الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الناس، واتخذوها دواوين، فأَطْلع الله على ذلك سليمانَ بن داود، فأخذها فدفنها تحت كرسيّه، فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق، فقال: ألا أدلّكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه؟ قالوا: نعم، فأخرجوه فإذا هو سحر، فتناسختها الأمم، وأنزل الله عذر سليمان فيما قالوا من السحر، فقال:[البَقَرَة: 102] {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ
…
} (1) .
رابعًا: من تفسير آية السحر:
1-
…
يقول تعالى: {واتبعوا} ، فمن هم المتَّبِعون؟ الصواب من القول في تأويل ذلك عموم يهود، الذين لم يزل أمر السحر فيهم، من عهد سليمان إلى أن بعث الله نبيَّه بالحق، وأن في ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجحدوا نبوته، وهم يعلمون أنه لله نبيٌّ مرسَل، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله، وهجرهم العملَ به، وهو - أي: التوراة - في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنه كتاب الله (2) .
فاليهود - المتَّبِعون للسحر - من لدن عهد سليمان إلى زمن نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم داخلون في توبيخ الله لهم على استبدالهم السحر بآيات الله في التوراة وفي الإنجيل وفي القرآن.
2-
…
يقول تعالى: {مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} فما معنى {تتلوا} ؟ وما هو المتلوّ؟ ولِم عُبِّر عنه بالتلاوة؟
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/265) ، وصحّحه - كمافي «الدر المنثور» للسيوطي (1/233) - وسكت عنه الذهبي. وأخرجه سعيد بن منصور (2/594 برقم 207) ، والطبري في تفسيره (2/415/1662) ، وذكره الواحدي في أسباب النزول ص31.
(2)
اختار هذا التأويل الإمام الطبري، ثم أتبعه بقوله: وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن المتبعة ما تلته الشياطين، في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق، وأمر السحر لم يزل في اليهود. فكل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود داخل في معنى الآية. اهـ. أي ليس مقصورًا على أسلافهم وحسب. انظر: تفسير الطبري (1/491) .
[أما معنى {تتلوا} ، فهو: تقرأ، أي من التلاوة، أو: تَتْبع، كما تقول: جاء القوم يَتْلو بعضُهم بعضًا، أو أن معناها: تفضِّل، لأن كل من اتبع شيئًا وجعله إمامه فقد فضّله على غيره. والتعبير بـ {تتلوا} ، يعني: تَلَتْهُ، فهو بمعنى المُضِيّ](1) . فيصير المعنى - على ما سبق -: قد فضّلت سحرة يهود، ومن تشبّه بهم، واتبعوا - وهم من شياطين الإنس - ما قرأته شياطين الجن، مما افترته كذبًا، وتقوَّلَتْه زورًا، على عهد ملك سليمان، بأن سبب ملكه إنما كان السحر وما أنزل على الملكين، والله أعلم.
[أما المتلو هنا فهو: السحر. وقد عُبر عن ذلك بالتلاوة، لأن التلاوة إنما تكون - في كلام العرب - بمعنيين؛ أحدهما: الاتباع، فيكون المعنى واتبعوا ما تتّبعه الشياطين مما دفنوه تحت كرسي سليمان عليه السلام من السحر والكفر. والمعنى الآخر: القراءة والدراسة، فيكون المعنى: واتبع اليهود ما تلته الشياطين عليهم دراسة ورواية، فسارت على منهاجها في ذلك، وعملت به وروته. فيتحصل بذلك: أن اليهود اتبعوا ما تبعته الشياطين بالعمل به، وتدارسوه بالرواية عنهم](2) .
3-
…
يقول تعالى: [البَقَرَة: 102]{عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ، فما وجه التعبير بـ {على} ، مع أن التلاوة - كما سبق - تكون بمعنى الاتباع أو الدراسة؟ وما هو ملك سليمان؟ وهل يُحجر ذلك المُلك العظيم عن غيره من الخلق عامة؟
إن الدراسة - كما لا يخفى - تتضمن معنى التحديث والإخبار، وهذا
(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي (2/42) .
(2)
المرجع السابق (1/492) .
