلام للأخلاق النبيلة الفاضلة، وأنه جاء بتعاليم سامية تدعو إلى السمو في الأخلاق والتعامل مع الناس من منطلق إيماني، وأخلاق إسلامية فاضلة.
يقول شيخنا الغزالي -رحمه الله تعالى- في كتابه (خلق المسلم): يقول تحت عنوان نحو عالم أفضل: "ظهر من هذه التعاليم -يقصد تعاليم الإسلام التي تحدث عنها- أن الإسلام جاء لينتقل بالبشر خُطوات فسيحات إلى حياة مشرقة بالفضائل والآداب، وأنه اعتبر المراحل المؤدّية إلى هذا الهدف النبيل من صميم رسالته، كما أنه عدَّ الإخلال بهذه الوسائل خروجًا عليه وابتعادًا عنه، فليست الأخلاق من مواد الترف التي يمكن الاستغناء عنها، بل هي أصول الحياة التي يرتضيها الدين، ويحترم ذويها".
وقد أحصى الإسلام بعدئذٍ الفضائل كلها، وحثَّ أتباعه على التمسك بها واحدة واحدة، ولو جمعنا أقوال صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم في التحلِّي بالأخلاق الزكية؛ لخرجنا بسفْر لا يُعرف مثله لعظيم من أئمة الإصلاح".
وقبل أن نذكر تفاصيل هذه الفضائل، وما ورد في كلٍّ منها على حدة، نُثبت طرفًا من دعوته الحارة إلى محامد الأخلاق، ومحاسن الشيم عن أسامة بن شريك قال:((كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم كأنما على رءوسنا الطير ما يتكلم منا متكلم؛ إذ جاء أناس فقالوا: من أحبّ عباد الله إلى الله تعالى؟ قال عليه الصلاة والسلام: أحسنهم خلقًا))، وفي رواية:((ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: خلق حسن))، وقال عليه الصلاة والسلام:((إن الفُحش والتفَحُش ليسا من الإسلام في شيء، وإن أحسن الناس إسلامًا أحسنهم خلقًا)).
وسُئل صلى الله عليه وسلم: ((أيُّ المؤمنين أكمل إيمانًا؟ قال: أحسنهم خلقًا)) رواه الطبراني، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا أخبركم بأحبكم إليَّ، وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة، فأعادها مرتين أو ثلاثًا، قالوا: نعم يا رسول الله. قال: أحسنكم خلقًا)) رواه الإمام أحمد، وقال عليه الصلاة والسلام:((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، إن الله يكره الفاحش البذيء، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة)) أخرجه أحمد.
هذا التصريح لو صدر عن فيلسوف يشتغل بشئون الإصلاح الخلقي فحسب، لما كان مستغربًا منه، إنما وجه العجب أن يصدر عن مؤسس دين كبير، والأديان عادة ترتكز في حقيقتها الأولى على التعبّد المحض، ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام دعا إلى عبادات شتَّى، وأقام دولة ارتكزت على جهاد طويل ضد أعداء كثيرين، فإذا كان مع سعة دينه وتشعُّب نواحي العمل أمام أتباعه يخبرهم بأن أرجح ما في موازينهم يوم الحساب الخلق الحسن، فإن دلالة ذلك على منزلة الخلق في الإسلام لا تخفى.
والحق أن الدين إن كان خلقًا حسنًا بين إنسان وإنسان فهو في طبيعته السماوية صلة حسنة بين الإنسان وربه، وكلا الأمرين يرجع إلى حقيقة واحدة، إن هناك أديانًا تُبشر بأن اعتناق عقيدة ما يمحو الذنوب، وأن أداء طاعة معينة يمسح الخطايا، لكن الإسلام لا يقول هذا، إلا أن تكون العقيدة المعتنقة محورًا لعمل الخير، وأداء الواجب، وأن تكون الطاعة المقترحة غُسلًا من السوء، وإعدادًا للكمال المنشود أي: أنه لا يمحق السيئات إلا الحسنات التي يطَّلع بها الإنسان ويرقى إلى مستوى أفضل، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على توكيد هذه المبادئ العادلة حتى تتبينها أمته جيدًا، فلا تهون لديها قيمة الخلق، وترتفع قيمة الطقوس.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن العبد ليبلُغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة، وأشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة، وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درجة في جهنم)) رواه الطبراني.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم))، وفي رواية ((إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجات قائم الليل وصائم النهار)) رواه أبو داود في سننه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن المسلم المسدَّد -يعني: الموفق- ليُدرك درجة الصُّوَّام القُوَّام بآيات الله بحسن خلقه، وكرم طبيعته)).
وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن كرم المؤمن دينه، مكانته هي الدين، وأن المروءة في العقل، وأنّ الحسب إنما هو في حسن الخلق، فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة قال عليه الصلاة والسلام:((كرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه)) رواه الحاكم.
وروى أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان، وجعل قلبه سليمًا، ولسانه صادقًا، ونفسه مطمئنة، وخلقته مستقيمة)) رواه ابن حبان،
وحسن الخلق لا يُؤسَّس في المجتمع بالتعاليم المرسلة، أو الأوامر والنواهي المجردة؛ إذ لا يكفي في طبع النفس على الفضائل أن يقول المعلم لغيره: افعل كذا أو لا تفعل كذا، فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة، ويتطلب تعهدًا مستمرًّا، ولن تصلح تربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة، فالرجل السيِّئ لا يترك في نفوس من حوله أثرًا طيبًا، وإنما يُتوقع الأثر الطيب ممن تمتدّ العيون إلى شخصه فيروعها أدبه، ويسبيها نبله، وتقتبس بالإعجاب المحض من خلاله، وتمشي بالمحبة الخالصة في آثاره، بل لا بد ليحصل التابع على قدر كبير من الفضل؛ ليكون في متبوعه قدر أكبر، وقسط أجل.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه مثلًا أعلى في الخلق الذي يدعو إليه، فهو يغرس بين أصحابه هذا الخلق السامي بسيرته العاطرة قبل أن يغرسه بما يقوله من حِكَم وعظات، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا))، وكان يقول:((خياركم أحاسنكم أخلاقًا))، وعن أنس رضي الله عنه قال:((خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي: أفٌّ قط، ولا قال لشيء: لما فعلت كذا، وهلَّا فعلت كذا)) رواه البخاري.
وعنه -يعني: عن أنس رضي الله عنه: ((إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت، وكان إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم يُرَ مقدمًا ركبتيه بين يد جليس له)) الحديث رواه الترمذي، يعني: أنه عليه الصلاة والسلام يتحفَّظ مع جلسائه فلا يتكبر عليهم.
وفي يسره وسهولته صلى الله عليه وسلم تُخبر عائشة رضي الله عنها عن هذا اليسر فتقول: ((ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان
أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم، وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى)) أخرجه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: ((كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي -يعني: كساء غليظ خشن- فأدركه فأعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد مُرْ لي من مال الله الذي عندك. فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك، وأمر له بعطاء)) رواه البخاري.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه))، وفي رواية ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنزع من شيء إلا شانه))، وعن جرير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق)) الحمق ((وإذا أحب الله عبدًا أعطاه الرفق))، وعن جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق)) أي: الحمق ((وإذا أحبَّ الله عبدًا أعطاه الرفق، ما من أهل بيت يُحرمون الرفق إلا حُرموا الخير كله))، وسئلت عائشة رضي الله عنها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل في بيته. قالت:((كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة)) معناه: أنه كان يساعدهم في عمل البيت.
وعن عبد الله بن الحارث قال: "ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ فطيم -يعني: صغير- يُسمى أبا عمير، لديه عصفور مريض اسمه النغير، فكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يُلاطف الطفل الصغير، ويقول له:((يا أبا عمير ما فعل النغير)) الحديث رواه البخاري.
والمعروف في شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان سمحًا لا يبخل بشيء أبدًا، شجاعًا لا ينكص عن حق أبدًا، عدلًا لا يجور في حكم أبدًا، صدوقًا أمينًا في أطوار حياته كلها، وقد أمر الله المسلمين أن يقتدوا به في طيب شمائله، وعريك خلاله فقال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21). قال القاضي عياض: "كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعًا قد سبقهم إليه، واستبرأ الخبر على فرس لأبي طلحة عُريٌ، والسيف في عنقه، وهو يقول:((لن تُراعوا))، وقال علي رضي الله عنه:((إنا كنا إذا حمى البأس واحمرت الحدق، نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد أقرب إلى عدوٍّ منه)).
وعن جابر رضي الله عنه قال: "ما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا". وقد قالت له خديجة: "إنك تحمل الكلَّ، وتُكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق " وحُمل إليه سبعون ألف درهم، فوضعت على حصير، ثم قام إليها يقسّمها، فما ردَّ سائلًا حتى فرغ منها.
