المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(حق المسلم على المسلم - الحديث الموضوعي - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الحديث الموضوعي - إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌تعريف الحديث الموضوعي، وبيان فوائده

- ‌إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌الدرس: 2 تابع: إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌تتمة الحديث عن إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌كيف يخلص العبد نيته لله تعالى

- ‌الدرس: 3 تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته

- ‌تعريف الإيمان، وبيان أنه قول وعمل

- ‌متعلقات الإيمان "الإيمان بالله وملائكته

- ‌الدرس: 4 تابع: تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته

- ‌تتمة الحديث عن الإيمان بالملائكة

- ‌من متعلقات الإيمان: الإيمان بالكتب السماوية، والإيمان بالرسل

- ‌الدرس: 5 أثر الإيمان في حياة الأمة

- ‌من آثار الإيمان: ترابط المسلمين وتآخيهم، وصيانة الأعراض، والحياء

- ‌من آثار الإيمان: ترك أذى المسلمين، وهجرة الذنوب

- ‌ما كتبه الشيخ سيد سابق رحمه الله تحت عنوان "ثمار الإيمان

- ‌الدرس: 6 علامات الساعة، وحكم الإيمان بها

- ‌علامات الساعة في حديث جبريل عليه السلام

- ‌حكم الإيمان بعلامات الساعة

- ‌الدرس: 7 علامات الساعة الصغرى - علامات الساعة الكبرى

- ‌من علامات الساعة الصغرى

- ‌رفع العلم، وثبوت الجهل، وشرب الخمر، وظهور الزنا، وقلة الرجال وكثرة النساء

- ‌علامات الساعة الكبرى

- ‌الدرس: 8 تابع: علامات الساعة الكبرى

- ‌طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة، وظهور المهدي

- ‌العلامات الكبرى

- ‌خروج المسيح الدجال، وما يتبعه من علامات

- ‌الدرس: 9 الفتن وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع فيها

- ‌الفتن: تعريفها، والمراد منها

- ‌تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في الفتن

- ‌الدرس: 10 كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌المراد بالتقوى في كيفية اتقاء المسلم للفتن

- ‌كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌الدرس: 11 تابع: كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌التورع عن الشبهات، وأكل الطيب من الحلال، والتحذير من أكل الحرام

- ‌فضل الورع والزهد، وما جاء في الشهرة، وباب الصمت وحفظ اللسان

- ‌الدرس: 12 الآداب والأخلاق الإسلامية

- ‌تعريف: الآداب، والأخلاق

- ‌دعوة الإسلام إلى الأخلاق الكريمة الفاضلة

- ‌الدرس: 13 الحياء من الإيمان

- ‌نماذج من الآداب والأخلاق الإسلامية

- ‌الحياء من الإيمان

- ‌الدرس: 14 الوفاء بالعهد، وحفظ السر

- ‌(الوفاء بالعهد

- ‌حفظ السر

- ‌الدرس: 15 الأمانة

- ‌الأمانة: تعريفها، والنصوص التي وردت فيها

- ‌المجالات التي تراعى فيها الأمانة

- ‌الدرس: 16 تابع: الأمانة - العدل

- ‌تتمة الحديث عن الأمانة

- ‌العدل، ونماذج من عدل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 17 الدعوة إلى الصدق، والتحذير من الكذب

- ‌تعريف الصدق، والدعوة إليه

- ‌تعريف الكذب، والتحذير منه

- ‌الدرس: 18 أدب الحديث في الإسلام، ولين الكلام واختيار الألفاظ

- ‌(أدب الحديث في الإسلام

- ‌لين الكلام واختيار الألفاظ

- ‌الدرس: 19 الدعوة إلى التواضع، والتحذير من الكبر

- ‌(الدعوة إلى التواضع

- ‌التحذير من الكبر

- ‌الدرس: 20 بر الوالدين، وصلة الرحم

- ‌(بر الوالدين

- ‌صلة الرحم

- ‌الدرس: 21 حق المسلم على المسلم، وجزاء من قام بهذه الحقوق

- ‌(حق المسلم على المسلم

- ‌جزاء من قام بهذه الحقوق

الفصل: ‌(حق المسلم على المسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الحادي والعشرون

‌(حق المسلم على المسلم

، وجزاء من قام بهذه الحقوق)

حق المسلم على المسلم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:

إن للمسلم على المسلم حقوقًا جاء بها الإسلام في القرآن الكريم، وعلى لسان النبي الأمين سيدنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين - وهي حقوق كثيرة تنبئ عن الأخلاق الإسلامية الحميدة التي يجب أن يتخلق بها كل مسلم، ويتحلى بها المسلمون جميعًا، فلو قام كل مسلم بما وجب عليه من حقوق تجاه إخوانه المسلمين؛ لساد في المجتمع الحب والتعاون، ولانتشر ت السعادة والطمأنينة والسكينة في قلوب المسلمين.

لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن من حق المسلم على المسلم أنه إذا مرض المسلم عاده أخوه المسلم، وبين صلى الله عليه وسلم جزاء من يقوم بهذا العمل؛ أي عيادة المريض؛ إذ يكون في خراف الجنة؛ أي بساتينها حتى يعود، وإذا مات مسلم كان من حقه على إخوانه المسلمين أن يشيعوه إلى قبره، وأن يصلوا عليه، وبين صلى الله عليه وسلم جزاء من يفعل ذلك بأنه ل هـ قيراطان في الجنة، والقيراط مثل جبل أحد.

ومن حق المسلم على أخيه المسلم أن يسلم عليه إذا لقيه، وله بذلك أجر عظيم عند الله تعالى، وعلى من يسلم عليه أن يرد السلام بزيادة أو بمثله على الأقل؛ قال تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (النساء: 86)، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، (النور: 27).

ومن حق المسلم على أخيه المسلم أن يجيبه إذا دعاه لعرس أو وليمة؛ بشرط ألا يكون هناك إثم ولا معصية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت))، فإجابة الدعوة حق من حقوق المسلم

ص: 387

على أخيه المسلم مراعاة لخاطره، والوقوف بجواره في السراء والضراء، ولجبر خاطره.

كما أن من حق المسلم على المسلم أن يبره إذا أقسم عليه بشرط ألا يكون في إبراره لقسمه معصية، أما إذا كان إبراره في قسمه يؤدي إلى معصيه فلا يبره، وعلى المقسم أن يكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير، قال صلى الله عليه وسلم:((من حلف على يمين فوجد غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه، وليأتي الذي هو خير)).

ومن حق المسلم على أخيه المسلم أن يشمته إذا عطس بشرط أن يحمد الله؛ ومعنى يشمته؛ أي يدعو له بالرحمة فيقول له: يرحمكم الله مرة ومرتين، وفي الثالثة يقول له: يرحمك الله بك مرض أو زكام، وعلى العاطس أن يرد على من دعا له وشمته، فيقول: يغفر الله لي ولك، أو يهدينا ويهديكم الله ويصلح بالكم، فإذا لم يحمد الله الذي عطس فلا حق له في التشميت، والتشميت أي الدعاء بالرحمة مأخوذ من شوامت الدابة؛ أي قوائمها فهو دعاء له بالتثبيت؛ لأن العطاس نذير مرض وبرد، ويقال له: التسميت بالسين بدل ً امن الشين، وهو دعاء بأن يجعل الله تعالى سمته حسنًا؛ أي هيئته حسنة، وأن يعافيه من الأمراض.

ومن حق المسلم على المسلم أن ينصحه إذا طلب منه النصيحة، والنصيحة مطلوبة لكل مسلم، ومن كل مسلم قادر على إسدائها وتقديمها للناس، وليس هناك كبير على النصيحة، فالنصيحة تكون للحاكم وللمحكوم، وتكون للصغير وللكبير، وتكون لدين الله وللقرآن ولرسول الله صلى الله عليه وسلم.

جاءت كل هذه الحقوق في قوله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم خمس؛ أن يعوده إذا مرض، ويشيعه إذا مات، ويسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، وأن يبره إذا أقسم)) وفي رواية: ((حق المسلم على المسلم ست)) جاء فيها

ص: 388

((وأن يشمته إذا عطس، وأن ينصحه إذا استنصحه)) والنصيحة جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين كله؛ ليبين مكانتها؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة)) قال الراوي قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم)) أي ليس هناك كبير على النصيحة، والنصيحة لله؛ أي تكون النصيحة خالصة لله سبحانه وتعالى ولصالح دين الله، والنصيحة لرسول الله؛ أي تكون خالصة لصالح شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنصيحة لكتاب الله؛ أي تكون الدعوة لحفظ كتاب الله، والعمل لكتاب الله.

وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم. حديث متفق عليه.

