الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5- حكم النُّشرة، وهي: حل السحر بسحر مثلِه
، فإن الحكم في هذه المسألة بالجواز أو عدمه، ينبغي التأسيس له بمعرفة المقصود بحل السحر عن المسحور، هل هو عين النُّشْرة أم عمل آخر لا يتعلق بها؟ ولبيان ذلك لا بد من معرفة المقصود بالنشرة وبيان حكمها، ومن ثم تقرير حكم حل السحر عن المسحور بطريق السحر.
أ- أما النُّشْرة - بالضمّ - فهي: (ضرب من العلاج، يُعالَج به من يُظن أن به سحرًا، أو مسًا من الجن، وقيل لها ذلك، لأنه يُنْشَر بها عنه ما خامره من الداء، أي يُكشف ويُزال)(1) .
(وإذا نُشِّر المسفوع كان كأنما أُنشط من عقال)(2)، ومعنى ذلك:(أن من به نظرة من الشيطان، أي علامة منه، أو ضربة واحدة منه، أو كان به إصابة بالعين، إذا عولج بالنشرة، حُلّ عنه ذلك سريعًا وقام كأنْ ليس به شيء)(3) .
أما حكم النشرة ففيه تفصيل؛ وهو تبع لما تكون عليه، وهي على أحد ضربين:
الأول: تعويذة مشروعة أو رقية جائزة مَقُولة أو مكتوبة (لتقرأ على المريض، ولينفث عليه بها، لا لِتُعَلَّق فتكون تميمة)، ويقصد بهذه النشرة معالجة من كان به طِب. أي: سحر أو عين أو مس أو عَصْب عن امرأته.
والثاني: حل السحر عن المسحور بسحر أو بألفاظ أعجمية - لا تُعلَم - أو بطلاسم لا يُفهم معناها، أو بألفاظ شركية، ونحوه مما كان معهودًا من النشرة في الجاهلية.
(1) انظر: النهاية لابن الأثير، مادة (نشر) 5/54.
(2)
انظر: لسان العرب لابن منظور، مادة (نشر) .
(3)
انظر: النهاية لابن الأثير مادة (سفع) 2/375. ومادة (نشط) 5/57.
فالنشرة الأولى لا بأس بها، لما فيها من المصلحة وطلب المنفعة، وعدم المفسدة، بل ربما تكون مطلوبة لأنها مصلحة بلا مضرّة (1) .
وأما الثانية؛ وهي استخراج السحر بسحر أو بألفاظ أعجمية أو بما لا يُفهم معناه، أو بنوع آخر مما لا يجوز، فإنه ممنوع (2) .
وعلى هذا التفصيل السابق تُحمل أقوال بعض أهل العلم الذين أجازوا النشرة، وعللوا لجوازها بحصول النفع، أو كونها بالعربية، ومن هؤلاء سعيد ابن المسيَّب، والمُزَنِيُّ، والشَّعْبي، والطبري، كما يفسّر بهذا التفصيل قولُ من منعها من أهل العلم؛ كالحسن البصري، وابن تيمية، وابن القيم، وابن الجوزي، رحم الله الجميع. وهاك أخي القارئ أدلة كلٍّ من الفريقين، بعدما علمت طريق الجمع بين مذاهبهم في حكم النشرة.
من أدلة القائلين بجواز النشرة:
1-
…
قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين سألته عائشة رضي الله عنها: أفلا؟ أي: تنشَّرْتَ، فقال عليه الصلاة والسلام:«أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللهُ، وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا» (3) . ووجه الاستدلال في ذلك: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم ينكر على السيدة عائشة سؤالها، ثم إنه صلى الله عليه وسلم لم يذكر - في هذا الحديث - حرمة النُّشرة، مع أن المقام مقام بيان الحكم، مع شدة الحاجة إليه، فعُلِم بذلك أصل مشروعية النشرة، والله أعلم.
2-
…
واستدلوا أيضًا بقول سعيد بن المسيَّب لما سأله قتادةُ رحمهما الله قائلاً: رجل به طِبّ، أو يؤخذ عن امرأته، أيُحَلُّ عنه أو يُنَشَّر؟ قال:
(1) مستفاد من نص فتوى للعلاّمة ابن عثيمين رحمه الله. انظر: الفتاوى الذهبية ص 156، إعداد: المؤلف.
(2)
انظر: أضواء البيان للعلاّمة الشنقيطي (4/505) .
(3)
سبق تخريجه ص43، بالهامش ذي الرقم (3) .
لا بأس، إنما يريدون به الإصلاحَ، فأما ما ينفع الناس فلم يُنْهَ عنه (1) . اهـ.
أما القائلون بتحريم النشرة، لكونها من السحر، فمن أدلتهم:
-
…
ما نصت عليه الآية الكريمة: [البَقَرَة: 102]{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} ، فقد صرّحت بأن السحر ضُرّ محض لا يتأتى منه نفع قط، فكيف ينتفع المنشّر عنه بسحر؟!
