المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تتمة الحديث عن إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال - الحديث الموضوعي - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الحديث الموضوعي - إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌تعريف الحديث الموضوعي، وبيان فوائده

- ‌إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌الدرس: 2 تابع: إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌تتمة الحديث عن إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌كيف يخلص العبد نيته لله تعالى

- ‌الدرس: 3 تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته

- ‌تعريف الإيمان، وبيان أنه قول وعمل

- ‌متعلقات الإيمان "الإيمان بالله وملائكته

- ‌الدرس: 4 تابع: تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته

- ‌تتمة الحديث عن الإيمان بالملائكة

- ‌من متعلقات الإيمان: الإيمان بالكتب السماوية، والإيمان بالرسل

- ‌الدرس: 5 أثر الإيمان في حياة الأمة

- ‌من آثار الإيمان: ترابط المسلمين وتآخيهم، وصيانة الأعراض، والحياء

- ‌من آثار الإيمان: ترك أذى المسلمين، وهجرة الذنوب

- ‌ما كتبه الشيخ سيد سابق رحمه الله تحت عنوان "ثمار الإيمان

- ‌الدرس: 6 علامات الساعة، وحكم الإيمان بها

- ‌علامات الساعة في حديث جبريل عليه السلام

- ‌حكم الإيمان بعلامات الساعة

- ‌الدرس: 7 علامات الساعة الصغرى - علامات الساعة الكبرى

- ‌من علامات الساعة الصغرى

- ‌رفع العلم، وثبوت الجهل، وشرب الخمر، وظهور الزنا، وقلة الرجال وكثرة النساء

- ‌علامات الساعة الكبرى

- ‌الدرس: 8 تابع: علامات الساعة الكبرى

- ‌طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة، وظهور المهدي

- ‌العلامات الكبرى

- ‌خروج المسيح الدجال، وما يتبعه من علامات

- ‌الدرس: 9 الفتن وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع فيها

- ‌الفتن: تعريفها، والمراد منها

- ‌تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في الفتن

- ‌الدرس: 10 كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌المراد بالتقوى في كيفية اتقاء المسلم للفتن

- ‌كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌الدرس: 11 تابع: كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌التورع عن الشبهات، وأكل الطيب من الحلال، والتحذير من أكل الحرام

- ‌فضل الورع والزهد، وما جاء في الشهرة، وباب الصمت وحفظ اللسان

- ‌الدرس: 12 الآداب والأخلاق الإسلامية

- ‌تعريف: الآداب، والأخلاق

- ‌دعوة الإسلام إلى الأخلاق الكريمة الفاضلة

- ‌الدرس: 13 الحياء من الإيمان

- ‌نماذج من الآداب والأخلاق الإسلامية

- ‌الحياء من الإيمان

- ‌الدرس: 14 الوفاء بالعهد، وحفظ السر

- ‌(الوفاء بالعهد

- ‌حفظ السر

- ‌الدرس: 15 الأمانة

- ‌الأمانة: تعريفها، والنصوص التي وردت فيها

- ‌المجالات التي تراعى فيها الأمانة

- ‌الدرس: 16 تابع: الأمانة - العدل

- ‌تتمة الحديث عن الأمانة

- ‌العدل، ونماذج من عدل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 17 الدعوة إلى الصدق، والتحذير من الكذب

- ‌تعريف الصدق، والدعوة إليه

- ‌تعريف الكذب، والتحذير منه

- ‌الدرس: 18 أدب الحديث في الإسلام، ولين الكلام واختيار الألفاظ

- ‌(أدب الحديث في الإسلام

- ‌لين الكلام واختيار الألفاظ

- ‌الدرس: 19 الدعوة إلى التواضع، والتحذير من الكبر

- ‌(الدعوة إلى التواضع

- ‌التحذير من الكبر

- ‌الدرس: 20 بر الوالدين، وصلة الرحم

- ‌(بر الوالدين

- ‌صلة الرحم

- ‌الدرس: 21 حق المسلم على المسلم، وجزاء من قام بهذه الحقوق

- ‌(حق المسلم على المسلم

- ‌جزاء من قام بهذه الحقوق

الفصل: ‌تتمة الحديث عن إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الثاني

(تابع: إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال)

