الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثامن عشر
(أدب الحديث في الإسلام
، ولين الكلام واختيار الألفاظ)
أدب الحديث في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
للحديث في الإسلام آداب ينبغي أن تراعى؛ فعلى المسلم أن يحفظ لسانه وأن يخزنه؛ فلا ينطق إلا بالصدق والحق، وليكن لسان المسلم عفيفًا نظيفاً طيبًا؛ يبتعد عن الغيبة، وعن النميمة، ولا يكون المسلم ثرثارًا كثير الكلام كثير اللغو كثير الرفث؛ فعليه أن يبعد لسانه عن إيذاء الناس، وذلك هو المسلم الكامل في الإسلام _ قال صلى الله عليه وسلم:((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) وأخذ صلى الله عليه وسلم بلسانه وقال لمعاذ بن جبل: ((يا معاذ أمسك عليك هذا)) فقال معاذ رضي الله عنه وهل نحن مؤاخذون بما نتكلم يا رسول الله؟، قال صلى الله عليه وسلم:((ثكلتك أمك يا معاذ؛ وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟)).
وجاء في القرآن الكريم أن كل ما يتلفظ به الإنسان يكتب عليه ويسطر وسيحاسب عليه يوم القيامة؛ قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18).
ولقد جاءت أحاديث تحذر من كثرة الكلام، وتبين فضيلة الصمت والسكوت إلا في الخير؛ من هذه الأحاديث ما رواه البخاري بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) يعني أو ليسكت.
ووردت أحاديث في الترهيب من الغيبة؛ منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومًا: ((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم:((الغيبة ذكرك أخاك بما يكرهه)) قالوا: يا رسول الله إن كان فيه ما نقول، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن كان
فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) والبهتان أشد الكذب.
وبين القرآن الكريم أن المغتاب مثله كمثل من يأكل لحم أخيه ميت ً ا؛ قال تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (الحجرات: 12).
وجاءت أحاديث كثيرة ترهب من الكذب؛ ف إ ن أكبر أدبًا من آداب الحديث الصدق في القول وعدم الكذب في الحديث، وأفظع أنواع الكذب؛ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أدب الحديث ترك المزاح إلا في حق، وترك الجدال والمراء، وعدم تشقيق الكلام والتخلل فيه تخلل البقر، وا دعاء البلاغة والفصاحة، وا زدراء الناس.
وجاء في كتاب (الفتح الرباني) ترتيب (مسند الإمام أحمد) الذي رتبه الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي جاء فيه كثير من الأحاديث تحت عنوان: كتاب "آفات اللسان" في الجزء 19 ص257 إلى 271 قال: باب: ما جاء في الترهيب من كثرة الكلام وما جاء في الصمت؛ عن تميم بن يزيد مولى بني زمعة عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم قال: ((أيها الناس ثنتان من وقاه الله شرهما دخل الجنة)) قال: فقام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله لا تخبرنا ما هما، ثم قال:((اثنان من وقاه الله شرهما دخل الجنة)) حتى إذا كانت الثالثة أجلسه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للرجل: ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد يبشرنا فتمنعه، فقال: إني أخاف أن يتكل الناس، فقال صلى الله عليه وسلم:((ثنتان ما وقاه الله شرهما دخل الجنة؛ ما بين لحييه وما بين رجليه)) أي من وقي شر لسانه؛ فلا يكذب ولا يخادع ولا يكون نماماً ولا مغتاباً، وأن يقيه الله سبحانه وتعالى ما
بين رجليه؛ أي فرجه، من وقاه الله شر هذين المكانين؛ شر ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة.
وعن أبي الصبهاء قال: سمعت سعيد بن جبير يحدث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لا أعلمه إلا رفعه؛ أي رفع ذلك الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن أعضائه تكفر اللسان - أي تتذلل للسان - وتتواضع له تقول: اتق الله فينا؛ فإنك إ ن استقمت استقمنا، وإ ن اعوججت اعوججنا)).
وعن علي بن حسين عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -: ((من حسن إسلام المرء تركه ما يعنيه)) يعني لا يتدخل الإنسان فيما لا شأن له به وما ليس له فيه معرفة.
وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت: يا رسول الله حدثني بأمر اعتصم به، وفي لفظ آخر: مرني في الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحد بعدك، قال:((قل: ربي الله)) وفي لفظ: ((قل: آمنت بالله ثم استقم)) قال: قلت: يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ في لفظ آخر: ما أكبر ما تخاف علي؟ أي أي شيئاً تخاف علي منه بشدة؟ وفي لفظ آخر فأي شيء أتقي؟ قال: فأخذ بلسان نفس هـ ثم قال: ((هذا)) يعني انتبه إلى هذا.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ((أن رجل ً اقال: يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده)).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أعرابي ًّ ابخصال من أنواع البر فيها؛ ((وأمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؛ فإن لم تطق ذلك -يعني لا تستطع أن تأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر أوجدت ذلك أمرًا كبيرًا عليك- فكف لسانك إلا من الخير)) يعني أي أحجز لسانك عن إيذاء الناس.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((ألا أخبرك برأس الأمر وعاموده وذروه سنامه)) قال: فقلت: بلى يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام:((رأس الأمر وعاموده وذروه سنامة الجهاد)) قال: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)) فقلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه فقال:((كف عليك هذا)) فقلت: يا رسول الله وإن المؤاخذون بما نتكلم؟ فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ -وهي كلمة تقال للتنبيه وللتنكيل- ثكلتك أمك يا معاذ 11:59 وهل يكب الناس على وجوههم في النار -أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم)).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لا يسلم عبدًا حتى يسلم قلبه ولسانه)).
وعن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من توكل لي -معنى من توكل أي تكفل لي بحفظ- ما بين لحييه وما بين رجليه توكلت له بالجنة)) أي تكفلت وضمنت له الجنة.
وعن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، قال: خرج أبو الغادية وحبيب بن الحارث وأم أبي العالية مهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا، فقالت الأم - أي أم أبي العالية - أوصني يا رسول الله قال:((أياكي وما يسوء الأذن)) معناه اأحبسي لسانك عن ما يؤذي الناس وامنعي لسانك أن يسمعوا بأذانهم الأذى منك.
وعن سليمان بن سحيم عن أمه ابن ة أبي الحكم الغفاري قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها قيد ذراع فيتكلم بالكلمة فيتباعد منها أبعد من صنعاء)) كلمة من غضب الله عليه تطرده عن باب الجنة مئات الأميال.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حفظ ما بين فقميه - والمراد فكيه وفرجه - دخل الجنة)).
وعن أبي معاوية قال: حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي، عن أبيه، عن جده علقمة، عن بلال بن الحرث المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل له بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله عز وجل ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عز وجل بها عليه سخطه إلى يوم القيامة)) قال: فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحرث؛ يعني يريد أن يتكلم فتذكر هذا الحديث فيسكت.
ثم جاء باب الصمت؛ فقال: باب: ما جاء في الصمت؛ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من صمت نجا)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو لي سك ت)) والرواية التي سقناها سابقًا ((أو ليصمت)) والمعنى واحد فجعل صلى الله عليه وسلم هذا الحديث علامة من علامات الإيمان، وذكر من بين هذه العلامات علامة الصمت والسكوت عن إيذاء الناس، وهذا هو أدب الحديث في الإسلام.
وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وفيه: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) فجاء بروايتين: ((أو ليسكت)) ((أو ليصمت)).
باب: ما جاء في الترهيب من الغيبة والبهت؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هل تدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذكرك
أخاك بما ليس فيه)) قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول له؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)).
وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق؛ يعني اسمع البنات الأبكار اللاتي يحتجبن عن الأعين والأنظار في الخدور؛ أي في الخيام، نادى بأعلى صوته حتى سمع الحاضرون، ومن كانوا في الخيام، فماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال:((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)) هنا نادى صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يخزنوا ألسنتهم، وأن لا يحاولوا أن يتتبعوا أخطاء بعضهم أو عورات بعضهم أو عيوب بعضهم؛ فإنهم إن فعلوا ذلك تتبع الله عوراتهم، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو كان في قعر بيته، أو ولو كان في بيته كما في هذا الحديث.
وعن أبي حذيفة رضي الله عنه أن عائشة رضي الله عنها حكت امرأة - أي وصفت امرأة - عند النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت قصرها، قالت: يا رسول الله إنها قصيرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((قد اغتبتيها يا عائشة)) ومن طريق ثانٍ عن أبي حذيفة أيضًا عن عائشة رضي الله عنها قالت: حكيت للنبي صلى الله عليه وسلم رجلًا فقال: ((ما يسرني أن حكيتي رجلًا وأن لي كذا وكذا)) قالت: فقلت: يا رسول الله أن صفية امرأة، وقال بيدي يعني الراوي كأنه يعني قصيرة يا رسول الله أن صفية امرأة وأشارت بيدها، فقال - أي النبي صلى الله عليه وسلم:((لقد مزحتي)) وفي لفظة: ((لقد تكلمتي بكلمة لو مزج بها ماء البحر لمزجت)).
