الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس التاسع عشر
(الدعوة إلى التواضع
، والتحذير من الكبر)
الدعوة إلى التواضع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
إن الإسلام دعا إلى التواضع وحبب فيه، وجاء في التواضع آيات قرآنية كريمة دعت إليه ورغبت فيه، لقد دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن ينخفض جناحه للمؤمنين، وهي دعوة لكل مسلم ومسلمة، قال تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215).
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التواضع في أحاديث كثيرة، وبين صلى الله عليه وسلم أن المسلم لا يزيده التواضع إلا عزًّا، وأن المتواضع قريب إلى الله قريب إلى الناس، وذكر صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أوحى إليه أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد عن أحد، وبين صلى الله عليه وسلم أن المسلم يتواضع لأخيه المسلم فلا يحقره ولا يستصغره؛ قال صلى الله عليه وسلم:((المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره؛ كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه)).
ولقد ذكرت سابقًا أن القرآن الكريم نزلت به آيات كريمة دعت إلى التواضع للناس؛ من هذه الآيات الآية التي ذكرتها آنفًا وهي قول الحق سبحانه وتعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215)، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (المائدة: 54) فبينت هذه الآية الكريمة أن الله تعالى يحب أناس من المؤمنين ويحبونه؛ قدم محبته لهم على محبتهم إياه، وبين أن أهم وصف لهم أنهم متواضعون لله؛ فهم أذلة على المؤمنين؛ أي متواضعون للمؤمنين، وأعزة وأشداء على الكفار.
وهذا ما ورد أيضًا في قوله تعالى في سورة "الفتح": {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} {(الفتح: 29) فهم كما ترى أشداء على الكفار رحماء بينهم، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13).
فالناس من أب واحد هو آدم عليه السلام وأم واحد هي حواء زوجة آدم؛ إذًا يجب التواضع لكل خلق الله؛ إذ كلهم لآدم، وآدم من تراب قال تعالى:{فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32)، وقال تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} (الأعراف: 48، 49).
ولقد ذكر الإمام النووي في كتابه (رياض الصالحين) أحاديث جاءت في التواضع، نذكرها كما رواها، قال رحمه الله باب: التواضع وخفض الجناح للمؤمنين، ثم قدم للأحاديث بآيات قرآنية نزلت في التواضع ذكرتها فيما سبق، وإليكم الأحاديث كما ذكرها في هذا الكتاب:
يقول الإمام النووي عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)) رواه مسلم في (صحيحه).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) رواه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. حديث متفق عليه؛ أي كان صلى الله عليه وسلم من تواضعه الجم يسلم حتى على الصبيان في الطرقات.
وعن أنس أيضًا رضي الله عنه قال: إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة -يريد المرأة- لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت. رواه البخاري؛ أن يمشي مع الأمة التي تريد أن يمشي معها ليقضي لها حاجتها.
وعن الأسود بن يزيد رضي الله عنه قال: سئلت عائشة رضي الله عنها ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته قالت: كان يكون في مهنة أهله -يعني خدمت أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. رواه البخاري.
وعن أبي رفاعة تميم بن أسيد رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي فأوتي بكرسي فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها. هذا هو تواضعه صلى الله عليه وسلم يقطع الخطبة ليجلس بجوار رجل يعلمه أمور دينه، ثم بعد ذلك يعود لإكمال خطبته صلى الله عليه وسلم حديث صحيح رواه الإمام مسلم في (صحيحه).
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعامًا لعق أصابعه الثلاث، قال: وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى)) يذهب الأذى عنها ينفضها من الأذى والتراب، ثم بعد ذلك يأكلها، هذا من باب التواضع يقول عليه الصلاة والسلام:((إذا سقطت لقمة أحدكم -يعني وقعت منه على الأرض- فليمط -أي فليزل عنها الأذى- وليأكلها ولا يدعها للشيطان)) وأمر أن نسلت القصعة يعني نأكل من القصعة حتى آخرها؛ قال: ((فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)) رواه
مسلم، قد تكون البركة في الطعام في آخر لقمة يأكلها الإنسان أو في اللقمة التي سقطت منه، أو في آخر ملعقة في آخر الصحفة فكان صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بأن يسلتوا القصعة أن يأكلوا ما فيها حتى آخرها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعث الله نبيًّا إلا رعى الغنم)) قال أصحابه: وأنت، فقال:((نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)) رواه البخاري، نعم رعيت الغنم على قراريط؛ يعني على أجر معلوم لأهل مكة، ورعي الغنم يعلم الصبر ويعلم التواضع، فما من نبي من أنبياء الله كما جاء في هذا الحديث إلا ورعى الغنم، ونبينا صلى الله عليه وسلم رعاها على قراريط لأهل مكة.
وعن أبي هريرة أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لو دعيت إلى كراع أو ذراع لأجبت)) والكراع والذراع هو شيء بسيط من اللحم، فذراع الشاة معروف، والكراع هو اللحم الذي يكون فوق ظلف الشاة يسمى بالكراع، وهو شيء قليل، ولكن لتواضعه صلى الله عليه وسلم الذي يريد أن يعلمه للدنيا كلها يقول:((لو دعيت إلى كراع أو ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت)) يعني يجيب الدعوة ولو كانت يسيرة، ويقبل الهدية ولو كانت يسيرة.