‌تتمة الحديث عن إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

تناولنا بعض الأحاديث المتعلقة بإخلاص النية لله تعالى، وقلنا: إن المدار كله في الإسلام قائم على إخلاص النية لله تعالى، وها نحن نكمل ما بدأناه:

فإن النية عندما تكون خالصة لله تعالى تكون سببًا في نجاة العبد من المهالك؛ فالذي يعمل، ولا يقصد إلا وجه الله ينجيه الحق سبحانه وتعالى ويجعل له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، وها هم ثلاثة نفر انطلقوا فألجأهم الليل إلى مبيت في غار في جبل؛ فلما دخلوا الغار سقطت صخرة على باب الغار، أو على فم الغار فأغلقته، والصخرة كبيرة، وتيقن أولئك النفر أنهم هالكون، كيف يزحزحون الصخرة الكبيرة عن فم الغار وهم في داخل الغار؟ وفكروا في الأمر.

وأخيرًا هداهم الله تعالى إلى أنهم لن ينجيهم مما هم فيه إلا اللجوء إلى الله وحده، والدعاء إليه، والتضرع بخالص الأعمال، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((انطلق ثلاثةُ نفرٍ ممن كان قبلكم حتى أواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرةٌ من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعو الله بصالح أعمالكم، قال رجل منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا والغبوق هو الشرب بالعشي يقول: فنأى بي طلب الشجر فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لها غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا فلبثت، والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، والصبية يتضاغون، أي يبكون من الجوع عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، يقول اللهم: إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك؛ ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج منه، وقال الآخر اللهم: إنه كانت لي ابنة عم كانت أحبَّ الناس إلي)).

ص: 27

وفي رواية: ((كنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء فراودتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت يعني نزلت بها سنة من السنين، يعني: جدب وفقر في سنة من السنين؛ فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها)).

وفي رواية: ((فلما قعدت منها قالت: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه؛ فانصرفتُ عنها، وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك؛ فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال: الثالث اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره يعني نميته حتى كثرت منه الأموال فجاء بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلي أجري فقلت كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: لا أستهزئ بك؛ فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا، اللهم: إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجنك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)) الحديث متفق عليه في البخاري في الجزء الرابع ص 340، و369 وفي الجزء الخامس ص12 وفي الجزء السادس في ص367 وفي الجزء العاشر في ص338 وفي صحيح مسلم الحديث برقم الحديث برقم 2473.

قال الشيخ شعيب الأرناءوط معلقًا على هذا الحديث في هامش (رياض الصالحين) الذي حقق نصوصه، وخرج أحاديثه، وعلق عليه قال: وفي الحديث مشروعية الدعاء عند الكرب، أو عند الكرب، والتوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح، وفضل بر الوالدين، وخدمتهما، وإيثارهما على من سواهما من الولد

ص: 28

والزوجة، وفضل العفة، ومخالفة الهوى، وفضل السماحة في المعاملة، وأداء الأمانة، وإثبات كرامات الأولياء.

ولنعد إلى أهم حديث في النية: والذي ابتدأ به الإمام البخاري كتابه الصحيح ألا وهو حديث: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه)) ولأهمية هذا الحديث سأتناوله بالشرح بالتفصيل.

المعنى العام للحديث:

في هذا الحديث يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الله مطلع على النوايا، وخبايا النفوس لا تخفى عليه خافية في الأرض، ولا في السماء وأنه سبحانه وتعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، وكل امرئ له ما نواه، وإن أعظم حدث في تاريخ الإسلام ألا وهو الهجرة من مكة إلى المدينة، وترك الولد والوطن، والمال إذا لم يكن ذلك بدافع من ضمير المسلم حبًّا في نصرة دين الله، وهجرة إلى مكان يمكن فيه أن يعبد الله، وأن يجهر بدعوته، أي: أن الهجرة تكون خالصةً لله ولرسوله إذا لم تكن كذلك؛ فلا قيمة لها ((فمن كانت هجرته إلى دنيا)) أي: إلى الحصول على متاع رخيص من مُتَعِ الدنيا فهجرته إلى دنياه التي هاجر من أجلها، ومن كانت هجرته من أجل امرأة يريد أن يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه، ولا شيء له في فضلِ الله ورضوانه.

