المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التحذير من الكبر - الحديث الموضوعي - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الحديث الموضوعي - إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌تعريف الحديث الموضوعي، وبيان فوائده

- ‌إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌الدرس: 2 تابع: إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌تتمة الحديث عن إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌كيف يخلص العبد نيته لله تعالى

- ‌الدرس: 3 تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته

- ‌تعريف الإيمان، وبيان أنه قول وعمل

- ‌متعلقات الإيمان "الإيمان بالله وملائكته

- ‌الدرس: 4 تابع: تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته

- ‌تتمة الحديث عن الإيمان بالملائكة

- ‌من متعلقات الإيمان: الإيمان بالكتب السماوية، والإيمان بالرسل

- ‌الدرس: 5 أثر الإيمان في حياة الأمة

- ‌من آثار الإيمان: ترابط المسلمين وتآخيهم، وصيانة الأعراض، والحياء

- ‌من آثار الإيمان: ترك أذى المسلمين، وهجرة الذنوب

- ‌ما كتبه الشيخ سيد سابق رحمه الله تحت عنوان "ثمار الإيمان

- ‌الدرس: 6 علامات الساعة، وحكم الإيمان بها

- ‌علامات الساعة في حديث جبريل عليه السلام

- ‌حكم الإيمان بعلامات الساعة

- ‌الدرس: 7 علامات الساعة الصغرى - علامات الساعة الكبرى

- ‌من علامات الساعة الصغرى

- ‌رفع العلم، وثبوت الجهل، وشرب الخمر، وظهور الزنا، وقلة الرجال وكثرة النساء

- ‌علامات الساعة الكبرى

- ‌الدرس: 8 تابع: علامات الساعة الكبرى

- ‌طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة، وظهور المهدي

- ‌العلامات الكبرى

- ‌خروج المسيح الدجال، وما يتبعه من علامات

- ‌الدرس: 9 الفتن وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع فيها

- ‌الفتن: تعريفها، والمراد منها

- ‌تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في الفتن

- ‌الدرس: 10 كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌المراد بالتقوى في كيفية اتقاء المسلم للفتن

- ‌كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌الدرس: 11 تابع: كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌التورع عن الشبهات، وأكل الطيب من الحلال، والتحذير من أكل الحرام

- ‌فضل الورع والزهد، وما جاء في الشهرة، وباب الصمت وحفظ اللسان

- ‌الدرس: 12 الآداب والأخلاق الإسلامية

- ‌تعريف: الآداب، والأخلاق

- ‌دعوة الإسلام إلى الأخلاق الكريمة الفاضلة

- ‌الدرس: 13 الحياء من الإيمان

- ‌نماذج من الآداب والأخلاق الإسلامية

- ‌الحياء من الإيمان

- ‌الدرس: 14 الوفاء بالعهد، وحفظ السر

- ‌(الوفاء بالعهد

- ‌حفظ السر

- ‌الدرس: 15 الأمانة

- ‌الأمانة: تعريفها، والنصوص التي وردت فيها

- ‌المجالات التي تراعى فيها الأمانة

- ‌الدرس: 16 تابع: الأمانة - العدل

- ‌تتمة الحديث عن الأمانة

- ‌العدل، ونماذج من عدل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 17 الدعوة إلى الصدق، والتحذير من الكذب

- ‌تعريف الصدق، والدعوة إليه

- ‌تعريف الكذب، والتحذير منه

- ‌الدرس: 18 أدب الحديث في الإسلام، ولين الكلام واختيار الألفاظ

- ‌(أدب الحديث في الإسلام

- ‌لين الكلام واختيار الألفاظ

- ‌الدرس: 19 الدعوة إلى التواضع، والتحذير من الكبر

- ‌(الدعوة إلى التواضع

- ‌التحذير من الكبر

- ‌الدرس: 20 بر الوالدين، وصلة الرحم

- ‌(بر الوالدين

- ‌صلة الرحم

- ‌الدرس: 21 حق المسلم على المسلم، وجزاء من قام بهذه الحقوق

- ‌(حق المسلم على المسلم

- ‌جزاء من قام بهذه الحقوق

الفصل: ‌التحذير من الكبر

ومن تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يستكبر عن طعام يُدعى إليه مهما قل أو مهما قلت قيمته؛ يجيب الداعي إذا دعاه ولو كانت الدعوة يسيرة، ويقبل الهدية ولو كانت يسيرة.

