المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر   ‌ ‌(الوفاء بالعهد ، وحفظ السر) الوفاء بالعهد الحمد - الحديث الموضوعي - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الحديث الموضوعي - إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌تعريف الحديث الموضوعي، وبيان فوائده

- ‌إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌الدرس: 2 تابع: إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌تتمة الحديث عن إخلاص النية لله تعالى في سائر الأعمال

- ‌كيف يخلص العبد نيته لله تعالى

- ‌الدرس: 3 تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته

- ‌تعريف الإيمان، وبيان أنه قول وعمل

- ‌متعلقات الإيمان "الإيمان بالله وملائكته

- ‌الدرس: 4 تابع: تعريف الإيمان، وبيان متعلقاته

- ‌تتمة الحديث عن الإيمان بالملائكة

- ‌من متعلقات الإيمان: الإيمان بالكتب السماوية، والإيمان بالرسل

- ‌الدرس: 5 أثر الإيمان في حياة الأمة

- ‌من آثار الإيمان: ترابط المسلمين وتآخيهم، وصيانة الأعراض، والحياء

- ‌من آثار الإيمان: ترك أذى المسلمين، وهجرة الذنوب

- ‌ما كتبه الشيخ سيد سابق رحمه الله تحت عنوان "ثمار الإيمان

- ‌الدرس: 6 علامات الساعة، وحكم الإيمان بها

- ‌علامات الساعة في حديث جبريل عليه السلام

- ‌حكم الإيمان بعلامات الساعة

- ‌الدرس: 7 علامات الساعة الصغرى - علامات الساعة الكبرى

- ‌من علامات الساعة الصغرى

- ‌رفع العلم، وثبوت الجهل، وشرب الخمر، وظهور الزنا، وقلة الرجال وكثرة النساء

- ‌علامات الساعة الكبرى

- ‌الدرس: 8 تابع: علامات الساعة الكبرى

- ‌طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة، وظهور المهدي

- ‌العلامات الكبرى

- ‌خروج المسيح الدجال، وما يتبعه من علامات

- ‌الدرس: 9 الفتن وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع فيها

- ‌الفتن: تعريفها، والمراد منها

- ‌تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في الفتن

- ‌الدرس: 10 كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌المراد بالتقوى في كيفية اتقاء المسلم للفتن

- ‌كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌الدرس: 11 تابع: كيف يتقي المسلم الفتن

- ‌التورع عن الشبهات، وأكل الطيب من الحلال، والتحذير من أكل الحرام

- ‌فضل الورع والزهد، وما جاء في الشهرة، وباب الصمت وحفظ اللسان

- ‌الدرس: 12 الآداب والأخلاق الإسلامية

- ‌تعريف: الآداب، والأخلاق

- ‌دعوة الإسلام إلى الأخلاق الكريمة الفاضلة

- ‌الدرس: 13 الحياء من الإيمان

- ‌نماذج من الآداب والأخلاق الإسلامية

- ‌الحياء من الإيمان

- ‌الدرس: 14 الوفاء بالعهد، وحفظ السر

- ‌(الوفاء بالعهد

- ‌حفظ السر

- ‌الدرس: 15 الأمانة

- ‌الأمانة: تعريفها، والنصوص التي وردت فيها

- ‌المجالات التي تراعى فيها الأمانة

- ‌الدرس: 16 تابع: الأمانة - العدل

- ‌تتمة الحديث عن الأمانة

- ‌العدل، ونماذج من عدل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الدرس: 17 الدعوة إلى الصدق، والتحذير من الكذب

- ‌تعريف الصدق، والدعوة إليه

- ‌تعريف الكذب، والتحذير منه

- ‌الدرس: 18 أدب الحديث في الإسلام، ولين الكلام واختيار الألفاظ

- ‌(أدب الحديث في الإسلام

- ‌لين الكلام واختيار الألفاظ

- ‌الدرس: 19 الدعوة إلى التواضع، والتحذير من الكبر

- ‌(الدعوة إلى التواضع

- ‌التحذير من الكبر

- ‌الدرس: 20 بر الوالدين، وصلة الرحم

- ‌(بر الوالدين

- ‌صلة الرحم

- ‌الدرس: 21 حق المسلم على المسلم، وجزاء من قام بهذه الحقوق

- ‌(حق المسلم على المسلم

- ‌جزاء من قام بهذه الحقوق

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم الدرس الرابع عشر   ‌ ‌(الوفاء بالعهد ، وحفظ السر) الوفاء بالعهد الحمد