قال الله تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملًا وأشرك فيه معي غيري تركته، وشريكه)) فمن عمل عملًا، وأشرك فيه غير الله باء ذلك العمل

ص: 29

بالخسران، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله؛ فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)).

توضيح الحديث: قلت في توضيحه النيات جمع نية، والنيَّة بكسر النون وتشديد الياء على المشهور، وفي بعض اللغات بتخفيفها أي: النَّيَة. وقال الخطابي: النية هي قصدك الشيء بقلبك، وتحري الطلب منك له، وقال التيمي: هي وجهة القلب. وقال الإمام البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقًا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالًا ومآلًا.

مناسبة رواية جمع النية، يعني: قوله: ((بالنيات)) إن ذلك من مقابلة الجمع بالجمع، أي: كل عمل بنية. وقال الخوبي: كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع، كما تتنوع الأعمال فمن قصد بعمله وجه الله، أو تحصيل موعوده، أو الاتقاء لوعيده، كما قصد بعمله وجه الله، أو بتحصيل موعوده، أو الاتقاء لوعيده.

مناسبة رواية إفراد النية: لأن هناك رواية تقول: ((إنما الأعمال بالنية)) وقع ذلك في معظم الروايات، ومناسبته أن محل النية القلب، وهو متحد؛ فناسب إفرادها بخلاف الأعمال؛ فإنها متعلقة بالظواهر وهي متعددة فناسب جمعها؛ ولأن النية ترجع إلى الإخلاص، وهو واحد لله الواحد الذي لا شريك له، وتركيب:((إنما الأعمال بالنيات)) يفيد الحصر عند المحققين وجه إفادة الحصر قيل: إن وجه إفادة هذا التركيب للحصر؛ لأن الأعمال جمع محلى بالألف، واللام مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر؛ لأن معناه كل عمل بنية؛ فلا عمل إلا بنية. وقيل: لأن إنما للحصر، إفادة إنما الحصر.

قال ابن دقيق العيد: استدل على إفادة، إنما للحصر بأن ابن عباس رضي الله عنهما استدل على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة؛ بحديث:((إنما الربا في النسيئة)) وعارضه

ص: 30

جماعة من الصحابة في الحكم، ولم يخالفوه في فهمه؛ فكان كالاتفاق منهم على أن "إنما" تفيد الحصر.

هل النية شرط أم ركن لقبول الأعمال؟ الراجح: أن النية ركن في أول العبادة، ويشترط استصحابها إلى آخرها، بأن تعرى عن المنافي، ولا يرد على ذلك، نحو: صوم رمضان بنية قضاء، أو نذر حيث لم يقع عن ذلك مع نيته لعدم قابلية المحل، والضرورة في الحج حيث لم يقع حجه للمستأجر مع نيته، بل للناوي مع عدم نيته لنفسه؛ لأن نفس الحج وقع، ولو كان بغير المنوى له، والفرق بينه، وبين نية القضاء، أو النذر في رمضان حيث لا يصح مطلقًا أن التعيين ليس بشرط في الحج بل له أن يحرم مطلقًا، ثم يصرفه إلى ما شاء؛ ولذا لو أحرم بنفله، وعليه فرضه انصرف للغرض انصرف للفرض، ولا كذلك الصوم.

وأما إزالة النجاسة: حيث لا يفتقر إلى نية؛ فلأنها من قبيل المتروك نعم يفتقر إليها من حيث الثواب كترك الزنا لا يثاب عليه إلا إذا قصد أنه تركه امتثالًا للشرع، وكذلك نحو القراءة، والأذان، والذكر لا يحتاج إلى نية لصراحتها إلا لغرض الإثابة وخرج ذلك. إما بدليل آخر لاستحالة دخوله في النية كالنية، ومعرفة الله تعالى؛ لأن النية لو توقفت على نية كان ذلك تسلسل، ودور وهما محالان، ومعرفة الله تعالى لو توقفت على نية؛ لكان عارفًا قبل المعرفة لينوي، وهذا أيضًا محال.

محل النية: والنية محلها القلب؛ فلا يكفِي النطقُ بها مع غفلته، نعم هو مستحب ليساعد اللسان القلب.

