الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
((الخ َ ل ِ فات)) بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام جمع خلفة؛ وهي الناقة الحامل.
الحديث السادس: عن أبي خالد حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) هذا الحديث يجعل البركة في التجارة أساسها الصدق وإخلاص النية بين الشريكين، وأن يصدقوا مع الناس الذين يبايعونهم ويتبايعون معهم.
تعريف الكذب، والتحذير منه
الكذب هو مخالفة الخبر للواقع، أو عدم مطابقة الحال للواقع؛ فيشمل القول والعمل، ولقد جاءت آيات كريمة تذم الكذب وتحذر منه وتبين شؤمه وعاقبته الوخيمة الأليمة؛ قال تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ} (النحل: 105) فهذه الآية جعلت الكذب علامة للذين لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى وحكمت بأنهم كاذبون.
وقال تعالى يصف أهل الكتاب بأنهم صنفان؛ صنف أمين فحمد الحق أمانته ي ُ عطي أمانته التي ائتمنته عليها ولو كانت قنطارًا من الذهب، وهناك صنف لا ي ُ عطيك ما أمنته عليه حتى وإن كان دينارًا إلا ما دمت عليه قائمًا تلح وحريص على أن تأتي بمالك من عنده، إذا لم تفعل ذلك لا يأتيك مالك ويأكل هذه الأمانة؛ قال تعالى:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَاّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 75). يكذبون على الله سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} (النحل: 38، 39) فالكافر كاذب؛ لأنه أنكر حقيقة وجود الله سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 16 - 18) هذه الآية بينت أن الكذب يكون في القول ويكون في العمل أيضًا.
والأحاديث في التحذير من الكذب وبيان قبحه وخبثه كثيرة؛ منها: ما رواه الإمام أحمد بسنده في (مسنده) عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم والكذب)) ومعنى كلمة ((إياكم))؛ أي أحذركم أحذركم الكذب لماذا يا رسول الله؟ بين صلى الله عليه وسلم العلة؛ فقال: ((فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)) لأن الفجور هو الخروج عن الطاعة، ثم بين عليه الصلاة والسلام أن الرجل الذي يكذب ويتعود الكذب يكتب كذابًا عند الله سبحانه وتعالى فقال عليه الصلاة والسلام:((وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله عز وجل كذابًا)).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان خلق أبغض إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب ة فما يزال في نفسه عليه حتى يعلم أن قد أحدث منها توبة؛ يعني إذا علم النبي صلى الله عليه وسلم على رجل كذبًا نفس النبي صلى الله عليه وسلم تتغير على ذلك الرجل حتى يتوب ذلك الرجل عن الكذب ويعود إلى الصدق.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين))؛ يعني عندما يحدث الناس بحديث ويعلم أن هذا الحديث كذب فهو من الكذابين.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يطبع المؤمن على الخلال -يعني الصفات- يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب)).
وعن عائشة رضي الله عنها أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن لي زوجًا ولي ضرة، وإني أتشبع من زوجي أقول: أعطاني كذا وكساني كذا وهو كذب؛ يعني لكي تغار ضرتها تقول: زوجي أعطاني وكساني حتى تغار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة التي تقول لضرتها هذا الذي لم يفعله الزوج لتكيد لها وتغيره؛ قال عليه الصلاة والسلام:((المتشبع بما لم يعطى كلابس ثوبي زور)) يعني هذا زور وبهتان.
وعن نواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كبرت خيانة تحدث أخاك حديثًا هو لك مصدقًا وأنت به كاذب)) يعني هو يصدقك ويسلم لك عقله وقلبه وأنت تكذب عليه؛ هذه أكبر خيانة تكون عند الإنسان يقول عليه الصلاة والسلام: ((كبرت خيانة تحدث أخاك حديثًا هو لك مصدق وأنت به كاذب)).
وعن أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه يعد ذلك كذبًا، قال عليه الصلاة والسلام:((إن الكذب يكتب كذبًا حتى تكتب الكذيبة كذيبة)) يعني كل شيء يكتب حتى ولو كان كذيبة صغيرة.
هذه الأحاديث رواها الإمام أحمد في (مسنده) بسنده وجاء في (الفتح الرباني) ترتيب (مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني) للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الساعاتي في الجزء التاسع عشر ص263 إلى ص265 تحت باب: ما جاء في
الترهيب من الكذب في كتاب: آفات اللسان؛ الكثير والكثير من هذه الأحاديث، ولقد كتب الشيخ الغزالي - رحمه الله تعالى - كلامًا طيبًا في الصدق والدعوة إليه.