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس الرابع عشر

‌(الوفاء بالعهد

، وحفظ السر)

الوفاء بالعهد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:

إن الوفاء هو الأداء بالكمال والتمام، والعهد والذمة واليمين والوعد والتعاقد؛ فالإسلام يطلب من كل مسلم أن يؤدي ما عاهد عليه، وأن يقوم بما تعاهد به فيوفيه، ويؤديه كاملًا غير منقوص؛ فلا يخون العهد ولا يغدر، وإنما يقوم بالوفاء بالعهد وفاء كاملًا

يقول ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث): وفى فيه "إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم خيرها"، أي: تمت العدة بكم سبعين، يقال: وفى الشيء ووفى إذا تم وكمل ومنه الحديث: ((فمررت بقوم تقرض شفاههم، كلما قرضت وفت))، أي: تمت وطالت، ومنه الحديث:((أوفى الله ذمتك)) أي: أتمها ووفت ذمتك أي تمت، واستوفيت حقي أخذته تامًّا ومنه الحديث:((ألست تنتجها وافية أعينها وآذانها)).

وفي حديث زيد بن أرقم: "وفت أذنك، وصدَّقَ اللهُ حديثك"، كأنه جعل أذنه في السماع كالضامنة، بتصديق ما حكت، فلما نزل القرآن في تحقيق ذلك الخبر صارت الأذن كلها وافيةً بضمانها خارجة من التهمة فيما أدته إلى اللسان، وفي رواية:"أوفى الله بأذنه" أي: أظهر صدقه في إخباره عما سمعت أذنُهُ، يقال: وفى بالشيء، وأوفى، ووفَّى بمعنىً واحد.

وتحت مادة عَهِدَ في باب العين مع الهاء: يقول ابن الأثير أيضًا في كتابه (النهاية) في حديث الدعاء: ((وأنا على عهدك ووعدِكَ ما استطعْتُ)) أي: أنا مقيم على ما عاهدتك عليه من الإيمان بك، والإقرار بوحدانيتك، لا أزول عنه، واستثنى بقوله:((ما استطعت)) موضع القدر السابق في أمره، أي: إن كان قد جرى

ص: 251

القضاء أن أنقض العهد يومًا ما؛ فإني أخلد عند ذلك إلى التنصل والاعتذار؛ لعدم الاستطاعة في دفع ما قضيتَهُ علي.

وقيل: معناه إني متمسك بما عهدته إلي من أمرك ونهيك، ونيل العذر في الوفاء به قدر الوسع والطاقة، وإن كنتُ لا أقدر أن أبلغَ كنْهَ الواجب فيه، وفيه:((ولا يقتل مؤمنٌ بكافر، ولا ذو عهدٍ في عهدِهِ)) أي: ولا ذو ذمة في ذمته، ((ولا مشرك أعطي أمانًا فدخل دار الإسلام، فلا يقتل حتى يعود إلى مأمنه)).

ولهذا الحديث تأويلان بمقتضى مذهب الشافعي وأبي حنيفة، أما الشافعي فقال: لا يقتل المسلم بالكافر مطلقًا، معاهدًا كان الكافر، أو كان غير معاهد، حربيًّا كان أو ذميًّا، مشركًا كان أو كتابيًّا؛ فأجرى اللفظَ على ظاهره، ولم يضمر له شيئًا؛ فكأنه نهى عن قتل المسلم بالكافر، وعن قتل المعاهد. وفائدة ذكره بعد قوله:((لا يقتل مسلم بكافر)) لئلا يتوهم متوهم أنه قد نفي عنه القَوَدُ بقتله الكافر، فيظن أن المعاهد لو قتله كان حكمه كذلك قال:((ولا ذو عهد في عهده)) ويكون الكلام معطوفًا على ما قبله منتظمًا في سلكه من غير تقدير شيء محذوف.