شرط النية: وشروطها إسلام الناوي وتمييزه أي أن يكون مميزًا وعمله بالمنوي والجزم شك لا يصح فإن شك في حدثه فتوضأ احتياطًا ثم بان تبين أنه محدث لم

ص: 31

يجزه الوضوء لأنه كان مترددًا في النية بلا ضرورة بخلاف ما إذا لم يظهر حدثه؛ فإنه يجزيه للضرورة، والقصد بها تمييز العبادة عن العادة، أو تمييز رتبة العبادة، ووقتها في وقت النية أول العبادات إلا في الصوم لعسر مراقبة الفجر امرئ بكسر الراء، وهي لغة القرآن الكريم معرب من وجهين؛ فإذا كان فيه ألف الوصل كان فيه ثلاث لغات، الأولى وهي لغة القرآن الكريم إعرابها على كل حال قال تعالى:{إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ} (النساء: 176)، وقال تعالى:{يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (الأنفال: 24) اللغة الثانية فتح الراء على كل حال امرأ يعني يقال امرءًا، الثالثة ضمها على كل حال أي ضم الراء؛ فإذا حذفت ألف الوصل قلت: هذا مرءٌ، وذاك مرءً ومررت بمرءٍ، وجمعه من غير لفظه، تقول: رجال أو قوم.

ثم ننتقل إلى الهجرة. ومعناها: فالهجرة هي الترك، والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره. وفي الشرع ترك ما نهى الله عنه.

وقد وقعت في الإسلام على وجهين الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كما في هجرتي الحبشة الأولى، والثانية، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة، الثاني الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان؛ وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة؛ إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة إلى أن فتحت مكة؛ فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان لمن قدر عليه باقيه والهجرة الاصطلاحية، والتي أريد بها المهاجرون في القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} (التوبة: 100) المهاجرون هنا تعريف الهجرة بالنسبة لهم، ولمن جاء بعدهم إلى يوم القيامة هي الانتقال من مكة

ص: 32

إلى المدينة قبل فتح مكة. أما بعد فتح مكة فتكون هجرة لغة فقط؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا هجرة بعد الفتح -أي: لا هجرة اصطلاحية- ولكن جهاد ونية)) كما في الحديث ((وإذا استنفرتم فانفروا)).

وقد قسم بعض العلماء الهجرة إلى خمسة أقسام:

الأولى: الهجرة إلى الحبشة.

الثانية: الهجرة من مكة إلى المدينة.

الثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الرابعة: هجرة من أسلم من أهل مكة.

الخامسة: هجرة ما نهى الله عنه.

وأضاف بعضهم ثلاثة أقسام أخرى:

أولها: الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة؛ فإن الصحابة هاجروا إليها مرتين.

الثانية: هجرة من كان مقيمًا ببلاد الكفر، ولا يقدر على إظهار الدين؛ فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى دار الإسلام، كما صرح بذلك بعض العلماء.

الثالثة: الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن كما روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم، وهاجر إبراهيم عليه السلام ويبقى في الأرض شرارُ أهلها)) جاء ذلك في (فتح الباري) في الجزء الأول ص40 حكم الهجرة بعد فتح مكة، وتمكين الإسلام في الأرض.

أقول: بعد ما تمكن الإسلام من النفوس، وأصبح له دولة بالمدينة المنورة، وفتح الله مكة، قال صلى الله عليه وسلم:((لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية)) وعلى ذلك من

ص: 33

هاجر بعد الفتح لا يكون كالمهاجرين السابقين على الفتح، ولا يأخذ حكم المهاجرين.

أما الفرار من بلاد الظلم إلى بلاد العدل، والإيمان فباقيةُ إلى قيام الساعة، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 97) وأما هجرة الذنوب والمعاصي فباقية أيضًا إلى قيام الساعة قال صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانِهِ ويدهِ، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) دنيا بضم الدال.

وحكى ابن قتيبة كسرها فقال: "دنيا" وهي فعلى، وفعلى من الدنو، وهو القرب سميت بذلك لسبقها للأخرى، وقيل: سميت بذلك لدنوهَا إلى الزوال. واختلف في حقيقتها، فقيل: الدنيا ما على الأرض من الضوء، والجو وقيل كل المخلوقات من الجواهر والأعراض، والأولى هو الأول، لكن يزاد فيه قبل قيام الساعة.