‌التحذير من الكبر

لقد حرم الله تعالى الكبر وحذر منه، وبين الحق سبحانه وتعالى أنه وحده له العظمة والكبرياء، فلا يحق لمخلوق أن ينازعه في عظمته وكبريائه، والتكبر على الناس وازدراؤهم والاستعلاء عليهم وغمط حقوقهم -أي إنكار ما لهم من حقوق- وأكل أموالهم بالباطل؛ كل ذلك حرمه الإسلام، وبينت آيات القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة أن إبليس -عليه اللعنة- أول معصية عصاها لله تعالى كانت هي الكبر أو بسبب الكبر حيث تكبر عن السجود لأمر الله تعالى عندما أمر بالسجود لآدم عليه السلام وتعالى الشيطان بجنسه وافتخر بعنصره الناري، وقال:{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (الأعراف: 12) ومرة أخرى قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} (الإسراء: 61)، فكان جزاؤه اللعنة والطرد من رحمة الله تعالى.

ولقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أن المتكبر لا ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة ولا يكلمه ولا يزكيه وله عذاب أليم، وإليكم ما ذكره النووي في كتاب (رياض الصالحين) تحت عنوان؛ تحريم الكبر والإعجاب، قال: قال الله تعالى: {لْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 83) وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} (الإسراء: 37)، وقال تعالى:{وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لقمان: 18)، ومعنى تصعر خدك للناس؛ أي تميله وتعرض به عن الناس

ص: 355

تكبرًا عليهم، والمرح التبختر، وقال تعالى:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (القصص: 76)، إلى قوله تعالى:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} (القصص: 81) كان سبب ذلك الخسف هو تكبر قارون على الناس الذين كانوا معه.

الأحاديث:

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذره من كبر)) فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، قال:((إن الله جميل يحب الجمال؛ الكبر بطر الحق وغمط الناس)) رواه مسلم، المعنى: أن الجمال والتزين ليس تكبرًا فإن الله جميل يحب الجمال، إنما الكبر هو احتقار الناس وغمطهم وأكل حقوقهم.

وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلًا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال له عليه الصلاة والسلام: ((كُلْ بيمينك)) قال الرجل: لا أستطيع، فقال له عليه الصلاة والسلام:((لا استطعت)) هذا الرجل منعه الكبر من أن يأكل بيده، فقال له عليه الصلاة والسلام عندما قال: لا أستطيع تكبرًا، قال له عليه الصلاة والسلام:((لا استطعت)) دعا عليه، قال سلمة بن الأكوع: فما رفعها إلى فيه؛ يعني ما استطاع فعلًا أن يرفعها إلى فمه مرة أخرى؛ لأنه قال: لا أستطيع تكبرًا على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر)) حديث متفق عليه؛ أي رواه البخاري ومسلم؛ فأهل النار هو كل عتل جواظ متكبر ومختال على الناس.

ص: 356

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((احتجت الجنة والنار -يعني فيه محاورة بين الجنة والنار كل منهما يحكي ما سيكون فيه- فقالت النار: فيَّ الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: فيَّ ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضى الله بينهما؛ إنك الجنة رحمتي أرحم بك من أشاء، وإنك النار عذابي أعذب بك من أشاء، ولكليكما علي ملؤها)) هذا الحديث يبين أن أهل الجنة من الضعفاء والمتواضعون والمساكين، أما أهل النار فهم الجبارون المتكبرون على خلق الله.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا)) أي تكبرًا وتعاليا، الذي يجر إزاره في الأرض؛ الذي يسبله ويجره في الأرض تكبرًا على عباد الله الناس لا يجدون ما يسترون به عوراتهم وهو يجر ثيابه في الأرض جرًّا، هذا لا ينظر الله يوم القيامة إليه، قال صلى الله عليه وسلم:((لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرًا)) حديث متفق عليه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم؛ شيخ زان -يعني رجل كبير ويزني- وملك كذاب، وعائل مستكبر)) فقير ويستكبر على عباد الله، فالعائل هو الفقير؛ هذا العائل يستكبر على خلق الله هذا العائل المستكبر لا ينظر الله سبحانه وتعالى إليه يوم القيامة هو والملك الكذاب -أي زعيم القوم عندما يكذب على قومه- لأنه ليس في حاجة إلى الكذب، وكذلك الشيخ الزاني؛ لأنه في غنى عن ذلك، هؤلاء لا ينظر الله تعالى إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا يكلمهم، ولهم عذاب أليم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العز إزاري، والكبرياء ردائي؛ فمن ينازعني عذبته)) رواه مسلم، الحديث برواية أخرى؛ ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري؛ فمن نازعني فيهما أدخلته النار ولا أبالي)).