وأما أبو حنيفة: فإنه خصص الكافر في الحديث بالحربي دون الذمي، وهو بخلاف الإطلاق؛ لأن من مذهبه: أن المسلم يقتل بالذمي، فاحتاج أن يضمر في الكلام شيئًا مقدرًا، ويجعل فيه تقديمًا وتأخيرًا؛ فيكون التقدير: لا يقتل مسلمٌ ولا ذُو عهدِ في عهدِهِ بكافر، أي: لا يقتل مسلم، ولا كافر معاهد بكافر؛ فإن الكافر قد يكون معاهدًا وغير معاهد، وفيه:((من قتل معاهدًا -أو معاهدًا- لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا)) يجوز أن يكون بكسر الهاء، وفتحها على الفاعل والمفعول، وهو في الحديث بالفتح أشهر وأكثر، والمعاهد من كان بينك وبينه

ص: 252

عهد، وأكثر ما يطلق في الحديث على أهل الذمة، وقد يطلق على غيرهم من الكفار إذا صولحوا على ترك الحرب مدةً ما.

ومنه الحديث: ((لا يحِلّ لَكُم كَذَا وكذا، ولا لقطة معاهد)) أي: لا يجوز أن يتملك لقطتُهُ الموجودةُ من ماله؛ لأنه معصومُ المال، يجري حكمه مجرى حكم الذمي. وقد تكرر ذكر العهد في الحديث، ويكون بمعنى اليمين والأمان، والذمة، والحفاظ، ورعاية الحرمة، والوصية، ولا تخرج الأحاديث الواردة فيه عن أحد هذه المعاني، ومنه:((حسن العهد من الإيمان)) يريد الحفاظ، ورعاية الحرمة.

والوفاءُ بالعهد خُلُقٌ جميل من الأخلاق التي نادى بها الإسلام، ودعا إليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أحاديثه الكثيرة فما أكثر ما تحدث صلى الله عليه وسلم عن الأخلاق الكريمة الفاضلة، ولقد بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم:((أنه ليس هناك شيء في الميزان يوم القيامة أثقل من حسن الخلق)).

وقبل أن نتكلم عن الوفاء بالعهد نذكر ما كتبه الأستاذ حسن عبد الرحمن حسن حنبكه الميداني في كتابه (الأخلاق الإسلامية وأسسها) قال تحت عنوان: "تمجيد الإسلام للخلق الحسن، وحثه عليه": ولما كانت ثمرات الخلق القويم للسلوك الديني، وللسلوك الشخصي عظيمة جدًّا، وكان لدى المقارنة أجل الثمرات التي تحققها المبالغة في أداءِ كثيرٍ من العبادات الخاصة المحضة، ولما كانت سلامة النفس من المساوئ الخلقية أهم من سلامة السلوك الظاهر من طائفة من المعاصي، والذنوب الظاهرة، وكان ما يتحقق بحسن الخلق من رضوان الله تعالى أكثر مما يتحقق بالاستكثار من نوافل العبادات المحضة كالصلاة، والصيام، والأذكار اللسانية، لما كان كل ذلك؛ وجدنا النصوص الإسلامية توجِّهُ الاهتمام العظيم والعناية الكبرى لقيمة حسن الخلق في الإسلام، وتذكر الخلق الحسن بتمجيد كبير فمنها النصوص التالية:

ص: 253

أولًا: روى الترمذي بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهُم خلقًا وخيارُكُم خياركُم لنسائهم)) وفي حديث عمرو بن عبسة: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيُّ الإيمان أفضل؟ قال: حسن الخلق)) رواه أحمد.

فربط الرسول صلى الله عليه وسلم الارتقاء في مراتبِ الكمالِ الإيماني بالارتقاء في درجات حُسْنِ الخُلُق؛ وذلك لأن السلوك الأخلاقي النابع من المنابع الأساسية للخلق النفسي في الإنسان موصول هو والإيمان وظواهره، وآثاره في السلوك ببواعثَ نفسيةٍ واحدةٍ؛ فصدق العبادة لله تعالى أخلاقي كريم؛ لأنه وفاء بحق الله على عبيده، وحسن المعاملة مع الناس وفاء بحقوق الناس المادية والأدبية، فهي بهذا الاعتبار من الأعمال الأخلاقية الكريمة، فإذا تعمقنا أكثرَ من ذلك؛ فكشفنا أن الإيمان إذعان للحق، واعتراف به؛ رأينا أن الإيمان أيضًا هو عمل أخلاقي كريم بخلاف الكفر بالحق فهو دناءة خلقية.