كما كتب في الكذب والتحذير منه في كتابه العظيم النفع (خلق المسلم) كتب يقول: الصدق إن الله خلق السماوات والأرض بالحق، وطلب إلى الناس أن يبنوا حياتهم على الحق؛ فلا يقولوا إلا حق ًّ اولا يعملوا إلا حق ًّ ا، وحيرة البشر وشقوتهم ترجع إلى ذهول هم عن هذا الأصل الواضح، وإلى تسلط أكاذيب وأوهام على أنفسهم وأفكارهم أبعدتهم عن الصراط المستقيم، وشردت بهم عن الحقائق التي لا بد من التزامها؛ ومن هنا كان الاستمساك بالصدق في كل شأن، وتحريه في كل قضية، والمصير إليه في كل حكم؛ دعاية ركينة في خلق المسلم، وصبغة ثابتة في سلوكه، وكذلك كان بناء المجتمع في الإسلام قائمًا على محاربة الظنون ونبذ الإشاعات واطراح الريب والشك؛ فإن الحقائق الراسخة وحدها هي التي يجب أن تظهر وتغلب، وأن تعتمد في إقرار العلاقات المختلفة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)) وقال: ((دع ما يريبك إلا ما لا يريبك؛ فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة)).
وقد نعى القرآن على أقوام جريهم وراء الظنون التي ملأت عقولهم بالخرافات وأفسدت حاضرهم ومستقبلهم بالأكاذيب؛ فقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى} (النجم: من الآية: 23) وقال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28).
والإسلام لاحترامه الشديد للحق طرد الكاذبين وشدد عليهم بالنكير؛ عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: ما كان خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ما اطلع على أحد من ذلك فيخرج من قلبه حتى يعلم أنه قد أحدث توبة، وفي
رواية عنها: ما كان من خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذب فلا يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث فيها توبة.
ولا غرو فلقد كان السلف الصالح يتلاقون على الفضائل ويتعارفون بها؛ فإذا أساء أحد السيرة وحاول أن ينفرد بمسلك خاطئ بدأ بعمله هذا كالأجرب بين الأصحاء؛ فلا يطيب له مقام بينهم حتى يبرأ من علته، وكانت المعالم الأولى للجماعة المسلمة صدق الحديث ودقة الأداء وضبط الكلام، أما الكذب والإخلاف والتدليس والافتراء فهي أمارات النفاق، وانقطاع الصلة بالدين، أو هي اتصال بالدين على أسلوب المدلسين والمفترين، على أسلوب الكذابين في مخالفة الواقع، والكذب رذيلة محضة تنبئ عن تغلغل الفساد في نفس صاحبها، وعن سلوك ينشئ الشر إنشاءً، ويندفع إلى الإثم من غير ضرورة مزعجة أو طبيعة قاهرة.
هناك رذائل يلتاس بها الإنسان تشبه الأمراض التي تعرض للبدن، ولا يصح منها إلا بعد علاج طويل؛ كالخوف الذي يتلعثم به الهيابون، أو الحرص الذي تنقبض به الأيدي؛ إن بعض الناس إذا جند للجهاد المفروض تقدم إليه وجلده مقشعر، وإن بعضهم إذا استخرجت منه الزكاة الواجبة أخذ يعدها وأصابعه ترعش، وهذه الطباع التي تتأثر بالجبن أو بالبخل غير الطبائع التي تقبل على الموت في نزق، وتبعثر المال بغير حساب.
وقد تكون هناك أعذار لمن يشعرون بوساوس الحرص أو الخوف عندما يقفون في ميادين التضحية والفداء، ولكنه لا عذر البتة لمن يتخذون الكذب خلقًا ويعيشون به على خديعة الناس؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب)) وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانًا؟ قال: ((نعم))
قيل له: أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال: ((نعم)) قيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: ((لا)).