ولقد جاءت آيات كريمة في النصح؛ فقال تعالى إخبارًا عن نوح عليه السلام: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} (الأعراف: 62) وعن هود عليه السلام: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (الأعراف: 68) فتقديم النصيحة وإسداء النصح خلق فاضل كريم دعت إليه كل الشرائع السماوية، وتنزلت به الكتب السماوية، وتردد كثيرًا على ألسنة الرسل.

والنصيحة هي الكلمة الجامعة الوحيدة للدلالة على الخير، والتحذير من الشر والوقوع فيه، تكررت على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم كثيرًا، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل النصيحة للناس هي الدين كله، وتكون النصيحة لله؛ أي لدينه سبحانه وتعالى وتكون خالصة له - سبحانه عز وجل وتكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أي لصالح دينه وشخصه ورفعة شريعته وإعلاء سنته والدعوة إلى العمل بالسنة وحفظها، وتكون لكتاب الله بحفظه وتعليمه وتعلمه وفهمه ودراسته والعمل به والسير على تشريعاته، وتكون لأئمة المسلمين من أمراء وعلماء؛ فلا كبير على النصيحة، وتكون لعامة الأمة في دعوتها إلى الرشد والرشاد وترك الغي والضلال والظلم والفساد والدعوة إلى العمل بشرع الله تعالى.

ص: 389

ولمكانة النصيحة العالية يوصي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل جرير بن عبد الله البجلي بعدما يأتي جرير ويبايع على الإسلام ويناديه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد المبايعة أو ليضيف لبيعته بندًا مهم ًّ افي بيعته فيناديه: ((يا جرير)) فيعود جرير، فيقول له عليه الصلاة والسلام:((والنصح لكل مسلم، والنصح لكل مسلم، والنصح لكل مسلم)) أي ضم إلى مبايعتك النصح لكل مسلم.

روى الإمام مسلم في (صحيحه) بسنده عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم، في رواية: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، وفي رواية ثالثة: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، فلقنني فيما استطعت والنصح لكل مسلم.

إن النصح خلق نبيل جاءت به كل الشرائع، وتردد على ألسنة كل الرسل فها هو نبي الله نوح عليه السلام يعلن عن نصحه لقومه؛ قال تعالى في سورة " الأعراف " في إرسال نوح عليه السلام إلى قومه وعدم إيمانهم به واتهامهم إياه بالضلال كذبًا وبهتانًا؛ قال يحكي عن نوح:{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 61، 62).

ونبي الله صالح يعلن بأنه نصح قومه وأسدى لهم النصيحة، ولكنهم لا يحبون الناصحين؛ قال تعالى:{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} (الأعراف: 79).

وشعيب عليه السلام بلغ قومه ونصحهم، ولكنهم عتوا واستكبروا؛ قال تعالى:{فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} (الأعراف: 93).

ص: 390

وجاء في قصة هود عليه السلام أيضًا أنه أعلن على قومه أنه قام بالنصيحة لهم وكان أمينًا معهم؛ قال تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} (الأعراف: 67، 68).

وها هو رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ينصح موسى عليه السلام بالخروج من المدينة؛ لأن الملأ - أي علية القوم - يأتمرون به ليقتلوه؛ فنصحه بالخروج من المدينة، وأخبره بأنه لهم من الناصحين، وعمل موسى بنصيحته فنجاه الله سبحانه وتعالى قال تعالى:{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ} (القصص: 20).

وإخوة يوسف عليه السلام قالوا لأبيهم: إنا من الناصحين ليوسف فأعطاه لهم، وكان ما كان منهم مع يوسف عليه السلام قال تعالى:{قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (يوسف: 11، 12).

فالنصيحة خلق كريم دعت إليه كل الشرائع، وجاء على لسان كل الرسل، وأكد عليه القرآن الكريم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الشريفة، بل جعله من حقوق المسلم على أخيه المسلم؛ قال صلى الله عليه وسلم كما رويت الحديث سابقًا قال:((حق المسلم على المسلم خمس؛ أن يعوده إذا مرض، وأن يشيعه إذا مات، وأن يسلم عليه إذا لقيه، وأن يشمته إذا عطس، وأن يجيبه إذا دعاه)) وفي رواية صحيحة حق المسلم على المسلم ست زاد فيها؛ ((وأن ينصحه إذا استنصحه)).