فإذا ضممنا هذه المفاهيم إلى المفهوم الإسلامي العام الذي يوضح لنا أن كل أنواع السلوك الإنساني الفاضل فروع من فروع الإسلام والإسلام التطبيقي آثار للإيمان وثمرات عملية له إذا جمعنا كل هذه المفاهيم وجدنا أن أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم فأحسن الناس خلقًا لا بد أن يكون أصدقهم حديثًا، لا بد أن يكون أصدقهم إيمانًا، وأخلصهم نية، وأكثرهم التزامًا بما يجب على العباد نحو ربهم من عبادة، وحسن توجه له وصلة به، وأكثرهم التزامًا بحقوق الناس المادية والأدبية.

ومن المستبعد جدًّا أن يكون الإنسان ذا خلق كريم مع الناس محبًّا للحق معطاءً متواضعًا صبورًا عليهم رحيمًا بهم، ودودًا لهم، متسامح النفس معهم، ثم لا

ص: 254

يكون ذا خلقٍ كريمٍ مع ربِّهِ؛ فلا يؤمن بحق ربوبيته، وألوهيته ولا يذعن له بذلك، ولا يؤدي واجب العبادة له كما أنه ليس من المعقول أن يكون ذا خلق كريم مع الناس وهو يأكل حقوقهم ويعتدي عليهم، ويتجاوز حدود الواجب الأدبي الذي توصي به الآداب الاجتماعية الإسلامية؛ فهذا مناف لما توحيه فضائل الأخلاق لو كان حقًّا ذا خلق كريم.

فالأسس الأخلاقية، والأسس الإيمانية ذات أصول نفسية واحدة، وإن كانت بعض التطبيقات العملية التي يطالب بها الإسلام المستند إلى الإيمان قد لا تستدعيها الأسس الأخلاقية وحدها، منفصلة عن الإيمان فلا يظهر بذلك ارتباطها بها، فهي أحكام شرعية يقتضي الإيمانُ العملَ بها؛ نظرًا إلى أنها أوامر ربانية، والأوامر الربانية توجب الأسس الأخلاقية طاعتها، بوصف كونها طاعةً لمن تجب طاعته، لا يوصف كون المطلوب بِهَا ظاهرة لأساسٍ خلقي؛ فحينما يأمرنا الله تعالى بعبادَةٍ خاصة على وجه مخصوص كصلاة ركعات معينة محددة بصفات خاصة، وشروط خاصة، فليس من اللازم أن تكون هذه الصلاة بصفاتها الخاصة ظاهرة من ظواهر السلوك الأخلاقي وذات صلة مبشرة بالأسس الأخلاقية العامة إذ لله تعالى أن يختار لعبادته أي عمل من الأعمال، وعلى أي شكلٍ من الأشكال، سواء أكان ذلك مما يتصل بالأسس الأخلاقية العامة، أو لا يتصل بها.

ومع ذلك نقول: إنّ الفضيلة الخلقية توجب القيام بهذه الطاعة من جهة أن الله تعالى أمر بها؛ إذ الفضيلة الخلقية توجب طاعة الله؛ لأنه الخالق المنعم المالك ونظير هذا نقول في طاعة الوالدين وبرهما، وفي طاعة أولي الأمر من المسلمين المؤمنين وهكذا.

ص: 255

أما قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: ((وخياركم خياركم لنسائهم)) فيكشف الرسول صلى الله عليه وسلم فيه أدقَّ الموازين والكواشف التي تكشف عن حقيقة خَلْقِ الإنسان، فأحسن الناس خلقًا في المعاملة، ومعاشرة النساء هم أحسنهم خلقًا؛ فهم بسبب ذلك خيارهم؛ لأن خير الناس هم أحسنهم خلقًا.

ومن المعروف: أن الإنسان قادر على أن يتصنع التظاهر بمكارم الأخلاق وفضائل السلوك إلى فترة معينة، ومع بعض الناس، أما أن يتصنع ذلك في كل الأوقات، ومع كل الناس؛ فذلك من غير الممكن ما لم يكن فعلًا ذا خلق كريم.

والمحَكُّ الذي يمتحن فيه الإنسان امتحانًا صحيحًا ودقيقًا لمعرفة حقيقة خلقه الثابت هو المجتمع، الذي تكون عليه سلطة ما وله معه معاشرة دائمة ومعاملة مادية وأدبية؛ فإرادة التصنع تضعف حينما يشعر الإنسان بأن له سلطة ونفوذ، ثم تشتد ضعفًا حينما تطول معاشرته لمن له عليه سلطة، ثم تتلاشى هذه الإرادة حينما تتدخل المعاملة المادية والأدبية؛ فإذا ظل الإنسان محافظًا على كماله الخلقي في مجتمع له عليه سلطة، وله معه معاشرة دائمة، ومعاملة مادية وأدبية؛ فذلك هو من خيار الناس أخلاقًا.