"وجاء رجل فسأله صلى الله عليه وسلم فقال له: ((ما عندي شيء، ولكن ابتع عليَّ)) ((فإذا جاءنا شيء قضيناه))، فقال له عمر: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه يا رسول الله، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالًا، فتبسم صلى الله عليه وسلم وعُرف البشر في وجهه وقال:((بهذا أمرت)).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤلف أصحابه ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر النار ويحترس منهم، من غير أن يطوي عن أحد منهم يتفقد أصحابه، ويعطي كل جلسائه نصيبه، لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاربه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يردُّه إلا بها، أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبًا، وصاروا عنده في الحق سواء.
وكان دائم البشر، سهل الطبع، لين الجانب، ليس بفظٍّ، ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحَّاش، ولا عتَّاب، ولا مدَّاح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه قاصده.
وعن عائشة رضي الله عنها: "ما كان أحد أحسن خلقًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلا قال: لبيك"، وقال جرير بن عبد الله رضي الله عنه:"ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم، وكان يُمازح أصحابه، ويخالطهم، ويجاريهم، ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر، والعبد، والأمة، والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عُذر المعتذر". قال أنس: "ما التقم أحد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: ناجاه، فينحي رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه" أي: هو الذي يبتعد، وما أخذ أحد بيده فيرسل عليه الصلاة والسلام يده حتى يرسلها الآخر، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، لم يُر قط مادًّا رجليه بين أصحابه، فيضيّق بهما على أحد يُكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه ليجلس عليه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويعزم عليه في الجلوس عليها إن أبى، ويكني أصحابه ويدعوهم بأحب أسمائهم؛ تكرمة لهم، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يتجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام".
وعن أنس رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بهدية قال: اذهبوا بها إلى بيت فلانة، إنها كانت تحب خديجة" هذا من الوفاء، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما غِرت على امرأة ما غرت على خديجة، لما كنت أسمعه يذكرها عليه الصلاة والسلام وإن كان ليذبح الشاة، فيهديها إلى خلائلها -يعني: إلى أصدقائها- واستأذنت عليه أختها، فارتاح إليها، ودخلت عليه امرأة فهشَّ لها، وأحسن السؤال عنها، ولما خرجت قال:((إنها كانت تأتينا في أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)).
وكان صلى الله عليه وسلم يصل رحمه من غير أن يؤثرهم على من أفضل منهم، وعن أبي قتادة رضي الله عنه قال:((لما جاء وفد النجاشي قام النبي صلى الله عليه وسلم يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نكفيك يا رسول الله. فقال عليه الصلاة والسلام: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم)).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوكئًا على عصى، فقمنا له فقال: لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يُعظّم بعضهم بعضًا، وقال: إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد، وكان يركب الحمار، ويُردف خلفه من يركب معه، ويعود المساكين، ويُجالس الفقراء، ويجلس بين أصحابه مختلطًا بهم حيثما انتهى به المجلس جلس))، "وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحل رثٍّ عليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم فقال:((اللهم حجة لا رياء فيها ولا سُمعة، ولما فتحت عليه مكة ودخلها بجيوش المسلمين طأطأ رأسه على راحلته حتى كاد أن يمسَّ قادمته؛ تواضعًا لله تعالى)).
وكان كثير السكوت لا يتكلم في غير حاجة يُعرض عمن تكلم بغير جميل، وكان ضحكه تبسمًا، وكلامه فصلًا لا فضول فيه ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم؛ توقيرًا واقتداء به، مجلسه مجلس حلم، وخير، وأمانة، لا تُرفع فيه
الأصوات، ولا تُخدش فيه الحرم، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رءوسهم الطير، وإذا مشى مشى مجتمعًا يُعرف في مشيته أنه غير ضاجر ولا كسلان.
وقال ابن أبي هالة: كان سكوته على أربع على الحلم والحذر، والتقدير والتفكر. وقالت عائشة رضي الله عنها:((كان يُحدث حديثًا لو عدَّه العادُّ أحصاه))، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الطيب والرائحة الحسنة، ويستعملها كثيرًا، وقد سيقت إليه الدنيا بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحها فأعرض عن زهرتها، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله، ها هي الأخلاق الحميدة الفاضلة الكريمة، التي دعا إليها الإسلام في القرآن الكريم، وعلى لسان النبي المصطفى الكريم، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.