الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول:
مراتب السحر وأقسامه
أولاً: مراتب السحر من حيث ماهيته؛ حقيقة ومجازًا
.
إن أشهر من تعرّض لمراتب السحر من حيث الحقيقة والمجاز ابنُ خلدون في مقدمته (1)، حيث يقول:(والنفوس الساحرة على مراتب ثلاث يأتي شرحُها: فأولها: المؤثّرة بالهمة فقط من غير آلة ولا معين، وهذا هو الذي تسميه الفلاسفة السحر، والثاني: بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواصّ الأعداد، ويسمّونه الطِّلّسمات، وهو أضعف رتبةً من الأول، والثالث: تأثير في القوى المتخيلة؛ يَعمَد صاحب هذا التأثير إلى القوى المتخيّلة فيتصرف فيها بنوع من التصرف، ويلقي فيها أنواعًا من الخيالات والمحاكاة، وصورًا مما يقصده من ذلك، ثم يُنزِلها إلى الحِسّ من الرائين بقوة نفسه المؤثرة فيه، فينظر الراؤون كأنها في الخارج وليس هناك شيء من ذلك، كما يُحكى عن بعضهم أنه يري البساتين والأنهارَ والقصورَ وليس هناك شيء من ذلك، ويسمى هذا عند الفلاسفة: الشعوذة أو الشعبذة)(2) . يتبين مما سبق أن إعمال السحر - بمراتبه الثلاثة - لا بد فيه من تأثير نفس ساحرة قوية، سواء كان تأثير السحر بهذه النفس وحسب، أو باستعانتها بتوجهٍ إلى من تستعين به من مخلوق، أو بصرف تأثيرها إلى قدرات التخيل لدى الرائين، ومنها إلى قدرة الإبصار لديهم، كل ذلك اعتبره رحمه الله سحرًا لأن التعويل فيه إنما يكون على اقتدار النفس البشرية على التأثير بالهمة، وقَد بيّن أن هذه القوة هي قوة كامنة في تركيب الإنسان، لكنها إنما تظهر بالدِّرْبة على ذلك شأنها في ذلك؛ شأن سائر القوى البشرية الموهوبة
(1) المقصود مقدمة كتاب ابن خلدون المسمى: كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
(2)
مقدمة ابن خلدون، ص497.
للإنسان، وفي ذلك، يقول:[ثم هذه الخاصية - أي اقتدار النفس البشرية على التأثير بالهمة والإرادة - تكون في الساحر بالقوة شأن القوى البشرية كلها، وإنما تخرج إلى الفعل بالرياضة (1) ، ورياضة السحر كلها إنما تكون بالتوجّه إلى الأفلاك والكواكب والعوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم والعبادة والخضوع والتذلل، فهي لذلك وِجْهة إلى غير الله وسجود له، والوجهة إلى غير الله كفر](2) .
أما المراتب الثلاثة فأحسب أنك أدركت أن سحر الهمة، وسحر الاستعانة، مرتبتان للسحر الحقيقي، وأن الثالث هو سحر تخييل لا حقيقة له. وقد قرر ذلك ابن خلدون عند تعليله لاختلاف العلماء في حقيقة السحر، فقال رحمه الله:
[ولما كانت المرتبتان الأُولَيَان من السحر لها حقيقة في الخارج، والمرتبة الأخيرة الثالثة لا حقيقة لها؛ اختلف العلماء في السحر، هل هو حقيقة أو إنما هو تخييل، فالقائلون بأن له حقيقة نظروا إلى المرتبتين الأولَيَيْن، والقائلون بأنْ لا حقيقة له نظروا إلى المرتبة الثالثة الأخيرة، فليس بينهم اختلاف في نفس الأمر، بل إنما جاء من قِبَل اشتباه هذه المراتب، والله أعلم](3) . وعلى ذلك يكون ابن خلدون رحمه الله قد جعل أصولاً عامة يمكن أن يندرج تحتها صنوفًا تكاد ألا تحصى من أنواع السحر، قد تشعّب في ذكرها بعض أهل العلم. وإذا جاز لنا إجمال مذهبه - بما ييسر فقه ذلك على القارئ - فإن ذلك منحصر في ستة أمور:
(1) إن للسحرة بالطلسمات، صحيفة يسمونها (الخَزِيريّة) ، يتدارسونها، تحوي دعواتٍ كفرية، وإشراك لروحانيات الجن والكواكب، يزعمون أنهم بهذه الرياضة والوِجْهة يصلون إلى حصول الأفعال لهم، انظر: مقدمة ابن خلدون ص 501.
(2)
انظر: ص 498 من مقدمة ابن خلدون أيضًا.
(3)
انظر: المرجع نفسه، بالعزو السابق.
1-
…
أن النفس القوية المؤثرة هي شرطٌ لحصول السحر.
2-
…
هذه النفس، لا بد من تدريبها لتقوى مَلَكة التأثير فيها.
3-
…
هذه الدِّرْبة إنما تكون بصنوف من التقرب لغير الله - والعياذ بالله -.
4-
…
فإن كملت قوة هذه النفس بالتأثير بالإرادة، فاستغنت عن معين لها كان ذلك أشد ما يكون من السحر، وهو سحر له حقيقة في الخارج، أي: يؤثر تفريقًا وتحبيبًا واختلاطًا في عقل المسحور، وتغييرًا في مزاجه، وإمراضًا لبدنه.
5-
…
أما النفس التي لم تتكامل قوتها بالتأثير بالهمة فقط، فهي تبقى قاصرة عن إعمال السحر، إلا إذا استعانت بمخلوق من مزاجٍ لأفلاك، أو خواص لعناصر أو تأثير لأعداد، ويسمى فاعل ذلك ساحر بالطلسمات، وهو سحر له حقيقة أيضًا، وهو مؤثر، لكنه لا يبلغ بتأثيره كما سابقه.
وتأثير هذين النوعين بإيقاع الضر إنما يكون بأمر عادي أي ليس محتمًا حصوله، لكن يكون بإذن الله الكوني القدري، فيخلق الله - إن شاء - أثرَ هذا السحر - عند عمل الساحر له - فيبتلي به الساحر فتنة، والمسحورَ صبرًا وامتحانًا.
6-
فإن عجزَتْ تلك النفس عن التأثير - حقيقة - بإرادتها وهمتها، وكذلك باستعانة بغيرها، عمد صاحبها إلى روحانية ملك - بزعمهم - أو كيد شيطان، أو إلى التأثير بطريق التخييل؛ وسبيل ذلك: محاولة السيطرة على مخيّلة الرائي النفسية، ومن ثم إسقاط ذلك على رؤيته الحسية البصرية، ليريَه ما ليس موجودًا حقيقة، وهذا الأخير هو سحر المجاز أو التخييل، وهو ما يسمى بالشعوذة.
وهنا تنبيه إلى أن المرتبة الثالثة، وهي سحر التخييل - إذا اعتمد فيها