الإخبار من الشياطين بأن سبب ملك سليمان هو علمه بالسحر، قد تضمن معنى الكذب على سليمان، لذلك فقد عدّي فعل {تتلو} ، بـ {على} ، فيكون المعنى: واتبع اليهود - الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما تتلوه الشياطين وتخبر به وتحدّثه كذبًا على ملك سليمان، وقد صدّقوا ذلك التقول، وعملوا بمقتضاه!! (1) ، وثَمَّ وجه آخر للتعبير بـ {على} ، وهو [أن العرب تضع «في» موضع «على» ، و «على» موضع «في» ، ومن ذلك قول الله جلّ ثناؤه: [طه: 71]{وَلأَُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} ، يعني به: على جذوع النخل. وكما قالوا: «فعلت كذا في عهد كذا، وعلى عهد كذا» بمعنى واحد] (2) . فيكون المعنى واتبعوا ما تلته الشياطين كذبًا في عهد سليمان عليه السلام.
[أما ملك سليمان عليه السلام، فهو مما لا يبلغه بيان البشر، وقد ذكره الله تعالى بقوله: [سَبَإ: 12-13]{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ *يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ *} .
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/141)، وانظر كذلك: نور الإيمان في تفسير القرآن، للشيخ محمد مصطفى أبي العِلا رحمه الله ص146.
(2)
انظر: تفسير الطبري (1/493) .
نعم، إن الملك الذي وهبه الله عز وجل لعبده سليمان عليه السلام قد فاق - بفضل الله - ما قد يطلبه طالب أو يطمح إليه طامح، ذلك أنه من عطاء الله الذي لا ينفد، وقد ذكرَتِ الآياتُ الكريمات التي أوردتها صنوفًا من هذا العطاء، وهي:
(أ)
…
تسخير الريح له، وذلك أنه عليه السلام لما عقر الخيل غضبًا لله عز وجل، عوّضه الله ما هو خير منها وأسرع: الريح اللينة تحمل بساطه يغدو عليه حيث أراد من مكان كدمشق مثلاً، إلى آخرَ يتغدّى به، كإصطخر (1) مثلاً - وهي تبعد عن دمشق شهرًا كاملاً للمسرع على دابته، كل ذلك في الغداة صباحًا، أما في الرواح مساءً فقد يروح عليه السلام ببساطه من إصطخر مثلاً إلى كابُل - المعروفة اليوم - وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع، كلُّ ذلك في المساء.
(ب)
…
تملُّك عينٍ تسيل بالنحاس، وهي باليمن، وقد أجراها الله لسليمان عليه السلام ثلاثة أيام، فكل ما يصنع الناس، من النحاس - إلى يومنا هذا - هو مما أخرج الله تعالى لعبده سليمان عليه السلام (2) .
(ج)
…
تسخير الجن له - مقهورين منقادين إليه - يعملون بين يديه بقَدَر الله، فيأمرهم سليمان بما شاء من عمل أبنيةٍ حسنة، كالمساجد والقصور والمساكن، وكذلك الصُّوَر من نحاس أو من طين أو زجاج، ويصنعون له أحواضًا عظيمة الاتساع كالجَوْبة من
(1) إِصْطَخْر: بلدة من أقدم مدن فارس وأشهرها، بها مسجد يعرف بمسجد سليمان عليه السلام، وبين إصطخر وشيراز - المعروفة اليوم - اثنا عشر فرسخًا، أي ما يقارب 66.5 كلم، وكان فتح إصطخر الأخير سنة ثمان وعشرين وسط خلافة عثمان رضي الله عنه. انظر: معجم البلدان لياقوت الحَمَوي (1/250) . والروض المعطار للحِمْيري ص 44.
(2)
هذا مروي عن ابن عباس وقتادة والسُّدِّي وغيرهم. انظر: تفسير الطبري (20/363-364) ، و «الدر المنثور» للسيوطي (1/678) .
الأرض (1) ، تُجمع فيها المياه، كما يعملون له آنية يُطبخ فيها، وهي - من عظم اتساعها - ثابتات في أماكنها لا تتحول ولا تتحرك، حيث إن ركائز هذه القدور هي جزء منها، فلا حاجة لنقلها وتثبيتها!!
هذا الملك العظيم، الذي وهبه الله لنبيِّه سليمان عليه السلام كان سببه شرع سليمان عليه السلام الحق، ونبوته العظيمة، لا السحر كما تقولته الشياطين واتبعته اليهود، فقد امتن الله عليه بتلك الهبة الربانية، التي يتصرف بها سليمان عليه السلام كيف يشاء، [ص: 39] {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ *} .