وعن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأتين صامتا وأن رجل ً اقال: يا رسول الله إن ها هنا امرأتين قد صامتا وأنهما قد كادتا أن تموتا من العطش، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سكت ثم عاد، قال الراوي وأوراه قال بالهاجرة؛ يعني في
وقت الظهيرة الشديد الحر قال الرجل: يا نبي الله أنهما والله قد ماتتا أو كادتا أن تموتا، قال:((أدعوهما)) قال: فجاءتا قال: ((فجيء بقدح أو عس)) يعني إناء فقال لإحداهما: ((قيئي)) فقاءت قيحًا أو دمًا وصديدًا ولحمًا حتى قاءت نصف القدح، ثم قال للأخرى:((قيئي)) فقاءت من قيح ودمًا وصديدًا ولحمًا ع ب ي ط - أي كثير - وغيره حتى ملئت القدح ثم قال صلى الله عليه وسلم: ((إن هاتين -يعني المرأتين- صامتا عن ما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله عز وجل عليهما؛ جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس)).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفع ريح جيفة منتنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين)) انظر إلى أهل الغيبة؛ فأين أدب اللسان تظهر منهم رائحة خبيثة يشعر بها الصحابة، ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أن ريحهم ريح خبيثة.
عن أسماء بنت يزيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ذب عن لحم أخيه في الغيبة كان حقًّا عليه أن يعتقه من النار)) يعني إذا رأيت رجلًا يغتابه الناس فادفع عنه، وقل للذين يغتابونه: لا تغتابوه إ نه غير ذلك، إذا فعلت ذلك أعتقك الله من النار.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)) وردغة الخبال وادٍ في جهنم.
ثم جاء باب آخر في الترهيب من النميمة؛ عن حذيفة قال: قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة قتات)) والقتات هو النمام فهنا يجب أن نراعي أدب الحديث فنبتعد عن النميمة.
عن عبد الله أي ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أنبئكم ما العضة؟)) قال: ((هي النميمة القالة بين الناس)) وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل يصدق حتى يكتب صديقا، ويكذب حتى يكتب كذابا)).
وعن أسماء بنت يزيد الأنصارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بخياركم؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال:((الذين إذا رؤوا ذكر الله تعالى)) ثم قال: ((ألا أخبركم بشراركم؟ المشائون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون البراء العنت)) انظر خيار الناس هنا من إذا رأيتهم ذكروك الله تعالى وذكرت الله بهم، أما شرار الخلق فهم الذين يمشون بين الناس بالنميمة، والذين يفسدون بين الأحبة، والذين يبتغون العنت في البر آء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: ((أنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير؛ أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول - وقال وكيع: من بوله - وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) ولذلك عذاب القبر أغلبه من النميمة ومن البول؛ ففي هذا الحديث مر النبي عليه الصلاة والسلام على قبرين فوجد من بداخلهما يعذبان فقال: يعذبان في أمر ما هو بكبير في نظركم ولكنه كبير عند الله تعالى هاذان العملان؛ أن أحدهما لا يستبرأ لا يستنزه من البول؛ إذًا فصلاته باطلة؛ لأن وضوءه بعد ذلك باطل وما بني على باطل كان باطلاً، والآخر كان يمشي بين الناس بالنميمة؛ أي يفسد بينهم بما ينم من الحديث.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)) انظر إلى عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب من أصحابه ألا يشوه بعضهم بعض ً اأمامه فإنه يحبهم جميع ً ا، ولا يحب أن يتغير قلبه على أحد منهم فيقول لأصحابه:((لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئًا؛ فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر)).
قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال فقسمه قال: فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه: والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة فتثبت - يعني تثبت
من هذا الكلام - وقف مكانه حتى سمعت ما قال، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنك قلت لنا: ((لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا)) وأني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا، قال: ف احمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه - أي ذلك الكلام - ثم قال: ((دعنا منك - يعني الكلام الذي قلته يا ابن مسعود هذا نتركه- فقد أوذي موسى أكثر من ذلك ثم صبر)).
