الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا بإجمال سرد دال على تغلغل السحر في سائر المجتمعات، بما يفسر - تأريخيًا - نسبة عامة الأقوام دعوات رسلهم عليهم السلام إلى السحر، ووصمهم للأنبياء بأنهم سحرة يبغون حيازة الملك بسطوة سحرهم، وبتمرسهم في فنونه. قال الله تعالى:[الذّاريَات: 52]{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ *} . وقال سبحانه حكاية عن قوم فرعون، وعن كفار قريش:[القَصَص: 48]{قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} . وقال عز من قائل: [الأعرَاف: 108-109]{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ *قَالَ الْمَلأَُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ *} .
ثانيًا: الوظيفة الاجتماعية لظاهرة السحر
.
قد يسأل المرء متعجبًا: ما الذي يجعل من السحر ظاهرة اجتماعية مهمة مستمرة في حياة الناس، مع ما توصل إليه العلم الحديث من تقنيات متطورة بما يذهل العقول ويكاد يذهب بالألباب؟ فالعالم بات قرية صغيرة، يتناقل أهله فيها شتى المعارف في ثواني معدودة، بل يأتيك بالأخبار من لم تُزوِّد، فتلك الأقمار الصناعية في مئات المدارات تبث ما شاءت من غث وسمين، وتلك المركبات الفضائية تصطدم بنيازك عمدًا لتأخذ عينات منها فتحللها وتنبئنا بمكوناتها في مراكز وكالات الفضاء، وأخرى تحط غير مأهولة على سطح المريخ، لتنقل إلينا كثيرًا من طبيعة أرضه ومحيطه!! [ومعلوم أن هذا الكوكب هو من السبع الدراري السيارة التي ما زال أهل السحر بالتنجيم مصرين على أن له روحانية تُستنزَل وملكٌ موكل وجنٌ خادم، ومعدن مناسب للتقرب إليه، وثياب للمُتقرِّب إليه مختصة به يُرضي مزاجَ الكوكب بلبسها، وبخورات تستجلب تأثيره، فيُعمل عندئذٍ الكوكب - بزعمهم - تفريقًا وتحبيبًا وإمراضًا ومعافاة، وحربًا وسلمًا، وسعدًا ونحوسًا، وخصبًا للأرض أو جدبًا، بل تعدى ذلك كله إلى التصرف بأسعار السلع التي من جنس معادنه إغلاء وإرخاصًا](1) !!
(1) انظر: إحكام الحكيم في علم التنجيم، لعبد الفتاح الطوخي (3/145) .
ونعود بعدها إلى تعليل تواصل هذه الظاهرة في المجتمعات البدائية منها والمتقدمة، لنجد أسبابًا ثلاثة تكمن وراء ذلك (1) :
1-
شغف الإنسان بفطرته - إلى تفسير الظواهر الغامضة والغريبة في الكون، فلا تبقى في مخيلته مجهولة يتوجس منها خيفة، ويترقب أن تداهمه في كل لحظة، فإذا ما استكشف حقيقة هذا المجهول تسبب له ذلك باطمئنان نفسي، وجعل لهذه المجهولات قدرها الذي تستحقه دون المبالغة في جعل هالة حولها تقلق النفس وتؤرق الروح وتشغل الفكر.
2-
شعور الإنسان دومًا بحاجته لقوى خارقة تختصر له طريق البلوغ إلى مآربه، وبخاصة إذا ما بذل في تحصيل حاجاته قصارى جهده فأعجزه ذلك، عندها يبحث جادًا عن وسائل تنوّله - بأقل جهد ممكن - مراده، وتحقق له بتعويذة مثلاً أو بكتابة وَفْقٍ جميع حاجاته!! فمن كانت عاقرًا فإنها تلد بحمل حجاب، ومن كان مبتلى بمرض عضال أعجز أهل الطب، تخلص منه بطلسم قاهر لا يرد أمره ولا يتخلّف وعده! وهذا الشعور بالقصور الإنساني تزيد نسبته عند الإنسان البدائي الأمي، لكنه قد يتعداه إلى من حاز أعلى الدرجات العلمية، بل وإلى حكام الشعوب أحيانًا، فينشئ أحدهم حربًا مثلاً أو يعقد سلمًا تبعًا لتكهن كاهن أو تنجيم ساحر أو نبوءة عراف!!
3-
استخدام بعض الناس السحر كوسيلة للدفاع من أذى الآخرين، وكذلك لحماية الممتلكات الخاصة، لاعتقادهم بذلك، وقد يستعمل البعض السحر لإيذاء الآخرين بالتفريق أو الأمراض ونحوه أو التنكيل بالأعداء، أو لجلب محبوب، أو حتى لجلب زبون، أو ترويج كاسد من سلعة، ولعل هذا الدافع هو الأقوى لاستمرار هذه الظاهرة، فالإنسان تتعدد حاجاته وهو يسعى حثيثًا لتحقيقها، ومن الناس من يعتقد أن السحر هو الطريق الوحيد لذلك.
(1) انظر: السحر والمجتمع، د. سامية الساعاتي. ص 161 وما بعدها.