ص: 357

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيته إذا خسف الله به؛ فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)) حديث متفق عليه، ومرجل رأسه؛ أي ممشطه، يتجلجل بالجيمين؛ أي يغوص وينزل إلى يوم القيامة.

وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم)) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. ومعنى يذهب بنفسه؛ أي يرتفع ويتكبر على خلق الله تعالى، يظل يظن في نفسه أنه أفضل من الناس، وأنه أعز من الناس حتى يكتب في الجبارين، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتبنا في المتواضعين.

ولقد كتب الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة كلامًا طيبًا في كتابه (الأخلاق الإسلامية وأسسها) إليكم بعض ما كتبه تحت عنوان؛ "تحذير الإسلام من الكبر والغرور بالنفس" يقول: تبين لنا أن الكبر من أقبح الانحرافات الأخلاقية وأسوءها، وأنه قد يدفع بصاحبه إلى جحود خالقه والاستكبار على طاعته كما فعل إبليس -لعنه الله- ولذلك شدد الإسلام في تحريم الكبر وحذر منه، وشدد اللائمة على المستكبرين وأوعدهم بالعقاب الشديد، كما رغب بالتواضع وحث عليه، ومجد المتواضعين وأثنى عليهم، ووعدهم بالثواب الجزيل، وفيما يلي طائفة من النصوص الإسلامية في هذا المجال:

روى الترمذي بإسناد حسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون)) قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون؛ فما المتفيقهون؟ قال:

ص: 358

((المتكبرون)) والمتشدقون هم الذين يتكلمون بملء أفواههم، ويتصنعون القول تصنع مع التعاظم به، والتعالي على الناس فيرجع إلى دافع الكبر.

ومن هذا الحديث نلاحظ أن أبغض المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبعدهم منه مجلسًا يوم القيامة هم المتكبرون.

وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري؛ فمن نازعني واحد منهما قذفته في النار)) فالعقوبة الأخروية المقررة لمن ينازع الله تبارك وتعالى في صفتيه الكبرياء والعظمة أن يقذف في النار، وثبت في حديث مسلم وقد رويناه سابقًا ((وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)).

والمتواضعون أيها الإخوة هينون لينون، فالمتواضع لله هين لين لذلك جاء وصف المؤمنين ووصف المؤمن؛ روى الترمذي مرسلًا عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف إن قيد انقاد، وإن أنيخ على صخرة استنخ)) هين لين ليس فيه كبر ولا استعلاء، وإنما هو الجمل الذي يسهل انقياده وإن أنيخ استناخ.

وروى الترمذي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((يحشر المتكبرون أمثال الذر يوم القيامة في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال)) إذلالًا لهم يأتون كالذر لا قيمة لهم، والذل عليهم يأتيهم من كل مكان، ويساقون سوقًا إلى سجن في جهنم أعد لهم تعلوهم النار، نار فوق نار فوق نار، ويسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال.

وروى الترمذي، عن سلمة بن الأكوع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الرجل يذهب بنفسه -أي تعالى بنفسه- ويظن في نفسه أنه جنس آخر حتى

ص: 359

يكتب في الجبارين فيصيبه ما يصيب الجبارين)) أي لا يزال يذهب بنفسه مستكبرًا منتفخًا متعاليًا على خلق الله متعاظمًا بنفسه حتى يرى أنه فوق الناس في خصائصه الفكرية، أو في خصائصه الجسدية، أو في أعراقه وأمجاده، أو في أتباعه وأولاده، أو في أمواله وأجناده، أو في مكانته في قومه، ويظل يتعالى بنفسه حتى يطغى ويكون جبارًا من الجبارين وعندئذ يقسمه الله سبحانه وتعالى.

إن هذا الحديث يصور حالة تدرج المستكبر في سلم الاستكبار والانتفاخ حتى يكون جبارًا من الجبارين، وأنه في أول حاله قد لا يكون كذلك، وهذا ما يشاهد في بعض الناس حينما يملكون بعض القوى المادية التي تمكنهم من بسط سلطانهم في الأرض أنهم يبدءون بداية صغرى، ثم يترقون في درجات الكبر درجة بعد درجة حتى يبلغوا الدرجة القصوى، والسبب في ذلك تزايد عامل الغرور بالنفس حينما تساعدهم الظروف على التسلط، وينفخ في رءوسهم المتملقون والمنافقون والمداحون.

وروى البخاري ومسلم عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر)) العتل هو الجافي شديد الخصومة بالباطل، والجواظ هو الجموع المنوع، أو هو المختال المتكبر، أو هو الفاجر.