وعنه - يعني عن ابن مسعود - من طريق ثان قال: تكلم رجل من الأنصار كلمة فيها موجدة ع لى النبي صلى الله عليه وسلم؛ يعني فيها أمر خطير ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر لم يقبله ابن مسعود، ولا يليق أن يقال على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ابن مسعود: فلم تقرني نفسي؛ لم أقبل هذا الكلام فلم تقرني نفسي أن أخبرت بها النبي صلى الله عليه وسلم فلوددت أني افتديت منها بكل أهل ومال فقال: ((قد آذوا موسى عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك فصبر)) ثم أخبر عليه الصلاة والسلام ((أن نبيًّا كذبه قومه وشجوه -يعني فتحوا رأسه- حين جاءهم بأمر الله فقال: وهو يمسح الدم عن وجهه اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
ثم جاء بعد ذلك باب: الترهيب من الكذب، وقد قلت سابقًا: إن من أدب الحديث البعد عن الغيبة، والنميمة، والتحلي بالصدق، والتحذير من الكذب؛ فهذا الباب جاء في التحذير من الكذب؛ عن عبد الله أي ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما ي زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله عز وجل كذاب ً ا)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان خلق أبغض إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ول قد كان الرجل يكذب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذبة فما ي زال في نفسه صلى الله عليه وسلم عليه حتى يعلم أن قد أحدث منها توبة - يعني تاب عن هذا الكذب.
وعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حدثني ب حديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين)) وفي رواية ((فهو أحد الكذابين)).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب)).
عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أن لي زوجًا وله ضرة وأني أتشبع من زوجي أقول أعطاني كذا وكساني كذا وهو كذب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((المتشبع بما لم يعطى كلابس ثوبي زور)).
وعن نواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كبرت خيانة تحدث أخاك حديثًا ولك مصدق وأنت به كاذب)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أكذب الناس -أو من أكذب الناس- الصواغون والصباغون)).
وعنه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أكذب الناس الصناع)).
ثم بعد ذلك جاء باب يبين أن الكذب يباح في مواضع؛ فقال: فصل فيما يباح من الكذب؛ عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يقول: ((يا أيها الذين آمنوا ما يحملكم على أن تتابعوا في الكذب كما يتتابع الفراش في النار، كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث خصال؛ رجل كذب على امرأته ليرضيها، أو رجل كذب في خديعة حرب، أو رجل كذب بين امر أين مسلمين ليصلح بينهما)).
وعن عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا)) وقالت لم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في
ثلاث؛ في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
باب: ما جاء في الترهيب من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ في ذلك؛ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كذب علي فهو في النار)).
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: ما يمنعني أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أكون أوعى أصحابه عنه، ولكن أشهد لسمعته يقول:((من قال علي ما لم أقل فليتبوء مقعده من النار)). وقال حسين أوعى صحابته عنه.
وعنه من طريق ثان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من تعمد علي كذبًا فليتبوء بيتًا في النار)).
وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ((لا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار)).
وعن علي أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حدث عني حديثًا يرى أنه كذب فهو أكذب الكاذبين)).
وعن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: قلت للزبير: ما لي لا أسمع ك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أسمع ابن مسعود وفلان وفلانه، قال - أي الزبير -: أما أني لم أفارقه منذ أسلمت - أي لم أفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت - ولكني سمعت منه كلمة هي التي تمنعني؛ ((من كذب علي متعمدًا فليتبوء مقعده من النار)).
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الذي يكذب علي يبنى له بيت في النار)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تقول علي ما لم أقل فليتبوء مقعده من النار)).
وعن شعبة قال: أخبرني قتادة وحماد بن أبي سليمان وسليمان التيمي سمعوا أنس بن مالك يقول: إ ن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من كذب علي متعمدًا فليتبوء مقعده من النار)).
وعن مسلم مولى خالد بن عرفطة أن خالد بن عرفطة قال للمختار هذا رجل كذاب، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((من كذب علي متعمدًا فليتبوء مقعده من النار)).
وعن قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كذب علي كذبة متعمدًا فليتبوء مضجعًا من النار أو بيتًا من جهنم)).
ثم بعد ذلك جاء باب: المزاح والترهيب من الكذب فيه - أي في المزاح - فلا يمزح المسلم إلا بحق وصدق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان هاش ًّ اباش ًّ افي وجوه الناس ويمزح، ولكن لا يقول إلا حق ًّ ا؛ فالمزاح الممنوع هو المزاح المتضمن للكذب؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب من المزاحة، ويترك المراء وإن كان صادقًا)).