-
…
وكذلك النصُّ على عدم فلاح الساحر مطلقًا، في قوله تعالى:[طه: 69]{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} ، فكيف يرجى ممن لا يتأتى له فلاح في جميع أمره في الدنيا والآخرة أن ينفع مسحورًا بنُشرة يعملها؟!
-
…
ومن أدلتهم أيضًا قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك» (2) .
-
…
وقولُه صلى الله عليه وسلم حين سئل عن النشرة: «هو من عمل الشيطان» (3) .
ووجه الاستدلال في الحديثين السابقين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيّد في الحديث الأول جواز الاسترقاء بما لم يكن فيه شرك، ومعلوم أن النشرة بالسحر قد تتضمن شركًا، أو كلامًا أعجميًا - لا يُعلم - قد يحوي شركًا، أما الحديث الثاني فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم النشرة من عمل الشيطان؛ لأنه
(1) قول ابن المسيِّب رحمه الله أخرجه البخاري؛ كتاب: الطب، بعد ترجمة باب: هل يستخرج السحر؟ قبل حديث عائشة رضي الله عنها، برقم (5765) .
(2)
أخرجه مسلم؛ كتاب: السلام، باب: لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، برقم (2200) ، عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه.
(3)
أخرجه أبو داود؛ كتاب: الطب، باب: في النشرة، برقم (3868) ، وأحمد في «مسنده» (3/361) ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. هذا، وقد صحّح الحديثَ النوويُّ، والألبانيُّ كما في «المشكاة» (4553) ، وجوّد إسناده ابنُ مفلح وابن عبد الوهاب وابن باز وابن عثيمين رحم الله الجميع.
لا يُعلم عند العرب من شأن النشرة - إذا أُطلقت - إلا النشرة المعهودة في الجاهلية، وأصلها عندهم: حل السحر بسحر مثله.
هذا، وقد بسطت القول في حكم النشرة بما يتسع له المقام؛ وذلك لشدة حاجة المبتلى بسحر إليها، ولكثرة وقوع المسألة فيها، والمختار من أقوال العلماء في حكمها قول من ذهب إلى التفصيل، حيث يمكن به الجمع بين ما ظاهره التعارض من النصوص، والله أعلم.
أما ما ذكره بعض أهل العلم مما عرفه العرب واشتهر عندهم من طُرُق للنشرة، فأذكرها هنا إتمامًا للمطلب، ولا أجزم بنفعها أو مشروعيتها، ما خلا ما يقرأ من آيات الله تعالى في الصنفين الثالث والرابع منها:
1-
…
[ما يسمّى (الحَلّ) ، وهو أن الرجل إذا لم يقدر على مجامعة أهله وأطاق ما سواها، فإن المبتلى بذلك يأخذ حزمة قضبان وفأسًا ذا قطارين، ويضعه في وسط تلك الحزمة، ثم يؤجِّج نارًا في تلك الحزمة، حتى إذا ما حمي الفأسُ استخرجه من النار وبال على حرّه، فإنه يبرأ بإذن الله تعالى.
2-
…
أن يتنشّر بأن يجمع أيام الربيع ما قدر عليه من ورد المفازة، وورد البساتين، ثم يلقيها في إناء نظيف، ويجعل فيها ماءً عذبًا، ثم يغلي ذلك الورد في الماء غليًا يسيرًا، ثم يمهل حتى إذا فتر الماء أفاضه عليه فإنه يبرأ بإذن الله تعالى.
3-
…
أن يخرج الإنسان في موضع عضاه (1) ، فيأخذ عن يمينه وعن شماله من كلٍّ، ثم يدقّه ويقرأ فيه، ثم يغتسل به.
(1) موضع عضاه: أي أرض يكثر فيها نوع من الشجر يسمى العضاه، وهو شجر كبير، كثير الشوك طويلُه. انظر: لسان العرب، لابن منظور، باب الهاء، فصل العين. مادة (عضه) .
4-
…
أن يأخذ سبع ورقاتٍ من سدر أخضر، فيدقّه بين حجرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي، والقواقل (1) ، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به، فإنه يذهب عنه كلُّ ما به، وهو جيد للرجل إذا حُبِس عن أهله] (2) .
***
(1) القواقل: هي السور الكريمة الأربع: الكافرون - الصمد - الفلق - الناس.
(2)
ذَكَرَ هذه الصنوف من النشرة، ابنُ حجر رحمه الله. انظر: الفتح (10/244) . ونقل الإمام الأولى منها والثانية عن حمّاد بن شاكر، وهو أحد رواة صحيح البخاري كما في سير أعلام النبلاء للذهبي (15/5) . ونقل الثالثة عن الشعبي كما في مصنف عبد الرزاق (11/13) . ونقل الرابعة منها عن ابن بطّال شارح البخاري، وهو من كبار السادة المالكية، كما في سير أعلام النبلاء للذهبي (18/47-48) .