وهذه ال إ جابات تشير إلى ما أسلفنا بيانه من نوازع الضعف والنقص التي تخامر بعض الناس ثم يتغلبون عليهاعندما يواجهون بالفريضة المحكمة أو الضريبة الحاسمة، وهي لا تعني أبدًا تسويغ البخل أو تهوين الجبن كيف؛ ومنع الزكاة وترك الجهاد بابان إلى الكفر، وكلما اتسع نطاق الضرر إذ كذبة يشيعها أفاق جريء كان الوزر عند الله أعظم؛ فالصحفي الذي ينشر على الألوف خبرًا باطل ً ا، والسياسي الذي ي ُ عطي الناس صورًا مقلوبة عن المسائل الكبرى، وذو الغرض الذي يتعمد سوق التهم إلى الكبراء من الرجال والنساء؛ أولئك يرتكبون جرائم أشق على أصحابها وأسوأ عاقبة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:((رأيت الليلة رجلين أتياني قالا لي: الذي رأيته يشق شدقه فكذاب يقول الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة)) رواه البخاري.
ومن هذا القبيل كذب الحكام على الشعوب فإن كذبة المنبر بلقاء مشهورة، وفي الحديث:((ثلاثة لا يدخلون الجنة؛ الشيخ الزاني، والإمام الكذاب، والعائل المزهو -أي الفقير المتكبر-)).
والكذب على دين الله من أقبح المنكرات، وأول ذلك نسبة شيء إلى الله أو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم لم يقله، وهذا الضرب من الافتراء فاحش في حقيقته وخيم في نتيجته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن كذبًا علي ليس ككذب على أحد؛ فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)).
ويدخل في نطاق هذا الافتراء والتكذيب سائر ما ابتدعه الجهال وأقحموه على دين الله من محدثات لا أصل لها عدها العوام دينًا وما هي بدين، ولكنها لهو
ولعب، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصادر هذه البدع المنكر ة، وحذر من الانقياد إلى تيارها، ومسك المسلمين - أي دعا المسلمين - إلى الاستمساك بآيات كتابهم وبسنة سلفهم؛ قال عليه الصلاة والسلام:((يكون في آخر أمتي أناس دجالون كذابون يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم؛ فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم)).
والإسلام يوصي بأن تغرس فضيلة الصدق في نفوس الأطفال حتى يشبوا عليها وقد ألفوها في أقوالهم وأحوالهم كلها؛ فعن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي يومي يومًا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا، فقالت: تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ما أردت أن تعطيه؟)) قالت: أردت أن أعطيه تمرة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أما إ نك لو لم تعطه شيئًا كتبت عليك كذبة)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قال لصبي: تعال هاك، ثم لم يعطه فهي كذبة)).
فانظر كيف يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم الأمهات والآباء أن ينشئوا أولادهم تنشئة يقدسون فيها الصدق ويتنزهون عن الكذب، ولو أنه تجاوز عن هذه الأمور وحسبها من التوافه الهينة لخشي أن يكبر الأطفال وهم يعتبرون الكذب ذنبًا صغيرًا وهو عند الله عظيم.
وقد بشت الصرامة في تحري الحق ورعاية الصدق حتى تناولت الشئون المنزلية الصغيرة، عن أسماء بنت يزيد قالت: يا رسول الله قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه يعد ذلك كذبًا، قال عليه الصلاة والسلام:((إن الكذب يكتب كذبًا حتى تكتب الكذيبة كذيبة)) وقد مر الحديث قريبًا.
وقد أحصى الشارع مزالق الكذب وأوضح سوء عقباها حتى لا يبقى لأحد منفذ إلى الشرود عن الحقيقة، أو الاستهانة بتقريرها؛ فالمرء قد يستسهل الكذب حين
يمزح حاسبًا أن مجال اللهو لا حظر فيه على إخبار أو اختلاق، ولكن الإسلام الذي أباح الترويح عن القلوب لم يرض وسيلة لذلك إلا في حدود الصدق المحض؛ فإن في الحلال مندوحة عن الحرام، وفي الحق غناء عن الباطل؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب، ويل له، ويل له)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((أنا زعيم -أي ضامن- أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا)) رواه البيهقي.
وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح والمراء، وإن كان صادقًا)) الحديث رواه الإمام أحمد.
والمشاهد أن الناس يطلقون العنان لأخيلتهم في تلفيق الأضاحيك، ولا يحسون حرجًا في إدارة أحاديث مفتراة على ألسنة خصومهم أو أصدقائهم؛ ليتندروا بها أو يسخروا منهم، وقد حرم الدين هذا المسلك تحريمًا تام ًّ ا؛ إذ الحق أن اللهو بالكذب كثيرًا ما ينتهي إلى أحزان وعد اوات، وتمد الناس مدرجة إلى كذب، والمسلم يجب أن يحاذر عندما يثني على غيره؛ فلا يذكر إلا ما يعلم من خير، ولا يجنح إلى المبالغة في تضخيم المحامد وطي المثالب، ومهما كان الممدوح جديرًا بالثناء فإن المبالغة في إطرائه ضرب من الكذب المحرم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمادحيه:((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)) يعني لا تبالغوا في مدحي، ((فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)).