وإليكم ما كتبه الأستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة في كتابه القيم (الأخلاق الإسلامية وأسسها) في بيان حقوق المسلمين بعضهم على بعض في الجزء الثاني ص214 قال: تحت عنوان؛ في حقوق المسلمين بعضهم على بعض، والحث على دعم أواصر الجماعة:

ص: 391

أ- يقول: مما ورد في المسلم على المسلم:

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((حق المسلم على المسلم خمس

)) الحديث وقد مر، يقول: وروى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع؛ أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام.

في هذه الأحاديث ثمانية آداب اجتماعية وظواهر خلقية أمرنا بها الرسول صلى الله عليه وسلم وأبان أنها من حق المسلم على أخيه المسلم:

الأول - أي الحق الأول -: إفشاء السلام:

وهو يشمل البدء بالسلام، ورد السلام، والبدء بالسلام سنة ورده واجب.

الحق الثاني: عيادة المريض:

مواساة له، وتسلية لنفسه، وإشعارًا له بأن إخوانه المسلمين مهتمون به وبأمره، ويسألون عنه، ويتفقدون أحواله.

الحق الثالث: اتباع الجنائز:

فإذا مات المسلم فمن حقه على إخوانه المسلمين أن يصلوا عليه، ويدعو له ويشيعوه؛ تكريمًا له ومواساة لأهله، ومشاركة وجدانية لهم، وعظة بالموت.

الحق الرابع: إجابة الدعوة:

فإذا دعا المسلم أخاه المسلم إلى دعوة طعام أو غيره؛ فمن حقه عليه أن يجيب دعوته إلا أن يكون عنده عذر شرعي يعتذر به.

الحق الخامس: تشميت العاطس:

وذلك بأن يدعو المسلم لأخيه المسلم بأن يرحمه الله إذا سمع عطاسه وسمعه يحمد الله، يقول له: يرحمك الله، ويرد عليه العاطس يقول كما جاء في السنة: يهدينا ويهديكم الله.

ص: 392

سادسًا: النصيحة:

فإذا استنصح المسلم أخاه المسلم في استشارة فمن حقه عليه أن ينصح له، وكذلك إذا رآه في حالة تستدعي نصيحته فمن حقه عليه أن ينصح له.

الحق السابع: إبرار المقسم:

فمن حلف على أخيه في أمر يستطيع فعله ولا معصية لله فيه؛ فمن حقه عليه أن يبر قسمه بفعل ما حلف عليه فيه.

الحق الثامن: نصر المظلوم:

فمن وجد أخاه المسلم مظلومًا؛ ف من حقه عليه أن ينصره بما يستطيع من قول أو شفاعة أو عمل.

وهذه الحقوق الأخلاقية الاجتماعية من شأن تأديتها أن تؤكد وتوثق الروابط الاجتماعية بين المسلمين، وتمكن المودات في قلوبهم، وهي من ظواهر التواد والتراحم والتعاطف، ومن ظواهر معنى الجسدية الواحدة بين المسلمين.

أما إفشاء السلام فهو أدب من آداب الإسلام الاجتماعية، وقد أمر الإسلام المسلمين بها؛ فالمسلم مطالب بأن على من عرف من المسلمين ومن لم يعرف، ومكلف أن يرد التحية بمثلها أو بأحسن منها، ولا يستهين بهذا الأدب ويعرض عن تطبيقه إلا مصاب في أخلاقه بمرض الكبر والعجب بالنفس، أو بالأنانية المفرطة التي يبخل معها بعطاء التحية، وعطاء التحية أهون عطاء يبذله الإنسان من لسانه ووجهه، وهذا الأدب الإسلامي الاجتماعي يمثل أول خيط من خيوط الترابط الاجتماعي، وتكراره يعقد الصلا ت وينسج المودات.

وأما عيادة المريض؛ فهي من الآداب الاجتماعية الإسلامية / وهي حق من حقوق المسلم على أخيه؛ لأن المريض بحاجة ماسة إلى من يواسيه ويسليه، ويتفقد أحواله، ويساعده إذا احتاج إلى مساعدة، ويدعو له بدعوة صالحة عسى أن تكون رقية نافعة يشفيه الله بها.

ص: 393

وهذا الأدب يرتبط بخلق العطاء عند المسلم، وهو يعبر تعبيرًا صادقًا عن مبلغ التآخي بين المسلمين، ويوثق روابط الصلة بينهم، ويزيد من وشائج المحبة وأواصر المودات؛ لا سيما إذا لاحظنا أن حالة المريض فيها من الانكسار النفسي ما يجعله رقيق الحاشية فياض العواطف مهيأ نفسي ًّ اللتأثير عليه وامتلاك مشاعر المحبة في قلبه، والمحبة متى وجدت في طرف سرت غالبًا إلى الطرف الآخر بقوة نفاذها وقوة عدواها.