يصيبها، أي: يحصلها؛ لأن تحصيلها كإصابة الغرض بالسهم، بجامع حصول المقصود في كلٍّ، أو امرأة بعد أن تكلم عن الدنيا نص على المرأة ليبين الاهتمام بشأنها؛ فالتنصيص عليها من الخاص بعد العام، ويكون للاهتمام بالشيء ونكتة الاهتمام بها زيادة التحذير؛ لأن الافتتان بالمرأة أشد فهجرته إلى ما هاجر إليه مقابل فهجرته إلى الله ورسوله؛ فأظهر في فهجرته إلى الله، ورسوله؛ لقصده الالتذاذ بذكر الله تعالى.

وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظم شأنهما وشأن هذه الهجرة التي كانت لله ولرسوله وأضمر في الهجرة الثانية الهجرة من أجل الدنيا والمرأة أضمر فقال: ((فهجرته إلى ما هاجر)) إليه. أي: إلى ما هاجر إليه من الدنيا

ص: 34

والمرأة؛ لأن السياق يشعر بالحث على الإعراض عنهما، وأن ذلك قبيح، ولكن يكون قبيحًا إذا كان الأمر خالصًا للدنيا والمرأة، أو لأحدهما أما لو اقترنت الهجرة بالزواج فلا شيء فيها، ولكن درجتها أقل من الهجرة الخالصة.

قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): من نوى بهجرته مفارقةَ دار الكفر وتزوج المرأة معًا لا تكون قبيحةً، ولا تكون هجرته غير صحيحة، بل هي ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة؛ فإنه يثاب على قصد الهجرة، لكن دون ثواب من أخلص، وكذا من طلب التزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله تعالى؛ لأنه من الأمر المباح الذي يثاب فاعله إذا قصد به القربى كالإعفاف.

ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة: فيما رواه النسائي عن أنس قال: تزوج أبو طلحة أم سليم؛ فكان صداق ما بينهما الإسلام أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة؛ فخطبها أبو طلحة، فقالت: إني قد أسلمت؛ فإن أسلمت تزوجتك فأسلم فتزوجته، وهو محمول على أنه رغب في الإسلام أولًا، ودخله من وجهه، وضم إلى ذلك إرادة التزويج، وهو مباح؛ فصار كمن نوى بصومِهِ العبادة والحمية، يعني: الصحة، أو بطوافه العبادة، وملازمة الغريم.

واختار الغزالي فيما يتعلق بالثواب: أنه إن كان القصد الدنيوي، هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أجر بقدره، أي: كان الأغلب القصد الديني، وإن تساويا فتردد القصد بين الشيئين، فلا أجر؛ أما إذا نوى العبادة، وخالطها بشيء مما يغاير الإخلاص؛ فقد نقَلَ أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف بأن الاعتبار بالابتداء؛ فإن كان ابتداؤه لله خالصًا لم يضره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب وغيره.

ص: 35

الإعراب، أي: إعراب الحديث:

" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" أي: سمعت كلامه حال كونه يقول؛ فجملة يقول حال مبنية للمحذوف المقدر بكلام؛ لأن الذات لا تسمع.

وقال الأخفش: إذا عُلِّقَت سمعت بغير مسموع، كسمعت زيدًا يقول: فهي متعدية إلى مفعولين الثاني، منهما جملة جملة، يقول: وليس التعدي إلى مفعولين خاصًّا بباب أعطيت، أو ظننت خلافًا لبعضهم، فقد ألحق بهما أفعال التعبير، وضرب مع المثل نحو قوله تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} (النحل: 75).

ورأى الحلمي لقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (يوسف: 36) وأتى بيقول المضارع في رواية من ذكرها بعد مقال الماضي، إما حكاية لحال وقوع السماع، أو لإحضار ذلك في ذهن السامعين؛ تحقيقًا وتأكيدًا له، وإلا فالأصل: أن يقال: قال، كما جاء في رواية أخرى ليطابق سمعت.

بالنيات: الباء للمصاحبة أو السببية، ويظهر أثر ذلك في أن النية شرط، أو ركن، والراجح: أنها ركن في أول العبادة، ويشترط استصحابها إلى آخرها بأن تعرى عن المنافي.