وهناك فريق من الناس يتخذ المدائح الفارغة بضاعة يتملك بها الأكابر، ويصوغ من الشعر القصائد المطولة، ومن النثر الخطب فيكيل الثناء جزافًا، ويهرف بما لا ي ُ عرف، وربما وصف بالعدالة الحكام الجائرين، ووصف بالشجاعة الأغبياء الخوارين؛ ابتغاء عرض من الدنيا عند هؤلاء وأولئك.
هذا الصنف من الأذناب الكاذبة أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بمطاردتهم حتى يرجعوا عن تجويرهم بوجوه عفرها الخزي والحرمان؛ عن أبي هريرة قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو افي وجوه المداحين التراب. رواه الترمذي، وقد ذكر شراح الحديث أن المداحين المعنيين هنا هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة يستأكلون بها الممدوح؛ فأما من مدح على الأمر الحسن والفعل المحمود ترغيبًا في أمثاله وتحريضًا للناس على الاقتداء به فليس بمداح، وليس مدحه ممقوت.
والحدود التي يقف عندها المسلم، ويخرج بها من تبعة الملق والمبالغة وينفع بها ممدوحه فلا يذله إلا العجب والكبرياء قد بينها النبي الحكيم فعن أبي بكرة قال: أثنى رجل على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عليه الصلاة والسلام: ((ويحك قطعت عنق صاحبك)) قالها ثلاثًا، ثم قال عليه الصلاة والسلام:((من كان مادحًا أخاه لا محالة فليقل: أحسب فلانًا والله حسيبه، ولا يزكي على الله أحد، أحسب فلانًا كذا وكذا إن كان يعلم ذلك منه)).
والتاجر قد يكذب في بيان سلعته وعرض ثمنها، والتجارات عندنا تقوم على الطمع البالغ، البائع يريد الغلو والشاري يريد البخس، والأثرة هي التي تسود حركات التبادل في الأسواق والمحال، وقد كره الإسلام هذه المعاملة الجشعة، وما يشوبها من لغو ومراء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا البيعان وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما فعسى أن يربحا ربحًا ما ويمحق بركة بيعهما)) وفي رواية: ((محقت بركة بيعهما)) اليمين الفاجرة في حديث آخر ((اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب)).
ومن المشترين رجال يقبلون على الباعة وهم قليلو الخبرة سريعو التصديق لما يقال لهم، فمن الإيمان ألا تستغل س ذ اجتهم في كسب مضاعف أو تغطية عيب، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثًا هو لك مصدق وأنت له كاذب)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحل لامرئ مسلم يبيع سلعته يعلم أن بها داء إلا أخبر به)) رواه البخاري، وعن ابن أبي أوفى رضي الله عنه أن رجل ً اأقام سلعة في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم ي ُ عطى؛ ليوقع فيها رجل ً امن المسلمين فنزل قول الحق سبحانه وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران: 77).
والحيف في الشهادة من أشنع الكذب، فالمسلم لا يبالي إذا قام بشهادة أن يقرر الحق ولو على أدنى الناس منه وأحبهم إليه، لا تميل به قرابة ولا عصبية ولا تزيغه رغبة أو رهبة، وتزكية المرشحين لمجالس الشورى أو المناصب العامة نوع من الشهادة؛ فمن انتخب المغموط في كفايته وأمانته فقد كذب وزور ولم يقم بالقسط، والله تبارك وتعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء: 135).
وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال:((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وكان متكئًا فجلس وقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور)) فمازال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. رواه البخاري.
إن التزوير كذب كثيف الظلمات؛ إنه لا يكتم الحق فحسب؛ بل يمحقه ليثبت مكانه الباطل، وخطره على الأفراد في القضايا الخاصة وخطره على الأمم في
القضايا العامة شديد مبيد؛ ومن ثم خوف الرسول صلى الله عليه وسلم منه على هذا النحو الصارخ.