وأبرز أمثلة هذا المجتمع الذي تتوافر فيه هذه الشروط هو مجتمع أسرة الإنسان، وما له من سلطان فيه على نسائه، وهن الضعيفات بالنسبة إليه يضاف إلى ذلك أن النساء قد تبدو منهن تصرفات، أو مطالب تخرج الحليم عن حلمه، والرصين عن رصانته والسمح عن سماحته، والصدوق عن التزام الصدق، فإذا ثبت الإنسان على خلقه الفاضل، رغم وطأة محرجاتهن التي يتبعن فيها أهواءهن؛ فإنه من خيار الناس خلقًا، وكم يظهر الإنسان أنه حسن الخلق، فإذا سافرت معه، أو عاملته بالدرهم والدينار انكشف عن صاحبه خلق سيء.

ص: 256

ثانيًا: وروى الترمذي بإسناد صحيح عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من شيءٍ أثقلُ في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخُلُق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) أي: يبغض الذي يفعل الفحشاء، ويقول الفحش، ويتكلم ببذيء الكلام، وهو رديئه، وقبيحه الذي يتحدث عن العورات والرذائل، وما ينبغي من الأشياء والأعمال التي يجب سترها.

وفي هذا الحديث يقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أثقل الفضائل في ميزان المؤمن يوم القيامة الخلق الحسن، وقد يشكل هذا على بعض الناس فيقول: إن الإيمان بالله، وحسن الصلة به أفضل الأعمال، وكذلك توحيد الله، والإخلاصُ له في العبادة، وإذا كانت هذه أفضل الأعمال فهي أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة؛ فكيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((ما من شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخُلُق)).

ولكن هذا الإشكال لا يلبث أن ينحَلَّ إذا عَرَفْنَا أن الإيمان وعبادة الله بما توجِبُهُ الأسسُ الأخلاقية، ومن أولى الواجبات التي تفرضها مكارم الأخلاق، وأن الكفر بالله ورفض عبادته وطاعته من أقبح رذائل الأخلاق -كما سبق بيانه في شرح الحديث السابق- لأنه إنكار للحق من عدة وجوه؛ فهو إنكار لربوبية الله مع أن كون الله رب كل شيء، وخالق كل شيء حقيقة تفرض نفسها على كل منصف محب للحق، وهو جحود لألوهية الله، واستكبار عن عبادتِهِ، وهو تمردٌ على حقِّ اللهِ تجَاهَ عبادِهِ في أن يعبدوه، ويطيعُوهُ مع أنه المنعم عليهم بالنعم الكثيرة التي لا يحصونها.

وظاهر: أن جحود النعمة وعدم القيام بواجب الشكر عليها من أقبح رذائل الأخلاق؛ فالإيمان الذي هو أثقل الفضائل عند الله تعالى، ومظهر من مظاهر

ص: 257

الكمال الخلقي في الإنسان، وإذا تتبعنا الأعمال وجدنا العبادات أيضًا من مظاهرِ الكمالِ الخلقي في الإنسان، وعندئذٍ يتضح لنا بجلاء أن أثقل شيءٍ في ميزان المؤمن يوم القيامة حسن خلقه؛ لأنه صدقُ إيمانِهِ، وسلامة يقينه، وإخلاص نيته كل ذلك من ثمرات فضائله الخلقية؛ لأن صدقَ إيمانِهِ، وسلامة يقينه، وإخلاص نيته كل ذلك من ثمرات فضائله الخلقية، ولما كان الفحش والبذاءة من مظاهر الرذائل الخلقية النفسية؛ كان الفاحش البذيء من الذين يبغضهم الله عز وجل.

ثالثًا: وروى الترمذي بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((سُئِلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدْخِلُ الناسَ الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: تقوى الله وحسن الخلق)). ((وسئل صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ قال عليه الصلاة والسلام: الفم والفرج)) فتقوى الله، وحسن الخلق من أحب الأعمال إلى الله تعالى فهما أكثر ما يدخل الناس الجنة.

