الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضياعًا وحيرة فلم يجد سبيلاً عندها إلا ذلك السقوط المريع والنهاية البائسة.
هذا، وإننا في ذلك لا نبرئ ساحة نفر من الشباب لديه استعداد مسبق لهذا الانحراف، وهو يميل بطبعه إلى اتباع الهوى وتحكيم الشهوات، فيكون وَقودًا لهؤلاء السحرة والكهنة، ولتلك الدعوات الهدامة المنحرفة.
رابعًا: نظرة تربوية لاستنقاذ الشباب من أوكار الانحراف
(1) .
إن المنهجية العلمية تقتضي النظر إلى المشكلة المراد تشخيصها ووضع الحلول الناجعة لها؛ نظرًا يشمل جميع حيثياتها حتى يمكن بذلك معالجتها، والتخلص من أثرها، وإني لا أدعي في هذا أني قد أتممت تشخيص هذه المشكلة الاجتماعية المهمة، فإن ذلك قد يحتاج إلى عقلية فذة قد تقارب ما عند ابن خلدون رحمه الله، وأنّى لي مثل ذلك، لكني أحسب أني في هذه العجالة قد ألقيت الضوء على جانب مهم من أسباب ما وقع به أولئك الشباب، ولن نسلك في علاج ذلك مسلك الغربيين الذين قطعوا أشواطًا في العمران واستخدام الموارد وتصنيع الأدوات، لكنهم حسبما هو ظاهر من حالهم لم يرتقوا إلى البعد الداخلي للحضارة، ولم يلامسوا بحضارتهم ما وُجِدوا لأجله، لذا فإن مبلغ علمهم قد بقي منحصرًا في تحقيق القدر الأكبر من الترفُّة والتقدم المادي البحت، لكنْ والحق يقال إن أهل الغرب قد بذلوا جهودًا مضنية لتقرير فكرة التغيير والتقدم المستمر في أذهان شعوبهم فاستطاع مفكروهم عبر قرون متواصلة أن يفتحوا دائرة التفكير المنغلق إلى أفق الوعي الحضاري المتجدد، وأن يعزّزوا الثقة بالقدرات الإنسانية للتطور نحو الأفضل، وفي هذا المضمار بالذات نرى أن أمة الإسلام المكرمة هي الأحق بهذا النمط من التفكير الجادّ والانفتاح على آفاق تحديث الحياة وتمدينها، ذلك أن ديننا الحنيف لم يَدَع مسلكًا يثبّت فيه مفهوم التمدين الإنساني الذي
(1) مستفاد - بتصرف - من كتاب: تجديد الوعي. أ. د. عبد الكريم بكّار. ص115 وما بعدها.
يسخّر كل أنشطة الحياة لكسب رضوان الله تعالى في هذه الحياة إلا وسلكه.
ولنأت بعد تقرير ذلك إلى ما نحسبه مسهمًا في تخليص شبابنا من براثن تلك الدعوات الهدامة، وهو يتلخص في ضرورة توجيه موارد الأمة وثرواتها وجهة التنمية الإنسانية، أعني بذلك تنمية العقل والروح والمشاعر والطموح الخاص لدى الشباب، وأن يكون جميع ذلك متوازنًا وموازيًا لتوفير الحاجات المادية بتوفير فرص عمل مناسبة لهم، فإن هذا التوازن - وبخاصة إذا أطر بإطار المشروعية والاعتدال - أشعر الشباب بملئهم حيزًا مهمًا في المجتمع، وأكسبهم خبرة عملية يستنتجون من خلالها ما يسمى فقه الموازنات، وفقه الأولويات، فلا يكون أحدهم كتاجر خارج السوق، أو مهندس ينشئ المشاريع على صفحات الورق، فإذا طبق الشباب تعاليم الدين عمليًا في المجتمع، تعرفوا عندها على الموازنة بين هذه التعاليم، وتقديم أولوياتها في التطبيق، لكن لو بقي أحدهم أسير سماع محاضرات علمية، وهو يمارس دور المتلقّي دومًا، ويشعر بأنه قد أقصي عن مسرح الحياة العامة، فإنه بطبيعة الشباب التواقة دومًا إلى الانتقاد والتغيير سوف ينتقد ولا شك كل ما حوله، لما يجده من هوة سحيقة بين ما يتلقفه نظريًا، وبين ما يراه في أرض الواقع، ولو أنه شارك - ولو بقدْر يسيرٍ - في بناء ما حوله لوجد أن طموحاته تلك تحتاج إلى جهد عظيم في البناء واستفراغ كل الطاقات في خدمة مجتمعه، فلم يجد عندئذ وقتًا ضائعًا أو غير ضائع ليصرفه فيما يعتبره هو إزهاقًا لطاقاته، واستخفافًا بإمكاناته، فلا مشعوذ دجال يستخف عقله، ولا صاحب يُمَنِّيهِ بقدرة الساحر فلان على تحقيق أمنياته، ولا جماعة منحرفة لها أن تبذر بذارها الفاسدة في أرض عقله.
وها هم رسل الله عليهم السلام كانت تأتيهم معونة الله تعالى من حيث لم يحتسبوا، وفي اللحظة الأخيرة الحاسمة، وبعد استفراغهم ومن معهم
كامل جهدهم، تأتيهم الثمرة لجهودهم تلك، [يُوسُف: 110] {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} . وقد كان الله عز وجل قديرًا على نصرهم ابتداءً، لكن سنة الله تعالى في خلقه اقتضت أن يبذل العبد كل الوسع، وأن يستفرغ جميع الطاقة، ثم إذا ما عجز عن تحقيق مراده طلب العون أو جاءه المدد، فلو تقرر في أذهان شبابنا - عمليًا - مثل هذه المعاني الشرعية، فأي مشعوذ دجال له أن يستخف عقولهم؟! وأي ساحر فاجر يوهمهم بقدراته الخارقة؟ وأي جماعات منحرفة لها أن تبذر بذارها الفاسد في أرض عقولهم؟ لقد أضَحوا شبابًا يعملون بجِدٍّ على تحديث مجتمعاتهم والرقيِّ بها، وفق توازن شرعي، وسلّم أولويات للمهمات، بما يخدم وطنهم، ويحقق رسالتهم في الحياة.
***