وروى مسلم بسنده في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب إليم؛ شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)) وقد مضى الحديث سابقًا، ونذكر تعليق الشيخ عبد الرحمن حبنكة عليه فنقول: قال: أي فقير مستكبر لماذا؟ قال: وذلك لأن الفقير من شأنه أن يخفض الجناح، ولا يستكبر مع فقره إلا من ازداد لديه خلق الكبر زيادة جعلته منطمس البصيرة عن إدراك واقعه الذي

ص: 360

يقتضي منه ألا يكون مستكبرا، فهو مع فقره يستكبر على الناس فدل الكبر هنا على أنه شيء تأصل فيه، وأنه بالغ في ذلك الوصف حتى نسي نفسه ونسي أنه فقير محتاج.

وأبان الله تبارك وتعالى أنه لا يؤمن بآيات الله عند تذكيره بها إلا الذين يخضعون لربهم، ويسبحون بحمده، وهم لا يستكبرون؛ فلا يمنعهم كبر في صدورهم عن الخضوع لله والتسبيح بحمده، فالمتكبر هو الذي يأنف أن يسجد لله، ويتكبر على أن يحمد الله، هذا المتكبر لا يأمن بآيات الله إذا ذكر بها؛ قال تعالى:{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (السجدة: 15، 16) صدق الله العظيم، فدل بهذا على أن عامل الكبر أخطر العوامل الصارفة عن الإيمان بالله وبآياته.

وأثنى الله تعالى على الملائكة بأنهم لا يستكبرون عن عبادة ربهم؛ فقال تبارك وتعالى في سورة "الأعراف": {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (الأعراف: 206)، وقال تعالى في سورة "النحل":{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النحل: 49، 50) فأظهر وصف هنا في هذه الآيات للملائكة أنهم وصفوا بأنهم غير متكبرين، لا يستكبرون عن عبادة الله، ولا عن الخضوع والسجود لله، فهم متواضعون وهكذا يجب أن يكون شأن المسلم.

وروى مسلم في (صحيحه) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبه من خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)) فدلت هذه الأقوال النبوية على أن

ص: 361

المستكبرين أبعد الناس عن الجنة، وأن الكبر والكفر قرينان؛ إذ لا يدخل النار من في قلبه مثقال حبة من خردل إيمان، ولا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر، ولكن ليس المراد من الكبر ما يشمل رغبة الإنسان بأن يكون مظهره أنيقًا ولباسه حسن، بل المراد منه كما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم بطر الحق وغمط الناس، وقد سبق تفسير هذا التعريف النبوي؛ ففرق الرسول صلى الله عليه وسلم بين الكبر وبين المظاهر الجميلة التي قد يدفع إليها الكبر وقد يدفع إليه حب الجمال والرغبة في الأناقة، وعندئذ لا تكون من قبل الكبر ولا دالة عليه.

والكبر الذي يحرم المستكبر من دخول الجنة؛ هو الكبر عن الإيمان بالله، وبما جاء من عنده سبحانه وتعالى وبكل ما أمر بالإيمان به، وكذلك الكبر عن طاعة الله، وكل أمر من أوامر الله، أما كبر الناس على الناس دون أن يؤثر ذلك على قضيتي الإيمان والطاعة لله فهو من المعاصي الكبرى ومن الكبائر؛ إلا أنه لا يخرج صاحبه من دائرة الإيمان والإسلام إلى دائرة الكفر والحرمان من دخول الجنة؛ فهو مسلم عاص، وأمره إلى الله سبحانه وتعالى.

وسبق أن ذكرنا أن الإمام مسلم روى عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((احتجت الجنة والنار)) احتجت الجنة بأنه لا يدخلها إلا الضعفاء والمساكين واحتجت النار بأنه يدخلها الجبارون والمتكبرون، فبين الله سبحانه وتعالى أن الجنة رحمته يدخل فيها من يحب من عباده، وأن النار عذابه يعذب بها من يشاء من عباده، فدلت النصوص على أن الكبر داء يجر إلى أوخم العواقب، والكبر له أثر سيئ على سلوك صاحبه فيتولد عن داء الكبر أنواع قبيحة من السلوك الداخلي والخارجي، فالمستكبر قد يجحد الحق الذي لغيره ولا يعترف له به؛ لأنه لا يريد أن يخضع لغيره، أو لا يريد أن يفوق عليه أو يساويه أحد في الامتياز، وحين لا

ص: 362

يملك تغيير الواقع فما عليه إلا أن يسطره بغمطه وجحوده وتنقيصه وبالتعالي عليه في تصرفات وأعمال من شأنها أشعار الآخرين بأنه ذو امتياز أسمى مما لغيره.