وفي كون الفم والفرج أكثر ما يدخل الناس النار إشارةً إلى عناصر متصلة بسوء الخلق؛ إذ جعل الرسول صلى الله عليه وسلم في مقابل التقوى، وحسن الخلق، والمراد من الفَمِ والفرج ما يعمل الإنسان بهما من أعمال محرمَةٍ؛ فالفم يصدر عنه الكفرُ بالله، والكذب، وشهادة الزور والغيبة، والنميمة والطعن، والتعيير والتنقيص، واللمز، والتنابز بالألقاب، والدعوة إلى الباطل، ونشر الباطل، والحكمُ بغير الحق، وغير ذلك من أمورٍ كثيرةٍ تنافي التقوى، وتنافي مكارم الأخلاق، والفرج يصدر عنه أعمال محرمة أخرى تنافي التقوى، وتنافي مكارم الأخلاق.

رابع حديث في هذا الأمر: وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو، بن العاص رضي الله عنهما قال:((لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا)).

ص: 258

وروى الترمذي بإسنادٍ حسن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من أحبكم إليَّ، وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنِكُم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ، وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون أي: المدعون للفقه قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيقهون؟ قال: المتكبرون)) الثرثارون: هم الذين يكثرون الكلام، ويتكلفونه، المتشدقون: هم الذين يتكلمون بملء أفواههم، ويتصنعون القولَ تصنعًا مع التعاظم بِهِ، والتعَالِي به على النَّاسِ.

الحديث الخامس وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن المؤمن ليدركُ بُحُسْنِ خُلُقِهِ درجةَ الصائمِ القائم)) ويظهر: أن السبب في هذا أن من يلتزم التقيد بالأخلاق الحسنة؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى لا بد أن يتَعَرّض في حياتِهِ الاجتماعية إلى ما يستدعي منه أخلاقًا حسنة في معظم أوقاته، وهذا يجعله في حالةِ عبادةٍ دائمة يغالب فيها نفسه بالصبر، وتحمل مشقة مخالفة الهوى؛ لذلك فهو يدرك بحسن خلقِهِ درجةَ الصائم الذي لا يفطر، ودرجة القائم الذي لا يفتر -أي: لا يتعب- يضاف إلى هذا أن حسن الخلق عبادةٌ ذات آثار اجتماعية تنفع خَلْقَ الله، وتوحد كلمتهم، تبعد عنهم عوامل الفرقة والخلاف.

أما الصيام والقيام: فهما عبادتان قد لا تنتج عنهما بشكل مباشر آثار اجتماعية تنفع عباد الله، وقد يكون أمرهما قاصرًا على فاعلهما، وصلة خاصة يتوجه بها الإنسان إلى ربه، ولا يخفى أن عبادة الله تعالى ذات أثرين، أعلى من عبادةٍ ذات أثرٍ واحد، على أن حسن الخلق لا يغني عن فروض العبادات، وكذلك كلُّ الفرائضِ الإسلامية لا يغني بعضُهَا عن بعض فالصلاة المفروضة لا تغْنِي عن

ص: 259

الصيام المفروض، وأداءُ الصلاة والصيام المفروضين لا يغنيَانِ عن أداء الزكاة، ولا عن أداءِ فريضةِ الحج، وكل هذه الفروض لا تغني عن فريضة الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

الحديث السادس، وروى أبو داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربض الجنة، لمن ترك المِرَاءَ، وإن كان محقًّا وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنةِ لمن حَسُنَ خُلُقُهُ))، زعيم، أي: كفيل ربض الجنة. ربض المكانة نواحيه، وما حوله من خارجه، كحريم المسجد وكالأبنية التي تكون حول المدن، وهي الأمكنة التي تربض فيها الأنعام فمن ترك المراء، أي: الجدال في أمور الدنيا ولِحَظِّ النفس؛ بنى الله له بيتًا في ربض الجنة، أي: استحق دخول الجنة بهذا العمل الذي يخالف فيه هوى نفسه.

ومن ترك الكذب في كل الأحوال، ومنها حالات المزاح؛ بنى الله له بيتًا في وسط الجنة؛ لأن من يحفظ لسانه من كل الكذب ابتغاء مرضاة الله، وذو مرتبة عالية في الأخلاق الحميدة، وفي تقوى الله، وأعمال البر؛ إذ ترك الكذب، والتزام الصدق مجمع لجملة كبيرة من الفضائل الخلقية، والمصالح الاجتماعية العلمية والعملية، أما جماع الفضائل كلها فهو حسن الخلق بوجهٍ عامٍّ.

