الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
بيان أنواع السحر، وعلاقتها بما يسمى (علومًا روحانية)
تمهيد:
الغموض يكتنف عالم السحر:
إن المتتبع لما أُلّف عن السحر؛ من مصنفات تبحث في ماهيته وطرائقه وتأثيره، أو تلك التي تذكر أنواعه عَرَضًا بغية التعريف بها، ومن ثم بيان خطرها وذمّها بغرض التحذير منها، إن المستقرئ لذلك كله - أو لكثير منه- ليجد غموضًا يكتنف عالم السحر، وضبابية ترتسم من حوله، ما يجعل محاولة استقصاء أنواعه، ومعرفة ضروبه وفنونه أمرًا عسيرًا، دونه عقبات كؤود، قد يكون مرجعها إلى أمور أربعة:
أولها: ندرة المصنفات الأمهات في هذا العلم، والتي إن وُجد بعضها ضنّ أهلها بالتصريح فيها بطرائق أعمال السحر، فلا يُتاح لكل قارئ معرفتها، وآثروا - ولله الحمد - إبقاء مخبوء يكتمونه عمن هو ليس أهلاً لمعرفته!! ومما اشتهر من تلك المصنفات: كتاب (غاية الحكيم) للمجريطي (1) ، وكتاب (سحر النَّبَط)
(1) مسمى الكتاب بتمامه: (غاية الحكيم وأحق النتيجتين بالتقديم)، ألفه صاحبه المجريطي: أبو القاسم مَسْلمة بن أحمد القرطبي [المتوفى سنة 395هـ] ، في السحر على طريقة اليونان، فرغ منه سنة 348هـ، ذكر فيه أنواع الطلسمات وفنون أنواع السحر، ورتبه على أربع مقالات، قال فيه: جمعت هذا الكتاب من 134 كتابًا للحكماء ونَفَحْتُه في مدة ستة سنين] . انظر: كشف الظنون لحاجي خليفة (4/300) . ومجريط: بلدة في الأندلس، وهي مدريد عاصمة أسبانيا اليوم. وقول المجريطي (نفحته)، أي: أعطيته لقارئه هبة ومعروفًا، وهو قد فاض من عندي كنفخ الطِّيْب ونشره. انظر: معجم المقاييس لابن فارس (نفح) . قلت: ليته ما فعل، وما جهد نفسه بنفحه، فقد حوى كتابه الطامّات مما لا يحسن بالمسلم معرفته، فضلاً عن حرمة اعتقاده أو العمل به.
لابن وحشية (1) ، وكتاب (الجمهرة)(2) للخوارزمي، وكتاب (العَماء)(3) للدَّسْتُميساني، وكتاب البُّوني المسمّى (شمس المعارف الكبرى)(4) ، وغيرها مما قد يُطَّلع عليه بقصد الحذر لما فيه، لا لعلمه ولا للعمل به.
والثاني: أن من تعرض لبيان هذه الأقسام من علماء الأمة، ذكرها ضمن مسائل عديدة تعرض فيها لتفسير آية كريمة، أو شرح حديث شريف، أو تفصيل مسألة فقهية، ونحو ذلك، مما حصر ذكر هذه الأنواع في بوتقة البحث العلمي المراد به تأصيل مسائل ومناقشتها وتحرير محل النزاع فيها، ومن ثم تقرير ما ذهب إليه الكاتب. وقد اكتفى بعضهم بكونه ناقلاً أمينًا لما دوّنه سابقه من هذه الأقسام بقصد التعليق على ما ذهب إليه، وتقرير خلافه أحيانًا. والمثال عليه: ما دوّنه الإمام الجصّاص في (أحكام القرآن) ، ومن بعده الفخر الرازي في تفسيره الكبير، والأئمة: النووي في شرحه لصحيح مسلم، وابن حجر في شرحه لصحيح البخاري، وابن كثير في تفسيره، وغير هؤلاء العلماء
(1) ابن وحشية: هو أحمد بن علي، أبو بكر (المتوفى 296هـ)، انظر: معجم المؤلفين لعمر كحالة (2/23) .
(2)
مسمّى الكتاب بتمامه: (جمهرة في علم السحر على طريقة العرب والقِبْط) للخوارزمي: المنصور بن علي، أبو نصر (المتوفى 425هـ) . انظر: دائرة المعارف الإسلامية (3/365) .
(3)
ومسمّاه بتمامه: (العماء في علم السحر على طريقة العرب والعبرانيين) ، لخلف بن يوسف الدَّستُميساني، لا يُعرف زمن وفاته. انظر: هديَّة العارفين لإسماعيل باشا البغدادي (1/348) .
(4)
ومسمّاه: شمس المعارف ولطائف العوارف، لأحمد بن علي البوني (المتوفى سنة 922هـ) .
…
تنبيه: ذكر حاجي خليفة في كشف الظنون (4/75) أن أول كتاب البُونيّ قوله: «الحمد لله الذي أطلع شمس المعرفة
…
إلخ» ، والمطبوع المتداول اليوم أوله: «شهادة أزلٍ، فمن نور هذه الشهادة اغترف المضعِفون علمًا
…
إلخ» ، مما يشير إلى أن الكتاب الأصل مغاير لما هو عليه اليوم، وقد حوى الأخير أوفاقًا (جداول) مثلثة ومربعة إلى مثمنة ودوائر فيها استدعاء للجن، يُزعم أن فيها الاسم الأعظم، وفي بعضها خلط أسماء لله تعالى بأسماء مخلوقين، وبمنازل القمر، وبأرقام مكررة وبحروف كذلك، وجعل جميع ذلك تمائم يعلقها المرء يتحصن بها، ويقضي بها حوائجه! ويدل جميع ذلك على أن الكتاب قد داخله تحريف عن أصله بقصد نشر تلك العلوم المنحولة، ونسبتها إلى مؤلف الكتاب، والله أعلم.