وقد يصل المستكبر إلى مستوى بالغ في الإجرام؛ إذ يعمل على قتل ما لذي غيره من خصائص تمتاز على ما لديه منها، أو قتل غيره وصرفه عن الوجود نهائيًّا حتى لا يكون له منافس، ومتى تمادت الأنفس في استكبارها وغرورها أصابها مس من الطغيان، وكان كبرها أشبه ما يكون بالطوفان، وطوفان الكبر قد يصل في أقصى مده إلى جحود الله، والاستكبار عن عبادته وطاعته، وتحدي قوته وقدرته وجلاله وقهره لعباده، ويقف في أدنى مده عند حدود احتقار الناس والازدراء بهم واستصغارهم، والاستهانة بما عندهم، والتعالي عليهم، والغرور بالنفس ينفخ في صدور المستكبرين حتى يروا أنفسهم عظماء كبراء وهم في واقع حالهم صغار جدًّا، إن شعورهم حول أنفسهم شعور هوائي صنعته الأوهام لا يصاحبه نماء حقيقي فيما تملكه ذات المستكبر من خصائص وقوى معنوية أو مادية وربما يغشي الكبر عن البصائر فيعميها عن رؤية الحق حقًّا والباطل باطلًا، ومن أجل ذلك تتمادى في طغيانها وما يزال الغرور بالنفس ينتفخ وينتفخ وتنتفخ النفس به حتى تنفجر وتتمزق، أو تصطدم بما يهشمها ويحطمها ويمزقها، وهذا من السنن الربانية الدائمة التي نرى شواهدها في الواقع الإنساني سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلًا.

ومن آثار الكبر في السلوك الظاهر الهزء والسخرية بالآخرين، واحتقار الناس وإزدرائهم، وحركات الغمز والهمز واللمز والتعبير والتنقيص، وقد يكون من آثاره أيضًا الغيبة وفضح العيوب وكشف نقائص، الناس ومن آثاره أيضًا التبختر والخيلاء والمرح في المشية، وتصعير الخد، والإعراض عن حديث المتحدث، والنظر بشذر إلى الناس، وجر الثوب من الخيلاء، والتطاول في الجسم، والتقعر

ص: 363

في الكلام والتشدق فيه، والإجابة بحركات الوجه أو اليدين أو غيرهما من الجسم كرفع الحاجبين وغمز العين وشد الحنك ومط الشفاة وإشارة اليد وإدارة الظهر والالتفات بالعنق ورفع الرأس أو خفضه، ومن آثاره أيضًا الترفع عن مجالسة ضعفاء القوم وفقرائهم ومساكينهم، والترفع عن محادثتهم ومؤاكلتهم ومشاربتهم، ومنه التعصب للرأي والعناد على الباطل رغم وضوح الحق؛ وهكذا إلى أمور كثيرة جدًّا.

وقد عالج الإسلام آثار الكبر في السلوك، ووجه إلى الآداب الإسلامية والفضائل السلوكية في هذا المجال؛ فما ترك النفوس تشرد أو تضيع، ولكن وجهها إلى التوجيه الصواب، ونورد فيما يلي طائفة من هذه المعالجة:

أولًا: الاستكبار عن الإيمان بالله وعبادته:

وقد أولى القرآن الكريم هذه الظاهرة من ظواهر الكبر عناية عظيمة، ووجه لها اهتمامًا كبير، وبين أن الذين استكبروا واستنكفوا عن عبادة الله هم خاطئون ومخطئون، وبين أن المسيح عليه السلام كان عبدًا لله ولن يستنكف عن ذلك، وكذلك الملائكة المقربون عباد الله ولا يستنكفون -أي لا يستكبرون- عن عبادته؛ قال تعالى:{لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} (النساء: 172، 173)، وقول الله تعالى في سورة "الأعراف" {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الأعراف: 36)، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ

ص: 364

السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (الأعراف: 40، 41).

فأبان الله في هذه النصوص ما لداء الكبر من تأثير قد يبلغ بصاحبه إلى مستوى التكذيب بآيات الله وهي حق، والاستكبار عن اتباع ما جاء فيها من أوامر ونواهٍ، والاستنكاف عن عبادة الله تعالى.

ثانيًا: تصغير الخد للناس والمرح ومشية الخيلاء:

ولقد عرض القرآن الكريم النهي عن هذه الظاهرة من ظواهر الكبر في السلوك ضمن وصايا لقمان لابنه، وقد ذكرها الله مؤيدًا لها ومشيدًا بحكمة لقمان؛ ففي سياق ذكر وصايا لقمان لابنه يقول الحق تعالى:{يَا بُنَيَّ أَقِمُ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لقمان: 17، 18).

هذا وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ص: 365