الحديث السابع: وروى مسلم بسنده عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: البرُّ حُسْنُ الخُلُق، والإثم ما حَاكَ في نفسك، وكرهت أن يطَّلِعَ عليه الناس)) البر: هو جماع أفعال الخير. وقد عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه حسن الخلق؛ فهذا يدلُّ على أن حسن الخلق يشتمل على جماع أفعال الخير، والاتساع فيما يقرب إلى الله تعالى ويرضيه سبحانه.

ص: 260

أما كون الإثم ما حاك في نفس الإنسان وكره أن يطلع عليه الناس ففيه إشارة للضمير الأخلاقي، الذي فطر الله الناس عليه، وهذا الضمير يحس بالفضيلة الخلقية كما يحس بالألم؛ وحينما يحس بالإثم يلامس نفسه شعور خاص به، وحينما يحدث هذا الشعور في النفس يقدر الإنسان أن ما أحس به من شأنه أن يحس به كل إنسان آخر إذا اطلع عليه؛ لأن الناس يشتركون معه في القدرة على الإحساس بالإثم؛ لذلك فهو يكره أن يطَّلِعَ عليه الناس؛ لئلا يخسر مكانته في نفوسهم حينما يعلمون أنه امرؤ آثم، وهذا المقياس النبوي مقياسٌ صحيحٌ دقيق عند ذوي القلوب المؤمنة التي لم تفسد موازينها الفطرية بارتكابِ القبائح الآثام.

الحديث الثامن، وروى البخاري ومسلم بإسنادهما عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)) الألد هو شديد الخصومة، الخصم هو كثير الخصومة المولع بها حتى تصير الخصومة عادة له. وظاهره: أن الخصم الألد سيء الخلق من درجة شديدة القبح، وقد أبان الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أبغض الرجال إلى الله تعالى.

الحديث التاسع: وروى الترمذي بإسناد حسن عن أبي ذر وعن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن)) ففي هذا الحديث إرشاد إلى قواعد السلوك الكبرى التي من التزمها؛ فقد أخذ سبيله لارتقاء مراتب المجد والكمال الإنساني. وهذه القواعد ترشد إلى المنهج الخلقي العام الشامل لجانبي علاقة الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بالناس.

أما ما يدعو إليه الواجب الخلقي بالنسبة إلى علاقة الإنسان بربه؛ فهو تقوى الله في أي مكان ظاهر أو خفي يكون فيه الإنسان وذلك لأن الواجب الأخلاقي

ص: 261

يفرض على الإنسان طاعة من خلقه فسواه فعدله فأنعم عليه بالنعم التي لا يستطيع إحصاءها، ويفرض عليه أيضًا حمده وشكره، وعبادته؛ فكل هذه الواجبات يجمعها تقوى الله في السر والعلن وهذا ما دلت عليه القاعدة الأولى:((اتق الله حيثما كنت)) وحينما يتق الإنسان ربه في كل أحواله الظاهرة والباطنة؛ فلا بد أن يكون مخلصًا لله في تقواه، وفي هذا تكمن الروح الأخلاقية السامية البعيدة عن النفاق والرياء والسمعة، وطلب الثناء من الناس، أو اجتلاب المصالح النفسية، أو المادية منهم هذه هي القاعدة الأولى.

وأما القاعدة الثانية: وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) ففيها إرشاد إلى منهج الإصلاح والتقويم، وتدارك النهوض بالنفس بعد سقوطها بارتكاب السيئة، وهذا المنهج ترسمه هذه القاعدة أضبط رسم، فمن سقط بارتكابه السيئة في حالةٍ من حالاتِ الضعفِ الإنساني؛ فعليه أن يتبع هذه السيئة حسنةً مستمدة من منابع الضمير الأخلاقي؛ فإن للحسنات قوةَ سبقٍ عجيبة بفضل الله تعالى، إذ تمر على السيئات التي قد انطلقت قبلها فتردها، وتمحو أثرها عند الله تعالى، وتعود نفس المؤمن بالله إلى براءتها، ونقائها الخلقي بعد أن أصابها ما أصابها من أدناس السيئات. وهذه القاعدة مستمدة من قول الله تعالى:{وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود: 114).