وعنه؛ أي عن أبي هريرة أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قال لصبي تعال هاك -يعني خذ ما معي- ثم لم يعطه فهي كذبه)).
عن عبد الله بن ربيعة أنه قال: آتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا وأنا صبي قال: فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبد الله تعالى أعطك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((وما أردت أن تعطيه؟)) قالت: أعطيه تمراً قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما إنك ِ لو لم تفعلي كتبت عليك ِ كذبة)).
وعن معاوية بن حيدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ويل للذي يحدث القوم ثم يكذب ليضحكهم، ويل له، وويل له)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها جلسائه يهوي بها في أبعد من الثريا)).
وعنه من طريق ثان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار)).
وعنه من طريق ثالث يرفعها؛ أي يرفع هذا الكلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم ((إن العبد ليتكلم بالكلمة يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)).
وعن أبي سعيد الخدري يرفعه قال: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يريد بها بأسًا إلا ليضحك بها القوم فإنه ليقع منها أبعد من السماء)).
وعن عبد الله بن زمعة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وعظهم في ضحكهم من ال ض رطة فقال: ((علام يضحك أحدكم على ما يفعل؟)).
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إني لا أقول إلا حقًّا)) قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله، فقال:((إني لا أقول إلا حقًّا)).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستحمله؛ أي طلب من النبي أن يحمله أن يعطيه جملًا ليحمل عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له:((إنا حاملوك على ولد ناقة)) قال الرجل: يا رسول لله ما أصنع بولد ناقة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وهل تلد الإبل إلا النوق)) معناه سأعطيك جملًا كبيرًا، ولكنه من باب المداعبة قال: سأحملك على ولد الناقة، فظن الرجل أنه سيعطى ناقة صغيرة أو جملًا صغير، فقال: وما أفعل به يا رسول الله فعلمه ووضح له الأمر صلى الله عليه وسلم فقال: له وهل من إبلا أو وهل من جملا إلا وهو ولد ناقة.
وعن أم سلمة رضي الله عنها أن أبا بكر خرج تاجرًا إلى بصرى ومعه نعيمان وصويبت بن حرملة وكلاهما بدري، وكان صويبت على الزاد، فجاء نعيمان فقال: أطعمني، فقال: لا حتى يأتي أبو بكر، وكان نعيمان رجلًا مضحاكًا مزاحًا
فقال: لأغيظنك؛ فجاء إلى أناس جلبوا ظهرًا؛ يعني جابوا ظهرًا محملًا، فقال: ابتاعوا مني غلامًا عربي ًّ افارهًا وهو ذو لسان، ولعله يقول: أنا حر، فإن كنت م تاركيه لذلك فدعوني لا تفسدوا علي غلامي، فقالوا: بل نبتاعه منك بعشر قلائص، والقلائص يعني جمال نوق، فأقبل بها يسوقها وأقبل بالقوم حتى عقلها، ثم قال للقوم: دونكم هو هذا خذوه، فجاءوا القوم فقالوا: قد اشتريناك، قال صويبت: هو كاذب أنا رجل حر، فقالوا: قد أخبرنا خبرك وطرحوا الحبل في رقبته فذهبوا به، فجاء أبو بكر فأ ُ خبر، فذهب هو وأصحاب له فردوا القلائص وأخذوه، فضحك منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولًا؛ سنة كاملة يضحكون من الذي حدث، أو من هذه القصة.
عن عبد الحميد بن صيفي، عن أبيه، عن جده قال: إ ن صهيبًا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه تمر وخبز، فقال:((ادن ُ فك ُ ل ْ))، فأخذ يأكل من التمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:((أن بعينك رمدًا)) فقال: يا رسول الله إنما أكل من الناحية الأخرى فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت الرواية وضحت هذا؛ كانت عينه اليمنى هي التي بها الرمد وداعبه النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ((إن بعينك رمدًا لا تأكل تمراً)) فقال الرجل: آكل من الناحية الأخرى؛ يعني آكل من ناحية العين السليمة، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم
من ذكائه ودعابته.
باب: من جاء في الترهيب من الجدال والمراء، وهذا لون من أدب الحديث؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جدال في القرآن كفر)).
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)) ثم تلا هذه الآية {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَاّ جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف: 58).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن العب د الإيمان كله حتى يترك الكذب من المزاح، ويترك المراء وإن كان صادقًا))