وأما اتباع الجنائز؛ فهو صلة من المسلم لأخيه المسلم موصولة من حياته إلى ما بعد مماته، واتباع الجنائز يلحقها الصلاة على الميت والشفاعة له عند الله تعالى، وهذا أيضًا صلة عظيمة له بخير ما ينفعه بعد موته؛ وهي الدعوة الصالحة، وتعبير صادق مخلص لا رياء فيه ولا سمعة عن الأخوة الإيمانية التي عقدها الله بين المؤمنين تضاف إلى ذلك ما في اتباع الجنائز من مواساة لأهل الميت وذويه المصابين بفقده، وهم بحاجة ماسة إلى من يواسيهم ويعزيهم ويصبرهم على مصابهم ويشاركهم مشاركة وجدانية كريمة، وقد كان الأصل في اتباع الجنائز أن يساهم الم شيعون في حملها إلى مثواها من الأرض، وفي حفر قبرها، وفي مواراتها ودفنها؛ وكل هذه أعمال تشارك فيها الجماعة وتساهم بها خدمة إنسانية وتواصل ً ابين المسلمين.

ومن شأن هذه الأمور التي يشتمل عليها هذا الأدب من آداب الإسلام الموصول بالأسس الأخلاقية التي دعا إليها أن تمكن صلات الأخوة والمودة والتعاطف والتراحم بين المسلمين، وتبرز معاني وحدتهم الإسلامية الكبرى.

وأما إجابة الدعوة؛ فهي حق للمسلم على أخيه المسلم أيضًا، إن دعوة المسلم لأخيه المسلم صلة اجتماعية تعبر عن مودة وأخوة وهذه الصلة تستدعي أن تقابل بالاستجابة لا بالرفض، والمستجيب يعقد من طرفه حبل الصلة الذي مده إليه

ص: 394

أخوه وقدم من قبله دليل ً امادي ًّ اعلى أخوته ومودته، كما قدم إليه أخوه من قبل الدليل على ذلك بدعوته له، وحينما يكون المدعو معذورًا ويصعب عليه تلبية الدعوة فعليه أن يقدم لأخيه عذره، وأن يستسمحه، ولا يجوز له أن يجفو أخاه، وأن يستهين به، فرب جفوة بغير عذر كسرت قلبًا وأحزنت نفسًا، وربما أفسدت ما بين القلوب فحل التنافر محل التآلف وحل الخصام محل الوئام؛ لا سيما إذا كان الجفاء ناشئًا عن استهانة أو كبر أو استعلاء شخصي أو طبقي وعندئذ يكون أشد قبحًا وذم ًّ ا، وأكثر إفسادًا للمودات، وتقطيعًا لأواصر الأخوة الإيمانية الإسلامية.

وأما تشميت العاطس؛ فهو أدب من الآداب الإسلامية، وسبق أن قلت إن تشميت العاطس هو الدعاء له بخير، قال ابن سيده: شمت العاطس وسمت عليه؛ دعا له ألا يكون في حال يشمت به فيها، وتابع ابن منظور في (اللسان) فقال: والسين لغة عن يعقوب، وكل داع لأحد بخير فهو مشمت له ومسمت بالشين والسين، والشين أعلى وأفشى في كلامهم، ونقل عن (التهذيب): كل دعاء بخير فهو تشميت، وحكى عن ثعلب أنه قال: الأصل فيها السين من السمت وهو القصد والهدي، يقول الشيخ الميداني: وأما تشميت العاطس فهو أدب من الآداب الإسلامية الاجتماعية، وهو ينم عن ذوق رفيع في مجالس المسلمين؛ إذ يتصيد المسلم أدنى مناسبة ليدعو لأخيه المسلم بدعوة كريمة، وليوجه له كلمة حلوة يجذب بها من قلبه خيطًا من خيوط العواطف الإنسانية التي تنسج بها وشائج المودة والمحبة وتوثق بها روابط الإخاء.