وأما القاعدة الثالثة: وهي القول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَن)) فهي تحدد المنهج العام الذي يجب على الإنسان أن يسلكه في علاقاته بالناس، وعنوان هذا المنهج أن يخالق الناس بخلق حسن، أي: يعاملهم في كل علاقاته معهم بالخلق الحسن.

ص: 262

عاشرًا: ولما كان حسن الخلق يحتل هذه القيمة العظيمة في الإسلام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، روى البخاري ومسلم عن أنس قال:((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا)) واختار الله للثناء على رسوله صلى الله عليه وسلم من دون سائر صفاته العظيمة ما يتحلى به من خلق حسن عظيم؛ إذ خاطبه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4).

وصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بعثت لأتمم حسن الخلق)) رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة، ورواه الإمام مالك في (الموطأ) وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق، وكمال محاسن الأفعال)) رواه في (شرح السنة).

وجميع الأخلاق الكريمة الفاضلة واحدة في كل الشرائع السماوية تنزلت بها كل الكتب، ودعت إليها كل الرسالات، وجاء الإسلام فأكد على هذه الأخلاق الفاضلة في القرآن الكريم، ونادى بها سيد الخلق أجمعين نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

ومن هذه الأخلاق الفاضلة النبيلة: الوفاء بالعهد، وعدم خيانة من يُعَاهِد، أو من يُعَاهَدُ، والبعد كل البعد عن الغدر بالعهود؛ ففي القرآن الكريم أخذ الحق سبحانه وتعالى العهد على آدم وذريته أن يعبدوه وحده وألا يشركوا به شيئًا، وطالبهم وسيطالبهم بهذا العهد فمن وفى بهذا العهد فله الفوز والفلاح ومن لم يوف به فله الويل والثبور، قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 172: 174).

ص: 263

قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس: 60: 62).

بينت هذه الآيات من سورة الأعراف وسورة يس أن الله سبحانه وتعالى أخذ على خلقه عهدًا بالإقرار له بالوحدانية والعبودية فلم يوفوا بذلك العهد فكان حسابه على الله تعالى فكان حسابه تعالى لهؤلاء الذين لم يوفوا بعهدهم مع الله كانت جهنم هي مصير الناقضين لهذا العهد ففي سورة يس قال تعالى بعد التذكير بهذا العهد وأنهم ضلوا عنه ولم يوفوا به قال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ *اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (يس: 63: 65).

ثم يأتي بعد ذلك المطالبة بالوفاء بالعهد عند كل الرسل، وفي كل الشرائع فهذا أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام مدحه ربه في وفائه بالعهد وكان الوفاء بالعهد من أبرز صفاته وخلاله التي تحلى بها قال تعالى:{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (النجم: 36، 37).

ويُطالب الحقُّ سبحانه وتعالى بنو إسرائيل أن يوفوا بعهدهم مع الله فيقول تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (البقرة: 40) ولقد نعى الحق سبحانه وتعالى على بني إسرائيل نقضهم للعهود، وأنهم قوم لا أمان لهم، ولا عهد لهم يتعهد منهم فريق فينبذ العهد الآخر فريق آخر، وهذا دأبهم وديدنهم، قال عنهم الحق سبحانه وتعالى:{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (البقرة: 100).

ص: 264

أما شريعة الإسلام فأكدت على الوفاء بالعهد أشد تأكيد ونادت به في كل العهود والعقود فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (النحل: 91).

ومدح الحقُّ سبحانه وتعالى الذين يوفون بالعهد، ولا ينقضون المواثيق وجعل اللعنة، وسوء الدار على الذين ينقضون العهود، ولا يراعونها، قال تعالى:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ * وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد: 19: 25).

إنّ الوفاء بالعهد خلق كريم نبيل نادت به كل الشرائع وجاء على كل الرسل وبه تنزلت كل الكتب وهو من الصفات التي وصف بها الحق سبحانه وتعالى نفسه فما أجمل أن يتصف بها كل مسلم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 111).

فالوفاء بالعهد خلق نبيل دعت إليه كل الشرائع وجاء على لسان كل الرسل وجاء الإسلام، فأكد عليه ونادى به، قال تعالى في سورة الإسراء {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (الإسراء: 34)

ص: 265