وعن أنس رضي الله عنه قال كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء؛ وهذا اسم ناقته عليه الصلاة والسلام لا تُسبق؛ إذا مشت مع النوق تسبق كل الجمال، أو يقول أنس: أو لا تكاد تسبق، فجاء إعرابي على قعود له فسبقها فشق ذلك على المسلمين؛ يعني حزن المسلمون كيف تسبق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه صلى الله عليه وسلم فيهم فطمأنهم فقال:((حق على الله إلا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)) هذا هو التواضع الذي علمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه.
وعن التواضع كتب الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني في كتابه (الأخلاق الإسلامية وأسسها) كتب تحت عنوان؛ فضل التواضع ابتغاء مرضاة الله، وإذ
حرمت النصوص الإسلامية الاستكبار بغير حق، وأبانت أن الكبر من قبائح أخلاق الإنسان حثت على التواضع؛ ابتغاء مرضاة الله ورغبت فيه، وأبانت أن من تواضع لله كافأه الله على تواضعه برفعه قال عليه الصلاة والسلام:((وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) وهذا من سنن الله في عباده.
كما أن من استكبر وتعالى على خلق الله أذله الله، ومن الملاحظ أن الناس يحبون المتواضع ويألفونه، ويكرهون المستكبر ويأنفون عنه ولا يألفونه، والسر في ذلك أن المتواضع ينزل نفسه إلى مستوى جلسائه فيعيش معهم بوداعة وانطلاق، ويعيش معهم ويعيشون معه بمثل ذلك فيتم بينه وبينهم الألفة والوئام، وذلك يولد المحبة بخلاف المستكبر فإنه يرفع نفسه فوق مستوى جلسائه فيعيش وحده في جو نفسي متعاظم، ويحيط نفسه بسياج شائك لا وداعة فيه ولا انطلاق، وحين يرى جلساؤه ومعاشروه ذلك منه يبتعدون عنه بنفوسهم فلا يألفونه، ويرونه يضع نفسه فوقهم فيكرهونه، فكلتا الثمرتين من النتائج الطبيعية لكلا العملين، يضاف إلى ذلك أن المتواضع لا يثير في الناس دافع المنافسة فيكون مألوفًا محبوبًا بخلاف المستكبر فهو يثير في الآخرين دافع المنافسة بقوة فيكون مكروهًا غير مألوف للنفوس، لا سيما إذا كان هو في نظرهم دون المكانة التي يرفع نفسه إليها.
ولما كان التواضع من الأخلاق التي تملك القلب بالمحبة أمر الله رسوله بأن يخفض جناحه للمؤمنين مع أنه صلى الله عليه وسلم رفيع المكانة في نفسه، عظيم المنزلة عند الله تعالى، فقال الله تعالى له في سورة "الحجر" {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر: 88)، فكان -صلوات الله وسلامه عليه- يخفض جناحه للمؤمنين؛ فلا يتعاظم عليهم، ولا يستكبر، ويجلس بينهم كواحد منهم حتى يدخل عليه وهو في أصحابه من لا يعرفه فيقول: أيكم محمد؟ وربما كانت توقفه الأمة، وتأخذ بيده
ليقضي حاجة لها؛ روى البخاري عن أنس قال: إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت، ولقد مر ذلك الحديث قريبا.
وكان من تواضعه صلى الله عليه وسلم تحيته إلى الصغار بالسلام والمسح على رءوسهم ووجوههم؛ روى البخاري ومسلم عن أنس أنه مر على صبيان فسلم عليهم، وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، وروى مسلم عن جابر بن سمرة قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الأولى -أي صلاة الظهر- ثم خرج إلى أهله وخرجت معه فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدي أحدهم واحدًا واحدًا قال: وأما أنا فمسح خدي، قال: فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنه أخرجه من جونة عطار، ومعنى من جؤنه عطار أو جونة عطار؛ أي من السلة التي يضع فيها العطار عطره.
ولما كان للتواضع من أثر اجتماعي كبير أوحى الله تعالى إلى رسوله بأن يأمر المسلمين بأن يتواضعوا، وقد سبق الحديث الذي رويته لكم؛ وهو قوله عليه الصلاة والسلام:((إن الله أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)).
ومن تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم وسماحة نفسه -صلوات الله عليه- أنه كان يشارك أهله في البيت في مهنة البيت وفي عمل البيت، وإذا جاء وقت الصلاة ترك ما في يده وذهب إلى المسجد، وخرج إلى الصلاة كأنه لا يعرف أحد ولا يعرفه أحد؛ روى البخاري عن الأسود بن يزيد رضي الله عنه قال سألت عائشة رضي الله عنها ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته قالت: كان يكون في مهنة أهله -يعني خدمة أهله- فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة، تقول في رواية: هرع إلى الصلاة كأنه لا يعرفنا ولا نعرفه، ومعنى في مهنة الله؛ تعني في خدمة أهله.