والعطاس ظاهرة طبيعية تتكرر من الإنسان دون أن يملك دفعها، وقد يكون عنوان نشاط قادم بانتفاضة عصبية، قد يكون ظاهرة لحالة زكام وبرد مرضي أتى على الإنسان، وعلى أية حال فمن الخير إذا هو حمد الله على ما جرى له أو

ص: 395

حمد الله أن سلمه أن تكون مكاف أته على حمده لربه توجيه من سمعه أن يدعو الله له، وأعظم دعوة شاملة لجوانب الخير كلها الدعوة له بأن يرحمه الله تعالى، وحين يتلقى العاطس الدعاء له من إخوانه يشعر في ذات نفسه بأن شركاءه في المجلس قد اهتموا بشأنه عند هذه العارضة اليسيرة التي عرضت له فدعو اله بالرحمة، فكيف يكون اهتمامهم به إذا هو نابه شيء كبير وأمر غير يسير، وعندئذ يرد لمن دعا له جميل ً ابجميل فيدعو له بأن يهديه الله ويصلح باله، أما الدعوة بالهدية فهي مكافئة كريمة للدعوة بالرحمة؛ لأن من هداه الله فقد هيأ له أعظم أسباب الرحمة، وأما الدعوة بإصلاح البال فهي زيادة بارعة تشير إلى أن سبب البدء بالدعوة ب الرحمة انشغال بال الأخ على أخيه؛ إذ سمعه عطس وحمد الله تعالى؛ فكأنه يقول له: ولا أقلق الله بالك على نفسك أو أخ أو قريب أو حبيب، أفتجد أرق تهذيبًا من مجتمع فيه هذه العواطف الكريمة المتبادلة التي تنتهز لها أدنى المناسبات.

لكن العاطس إذا لم يحمد الله تعالى لم يكن من حقه على جلسائه أن يشمتوه؛ لأنه لم يراع ما ينبغي له من أدب مع الله في حالته هذه فسقط حقه بأن يدعو له جلسا ؤ هـ بالرحمة.

وأما نصيحة المسلم لأخيه المسلم؛ فهي ظاهرة خلقية كريمة تعبر عن صدق الأخوة بين المسلمين، وتعبر عن أمانة الرجل وصدقه فيما يخبر به أخاه مما يعلم من وجوه الخير والبر؛ لا سيما إذا استشاره واستنصحه، ومن شأن هذا الخلق الكريم أن يعقد المودات بين الناس، أو يزيد في توثيقها بشرط أن تكون نصيحة صادقة ليس الغرض منها الفضيحة أو الشتيمة أو التعيير والتنقيص إلا عند بعض النفوس المستكبرة العاتية على أنها سترضى بعد حين متى شعرت بصدق الناصح وإخلاصه في النصيحة، والذي يداهن وينافق ويكتم النصيحة قد يظفر بصداقة مؤقتة إلا أنه ينكشف بعد حين، وتعرف مداهنته، ويظهر أنه لم يكن أخًا وفي ًّ اولا صديقًا صادق ًا، وإنما كان مداهنًا منافقًا فيخسر حينئذ ما كان من قبل حريصًا عليه.

ص: 396

وأما إبرار المقسم؛ فقد جرى من عادة الناس أن يحلف الأخ قسمًا على أخيه أن يفعل أمرًا أو يترك أمرًا اعتمادًا على أواصر الأخوة بينهما، وعلى تبادل المودة فيقول له: والله لتفعلن الأمر الفلاني أو لتتركن الأمر الفلاني، وهنا يعلمنا الإسلام أن من حق الأخ على أخيه أن يبر له قسمه؛ فيفعل ما أقسم عليه أن يفعله، ويترك ما أقسم عليه أن يتركه بشرط ألا يكون في الأمر معصية أو مخالفة لله تعالى أو مضرة أو منقصة؛ فإن كان فيه شيء من ذلك فلا إبرار؛ لأن الإنسان لو أقسم على نفسه أن يفعل شيئًا ثم رأى غير ما حلف عليه خيرًا منه فهو مأمور شرعًا بأن يكفر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير، ومن شأن إبرار المقسم أن يوثق الصلات، وأن يعقد المودات، وهذا الأدب يرجع عند التحليل إلى مظهر من مظاهر خلق العطاء من النفس، كما يرجع إلى خلق الحياء وتلبية ما يقتضيه الدافع الجماعي والأخوة الإيمانية.

وأما نصرة المظلوم؛ فهي ظاهرة خلقية ترجع إلى خلق حب العطاء من النفس، وإلى ما يقتضيه الدافع الاجتماعي والأخوة الإيمانية، وشرح هذه الظاهرة يكفيه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم:((انصر أخاك ظالمًا أومظلومًا)) ومعنى نصره ظالمًا أن نمنعه عن الظلم، ومن شأن نصرة المظلوم أن تعقد المودات وتوثق الصلات بين المسلمين، وأن تخدم قضية العدل بين الناس، وتصرف عنهم عوامل التفرقة والخلاف والعداوة والبغضاء ولو أغضبت الظالمين.