وعلى أرباب الحرف والصناعات أن يجعلوا من كلمتهم قانونًا مرعي الجانب يقفون عنده ويستمسكون به؛ فإنه لمن المؤسف حق ًّ اأن تكون الوعود المخلفة والحدود المائعة عادة مأثورة عن كثير من المسلمين مع أن دينهم جعل الوعود الكاذبة أمارة النفاق، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدس الكلمة التي يقول، ويحترم الكلمة التي يسمعها، وكان ذلك شارة الرجولة الكاملة فيه - أي علامة الرجولة الكاملة - فيه حتى قبل أن يرسل إلى الناس.
عن عبد الله بن أبي الحمساء، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث فبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاثة فجئت فإذا هو في مكانه، فقال:((يا فتى لقد شققت علي أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك))، سبحان الله يقف صلى الله عليه وسلم منتظرًا لرجل قال له: سآتيك هنا في هذا المكان فيقف صلى الله عليه وسلم في المكان ثلاثة أيام ينتظر ذلك الرجل ليعود إليه كان يحضر في الموعد المضروب بينهما.
وحدث أن الرسول صلى الله عليه وسلم وعد جابر بن عبد الله بعطاء من مال البحرين ثم عاجلته الوفاة قبل الوفاء - يعني توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي المال من البحرين - فلما جاء مال البحرين إلى خليفته رضي الله عنه أبي بكر الصديق أطلق مناديًا في الناس؛ ألا من كان له على رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة - يعني وعد أو دين - فليأتنا؛ انظر كيف توزن الكلمة ويوجب تنفيذها حتى لا تذهب هباءً مع اللغو الضائع، على أن الوعود الك اذب ة ليس فقط كلامًا يذهب سدى، ولكنها خرق بالمصالح، وإضرار بالناس، وإهدار للأوقات، وليس صدق الوعد خلة تافهة؛ إنها محمدة ذكرها الله عز وجل في
مناقب النبوة قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (مريم: 54، 55).
وسرد الصفات الفاضلة على هذا الترتيب يدلك على ما لصدق الوعد من مكانة، ولقد كان إسماعيل عليه السلام أصدق الناس وعدًا حين قال لأبيه: ستجدني إن شاء الله من الصابرين، لما قال له أبوه: إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى.
وقد يندفع الإنسان إلى الكذب حين يعتذر عن خطأ وقع منه ويحاول التملص من عواقبه، وهذا غباء وهوان، وهو فرار من الشر إلى مثله أو أشد، والواجب أن يعترف الإنسان بغلطه؛ فلعل صدق هـ في ذكر الواقع وألمه لما بدر منه يمسحان هفوته ويغفران ذلته، ومهما هجس في النفس من مخاوف إذا قيل الحق فالأجدر بالمسلم أن يتشجع وأن يتحرج من لوثات الكذب؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((تحروا الصدق وإن رأيتم أن الهلكة فيه فإن فيه النجاة)) وقال: ((إذا كذب العبد تباعد الملك عنه ميلًا من نتن ما جاء به)) رواه الترمذي.
والصدق في الأقوال يتأدى بصاحبه إلى الصدق في الأعمال والصلاح في الأحوال؛ فإن حرص الإنسان على التزام الحق فيما ينبث به يجعل ضياء الحق يسطع على قلبه وعلى فكره فيما ينبس به؛ ولذلك يقول الحق عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 70، 71).
والعمل الصادق هو العمل الذي لا ريبة فيه؛ لأنه وليد اليقين، ولا هوى معه؛ لأنه قرين الإخلاص، ولا عوج عليه؛ لأنه نبع من الحق، ونجاح الأمم في أداء رسالتها يعود إلى جملة ما يقدمه بنوها من أعمال صادقة؛ فإن كانت ثروتها من
صدق العمل كبيرة سبقت سبقًا بعيدًا، وإلا سقطت في عرض الطريق، فإن التهريج والخبط والادعاء والهزل لا تغني فتيل ً اعن أحد؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر)) الحديث.
إن الفجور الذي هدى إليه إدمان الكذب هو المرحلة الأخيرة لضياع النفس وضياع الإيمان، روى مالك عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه سوداء حتى يسود قلبه؛ فيكتب عند الله من الكذابين))، ويحيق به قول الحق في كتابه {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ} (النحل: 105).
وأما البر الذي هدى إليه الصدق فهو قمة الخير الذي لا يرقى إليها إلا أولو العزم من الرجال، وحسبك فيه هذه الآية الجامعة؛ وهي قول الحق سبحانه وتعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} (البقرة: 177).
هذا وبالله التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.