إلى دنيا يصيبها: إلى حرف جر، ودنيا مجرورة بإلى، وعلامة الجر الكسرة منع من ظهورها التعذر، ويصيب فعل مضارع مرفوع؛ لتجرده من الناصب والجازم، والهاء ضمير ضمير مفعول به يعود على دنيا يصيبها جملة في موضع جر صفة لدنيا؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه هذه الجملة جواب الشرط في قوله "فمن".

سبب ورود هذا الحديث.

وقد اشتهر أن سبب ورود هذا الحديث قصة مهاجر، أم قيس المروية في (المعجم الكبير) للطبراني بإسناد رجاله ثقات من رواية الأعمش، وغيره ولفظه عن أبي

ص: 36

وائل عن ابن مسعود، قال: كان فينا رجل خطب امرأةً يقال لها: أم قيس فأبت أن تتزوجه، حتى يهاجر؛ فهاجر فتزوجها، قال: فكنا نسميه مهاجر أم قيس.

وذكر أبو الخطاب ابن دحية: أن اسم المرأة قيلة، وأما الرجل: فلم يذكره أحد ممن صنف في الصحابة وما قيل إن اسمه حاطب لم يثبت وهذا السبب. وإن كان خاص المورد لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

منزلة هذا الحديث بين الأحاديث:

اعلم: أن هذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام. قال أبو داود: يكفي الإنسان لدينِهِ أربعة أحاديث:

1 -

((الأعمال بالنية)).

2 -

من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

3 -

((ولا يكون المؤمن مؤمنًا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه))، ((والحلال بين والحرام بين)) وذكره غيره غيرَ هذه الأحاديث؛ فبعضهم جعل حديث:((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) من هذه الأحاديث، وبعضهم جعل حديث:((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد ما في يدِ الناس يحبك الناس)) واحدًا من هذه الأحاديث الأربعة.

وقال الشافعي وأحمد: إن هذا الحديث يدخل فيه ثلث العلم. قال البيهقي موضحًا ذلك: إذ كسب العبد إما بقلبه، أو بلسانه أو ببقية جوارحه والنية هي عمل القلب فهي تقوم بالثلث وعن الشافعي أيضًا أنه يدخل فيه نصف العلم ووجهه بأن للدين ظاهرًا وباطنًا. والنية: متعلقة بالباطن، والعمل هو الظاهر؛ وأيضًا فالنية عبودية بالقلب، والعمل عبودية بالجوارح.

ص: 37

وقال الشيخ محمد أنور الكشميري: واعلم أن الحديث تكلموا عليه قديمًا وحديثًا وهو من أساس الدين حتى روي عن الشافعي -رحمه الله تعالى- أنه يدخل فيه نصف العلم. وروي عن أحمد -رحمه الله تعالى- أنه ثلث الإسلام، أو ثلث العلم، وقيل: ربعه كما قيل:

عمدةُ الخيرِ عندنا كلمات

أربع قالهن خيرُ البرية

اتق الشبهات وازهد

ودع ما ليس يعنيكَ واعملن بنية

ثم قال: ونسبهما علي القاري -رحمه الله تعالى- إلى الإمام الشافعي أي: هذه الأبيات -رحم الله الجميع- وهو سهو من الشيخ علي القاري، بل هما لشاعر آخر، كما علم ذلك من (شروح عقود الجمان) للسيوطي -رحمه الله تعالى.

ما يؤخذ وما يستفاد من هذا الحديث:

هذا الحديث فيه فوائد كثيرة منها: يجب أن يكون العمل خالصًا لله تعالى فالله سبحانه وتعالى أغنى الشركاء عن الشرك؛ فمن عمل عملًا أشرك فيه غير الله تركه الله وشريكه قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة} (البينة: 5) وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (الزمر: 11).

الفائدة الثانية: النية ركن في الأعمال، فأي: عمل لا يبتدئ بالنية، وتصاحبه النية إلى نهايته، فهو عمل باطل ومردود على صاحبه.

الفائدة الثالثة: أن الإنسان مجزي، ومحاسب على ما يقدمه، قال تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَ} (الزلزلة: 7، 8)، وقال تعالى:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (الأنبياء: 47).

ص: 38