ب- في ستر المسلم لأخيه:

المسلم روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يستر عبد عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة))، من حق المسلم على أخيه المسلم أن يستره ولا يفضحه، والله تعالى يكافئه من جنس عمله فيستره يوم القيامة، وجاء في

ص: 397

حديث آخر ((إن الله يستره في الدنيا والآخرة)) وستر المسلم لأخيه المسلم يعتبر من مكارم الأخلاق، فإذا اطلع المسلم على خطيئة أو معصية أو نقيصة وقع بها أخوه المسلم بينه وبين ربه ولم يجاهر بها أمام الناس، بل تستر بها وتوارى واستحي افيها فما هو الغرض من فضيحته ونشر خطيئته بين الناس؛ إذا كانت من الأمور التي لا تتعلق بها حقوق شخصية للآخرين، أو حقوق عامة ترتبط بها مصالح المسلمين الكبرى أنه لا مصلحة في ذلك، بل الغرض تعييره وتنقيصه وإنزال مكانته بين الناس.

أما النصيحة فإنها تتحقق بتوجيهها له في السر لا في العلن، أو بالموعظة العامة التي لا توجه لأشخاص بأعيانهم كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كان يقول حينما يخبر بأن بعض الناس قد فعل منكرًا من المنكرات يقول عليه الصلاة والسلام:((ما بال أقوام فعلوا كذا وكذا)) أو ((يفعلون كذا وكذا)) ويوجه موعظته لهم بصفة عامة دون تحديد لأشخاص.

وإرادة الفضيحة هي من قبيل إشاعة الفاحشة وفعل السوء في المسلمين، وهي تعبر عن رذيلة خلقية في الإنسان؛ من ذا الذي يريد لأخيه المسلم الإهانة ونزول المكانة إلا من كان في نفسه عقدة من رذائل الأخلاق، وقد يريد أن يحط من مكانة أخيه بين الناس؛ ليرتفع هو على أنقاضها، وقد يكون غرضه أن يجد لنفسه مبررًا في قبائح هو يرتكبها وهو مشهور بها عند الناس فيكشف عورات إخوانه؛ ليخفف من نقد الناس له؛ إذ يعلمون أن ذوي المكانة المستورين هم مثله في ارتكاب القبائح والسيئات، وهم شركاؤه في الإثم، وكل ذلك من فساد خلقه وسوء سريرته، وهو بعمله هذا يساعد على تهوين ارتكاب الآثام والقبائح ويشجع عليها شعر بذلك أم لم يشعر، مع أن المفروض بصاحب الأخلاق

ص: 398

الكريمة أن يعمل على دعم38:42 أن يعمل على دعم الفضائل ونشرها، ومحاربة القبائح والرذائل ودفنها ما استطاع إلى ذلك سبيل ً ا، لا أن يكون داعيًا من دعاتها، أو أحد المساهمين في نشرها وإشاعتها.

وقد أنذر الله تعالى الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة؛ ف قال تعالى في سورة " النور " الآية 19 قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النور: 19)، وقد جاءت هذه الآية في سياق حديث الإفك ففي إشاعة السوء عن المؤمنين إيذاء لهم وإضرار بهم، وتهوين من أمر فعل السوء، وتشجيع على ارتكابه؛ ولا سيما إذا كان من أشيع أنه قد فعله من أهل الستر والصيانة بين الناس.

ج- في صيانة المرافق العامة مما يؤذي الجماعة:

وهذا أيضًا من حقوق المسلمين ببعضهم على بعض، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل فليمسك أو ليقبض على نصالها بكفه)) والنبل أداة من أدوات الحرب، ((فليمسك أو يقبض على نصلها بكفه أن يصيب أحد من المسلمين منها بشيء)).

في هذا الحديث توجيه لحق من الحقوق الاجتماعية، أنه يمنع المار في المجامع العامة كالمساجد والأسواق من أن يتعرض المسلمون إلى أذى من قبله بسبب شيء يحمله كالنبال التي لها نصال؛ فإن عليه أن يقبض على نصالها، ويأخذ الاحتياطات التامة؛ خشية أن يصيب بها أحد من الناس فيؤذيه.