الأفذاذ ممن كتب في الأنواع، أو اكتفى بالنقل عن سابقه، والتعليق عليه.
والأمر الثالث: أن الأنواع التي ذكرها المصنفون - قديمًا وحديثًا - منها ما تعلق بتقسيم أصل السحر بين حقيقة وتخييل، أو بتقسيمه من حيث أهلُه القائمون بعمله، وطرائقُهم في ذلك، وأدواتهم فيه، أو تقسيمه بحسب ما ترتب عليه من أثر بالمسحور، من تفريق أو تحبيب وغيرهما، وقد تجد أيضًا من نوّعه تبعًا للأحكام الشرعية في تعلمه والعمل به.
الرابع الأخير منها: أن بعض المصنفين المعاصرين - ممن ادعى حيازة علوم الأولين وربما الآخِرِين! - قد أغرق المكتبات في بعض البلاد بمصنفات حوت غثًا لا سمينًا من أسحار حمراء وسوداء، وأسرار العلوم المكتومة، وكيمياء القدماء المخزونة، ومجربات ما أنزل الله بها من سلطان وبركات الحروف، وقدرات الأعداد، وعلوم الأوفاق والزايرجات، وغيرها كثير مما تأنف الأنامل عن تسطير مثله، ثم نسب ذلك كله إلى علوم روحانية، اصطفاها من علوم أهل بابل، وحِكَم الإغريق، وأقلام الأولين وخطوطهم، بما جعل المطّلع عليها فضلاً عن العالم بها أو العامل بها - عياذًا بالله - في تعبٍ مُضنٍ دونه نيل شهادة علمية مرموقة، أو إتقان كثير من علوم الشريعة المطهرة!! وليس أدل على ذلك مثالاً كتب - الملقب بـ (الأستاذ الكبير) مدير عام معهد الفتوح الفلكي!! - عبد الفتاح الطوخي، الذي ألقى بما يربو عن ثلاثين مؤلفًا فيما ادعاه كشفًا لتلك الأسرار الخفية، والعلوم اللدنية، من تنجيم، وكشف طالع، وتسخير، واستحضار، وصرف عُمّار، وفتح مندل، ودعوات، وأوفاق، وخواتم، وأرصاد، وفك طلاسم، ومجرّبات، وتعبير رؤى، وعلوم نفس، وتنويم، وعلم فراسة، وليس هو الوحيد المبرّز في هذا المضمار فقد نافسه خلق كثير - من الرافضة - غرقوا في بحور الغرائب وأسرار الأجفار، والحروز المنسوبة زورًا لأئمة آل البيت الأطهار، وأغرقوا معهم جِبِلاًّ كثيرًا لا يزال كثير منهم يحتفظون بهذه الكتب
في نفائس مقتنياتهم وخاصة مكتباتهم! أقول: قد أسهمت أمثال هذه المصنفات في إضفاء مزيد من التدليس في أمر السحر، حتى إنها قد خيلت للقارئ أن السحر صنوف لا تنحصر، وأن قدرات السحرة لا يحدها ضابط؛ فمن المجريات في طبهم التي ما تركت داء إلا وأحدثت له دواء، إلى خرصٍ بحسن طالع أو نحسه، إلى تسخير روحانية كوكب وإلزام للمَلَك المُوكَّل به، الذي يقوم بدوره بتسخير الجن المتحكم بالفيوضات الروحانية لذلك الكوكب، إلى
صناعة حُجُب مطلسمة تجلب الصحة وتمنع السقم، وتقضي سائر الحوائح من تفريق وتهييج محبة، إلى فتح مندل يجلب الغائب ويحضر المسروق، إلى تحضير جانّ، وإخراجه بل وإحراقه أحيانًا، إلى آخر منظومتهم التي تكاد لا تنتهي!
أخي القارئ، هذه الأمور الأربعة - المذكورة آنفًا - قد تكون أسبابًا مهمة حالت بين المسلم المعاصر وفهمه لحقيقة السحر، وأنواعه، وقد يكون ذلك - بتقدير الله - من الخير لهذه الأمة المكرمة، حيث انحصر اهتمام جُلّ المسلمين بمطالعة ما دوّنه علماؤهم في أقسام السحر، دون الخوض في معرفة تفصيلات ذلك، ونحن - بعون الله تعالى - سنسلك مسلكهم في بيان تقسيم السحر، مع قصد كشف ستر الدجاجلة، وتصنيفهم علوم الشر التي دوّنوها في تلك الأقسام، ليُعلَم وثيقُ علاقتِها بالسحر، فيُتقى تعلُّمُها ويُحذر أهلها، وعلى ذلك، فإن هذا الفصل سوف يحوي بابين:
الأول: في مراتب السحر وأقسامه.
وفيه أربعة مباحث: 1- مراتب السحر من حيث الحقيقةُ والمجاز.
2-
أقسام السحر، من حيث طرائقه وأهله.
3-
أنواع السحر، من حيث تأثيره.
4-
تقسيم السحر من حيث الحكم الشرعي.
والباب الثاني: في بيان علاقة السحر بما يسمى علومًا روحانية.
وفيه مبحثان:
1-
التعريف ببعض هذه العلوم، وبيان تعلُّقِها بالسحر.
2-
في التحذير من مصنفات حوت هذه العلوم.