ص: 399

فمن حق الجماعة على الفرد الذي يريد أن ينتفع بمرفق من المرافق العامة ألا يستعمل المرفق بشيء يؤذي أحد له حق في استعماله؛ إذ المرافق العامة حق مشترك بين جميع الأفراد،

والحقوق المشتركة ذات حدود؛ ومن حدودها ألا ينتفع الفرد منها انتفاعًا يؤذي فيه أحد ًا من الشركاء الذين لهم حق الانتفاع بها، أو يعرض حقه للضياع، ومن حدودها ألا يستأثر لنفسه بأكثر من حصته في الحق المشترك؛ فليس من حق إنسان أن يمر في طريق عام مكتظ بالناس ويحمل معه في الوقت نفسه قضبانًا طويلة من الحديد أو أعمدة خشبية كبيرة أو صناديق عريضة فيضرب بما يحمل من على يمينه تارة ومن على شماله تارة أخرى ثم من أمامه ثم من وراءه، وليس من حقه أن يحمل كيسًا من فحمًا أو شقة من لحم ويمر بما يحمل في معترك الناس فيصبغ ثياب الناس البيضاء بفحمه أو يلوثها بدهن شحمه ودم لحمه ويؤذيهم بهذا، وليس من حقه أن يدخن لفافته بين الناس وينفخ دخانها في وجوههم وأنوفهم، أو ينثر رمادها عليهم، أو يقذف عقبها قذفًا عشوائي ًّ اربما تقع به على شيء تحرقه من متاع الناس أو ممتلكاتهم، ويزعم أنه ينتفع بحقه في مرفق عام متجاوزًا بذلك حدود حقه.

وكم من الناس الذين يمرون في الطرقات ويستخدمون المرافق العامة لا يعرفون حدود حقوقهم، أو يعرفونها ولا يراعونها؛ فيؤذون الناس أذى كثيرًا وكبيرًا، فكم من ضربة أو لكمة أو غمزة أو دفعة أو لذعة بنار يصاب بها الناس بعضهم من بعض في الطرقات والمرافق العامة، أو تنزل عليهم بما يقذفه المسيئون قذفًا عشوائي ًّ ادون أن يجدوا وخزًا في صدورهم من سوء أعمالهم، ويفعل المسيئون ما يفعلون من ذلك دون أن يبالوا النتائج كأن الطرقات العامة لهم وحدهم، وكأن المرافق العامة إنما جعلت من أجلهم خاصة ف هم يفعلون بها ما يشاءون،

ص: 400

ويستأثرون منها بما يشتهون، وهذا من انعدام شعور الفرد بحقوق الجماعة، ومن إفراطه في الأنانية، واستهانته بما يؤذي الناس، ورغبته بتجاوز حدود حقه، والاستيلاء على حقوق غيره.

وكل ذلك يمثل جانبًا من جوانب الانهيار الخلقي الذي يقاومه الإسلام مقاومة شديدة، ولا يرضاه الله من المسلم بحال من الأحوال؛ إن المسلم المتخلق بأخلاق الإسلام يعرف مقدار حقوقه وحدودها فلا يتجاوزها، ويعرف حقوق الآخرين فلا يعتدي عليها، وينظر إليها باحترام بالغ فلا يؤذي إنسانًا في حق من حقوقه الخاصة أو العامة، بالتزام هذه الأخلاق الإسلامية الاجتماعية تبرز في المجتمع الإسلامي ظواهر حضارية راقية، أما الاستهانة بها فإنها تسم المجتمع بسمات التخلف الحضاري الشائن، وتجعله في معزل عن المنهج الرباني الذي اصطفاه الله لعباده، ورسم في الإسلام معالمه وحد حدوده.

د- من حقوق الإسلام في المرافق العامة:

روى مسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((عرضت علي أعمال أمتي حسنها وسيئها؛ فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق - يعني دفع الأذى عن طريق المسلمين - ووجدت في مساوئ أعمالها النخاعة أو النخامة تكون في المسجد لا تدفن)) يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة إلى الخير كله، وإلى إماطة الأذى عن الطريق، ودفع الضر عن المسلمين.

ولقد ورد في إماطة الأذى عن الطريق أحاديث شريفة صحيحة؛ منها ما رواه مسلم بسنده في (صحيحه) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لقد رأيت رجلًا يتقلب في الجنة في شجرة - أي بسبب شجرة - قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين)) وفي رواية لمسلم أيضًا: ((مر رجل بغصن شجرة على ظهر

ص: 401