وهنا مسألة: هل كان هذا العطاء الإلهي حِجْرًا على سليمان عليه السلام، فلا يوهب لأحد من بعده، أو لا يوهب ما يوازيه أو يزيد عليه؟
قال بعضهم: معنى قوله تعالى: [ص: 35]{لَا يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي} . أي: لا يصلح لأحد أن يسلبنيه، كما كان من قضية الجسد الذي ألقي على كرسيّه، لا أنه يُحجر على مَن بعدَه من الناس. والصحيح أنه سأل من الله مُلْكًا لا يكون لأحد من البشر مثلُه من بعده، وهذا هو ظاهر السياق من الآية، وبه وردت الأحاديث من طُرُقٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
(1) الجَوْبة من الأرض: ما يستنقع فيها الماء، فهي كالحياض التي تردها الإبل من عِظَمها. انظر: تفسير الطبري (12/89) .
(2)
انظر: تفسير القرآن العظيم، للإمام ابن كثير رحمه الله. ص1469 ط - بيت الأفكار. وانظر: كذلك: الجامع لأحكام القرآن، للإمام القرطبي رحمه الله (1/43) .
أما الأحاديث التي وردت من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تثبت أن سليمان عليه السلام قد سأل الله مُلكًا لا يكون لأحد من البشر مثله من بعده - فعديدة، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إن عفريتًا من الجنّ تفلّت عليَّ البارحةَ، ليقطع عليّ الصلاة، فأمكنني اللهُ منه، وأردتُ أن أربطَه إلى سارية من سواري المسجد، حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلُّكم، فذكرت قول أخي سليمان:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فردّه خاسئًا. متفق عليه، البخاري (4808) ،
…
ومسلم (541) . وعند أحمد في مسنده (3/82) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلّي صلاة الصبح وهو خلفه، فقرأ فالتبست عليه القراءة، فلمّا فرغ من صلاته قال: لو رأيتموني وإبليسَ، فأهويتُ بيدي، فما زلت أخنقه حتى وجدت بَرْد لُعابه بين إصبعيّ هاتين - الإبهام والتي تليها - ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطًا بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحدٌ فليفعل» . والحديث صحّحه - بشواهده - الألبانيُّ. انظر: الصحيحة برقم (3251) . ومن ذلك أيضًا ما أخرجه أحمد في مسنده (2/176)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:«إن سليمان بن داود عليهما السلام، سأل الله ثلاثًا أعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن تكون له الثالثة، فسأله حُكمًا يُصادِف حكمَه، فأعطاه الله إياه، وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه إياه، وسأله أيّما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد - أي بيت المقدس - خرج من خطيئته مثلَ يوم ولدته أمّه، فنحن نرجو أن يكون الله عز وجل قد أعطاه إياه» . والحديث أخرجه أيضًا من حديث ابن عمرو: النسائي (2/34) ، وابنُ ماجه (1408) ، وصحّحه ابن خزيمة، وابن حِبّان، والحاكم ووافقه الذهبي. رحم الله الجميع.
ويتفرع عما سبق مسألتان؛ الأولى: ما هو الجسد الذي ألقي على كرسيّ سليمان عليه السلام؟ كما في قوله تعالى: [ص: 34]{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ *} .
[الجسد الذي ألقي على كرسيّ سليمان؛ هو شيطان اسمه آصِف، أو آصِر، أو صخر، أو حقيق، قال له سليمان: كيف تفتن الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فأعطاه، فنبذه آصف في البحر، فذهب مُلك سليمان، وقعد آصف على كرسيه، ومنع الله آصفَ نساءَ سليمانَ فلم يقربهن، وأنكرته أمُّ سليمان، وكان سليمان يستطعم ويُعرِّفهم بنفسه فيكذبونه، حتى أعطته امرأة حوتًا - أي سمكة كبيرة - فطيَّب بطنَه فوجد خاتمه في بطنه، فردّ الله إليه ملكه، وفرّ آصف فدخل البحر. وقد حكى النقّاش في تفسيره (1) أن الجسد الذي ألقي على كرسيّ سليمان هو ولده، الذي حملت به إحدى نسائه وقد وُلد ساقطًا أحد شِقَّيْه - أي كان نصف إنسان -، وذلك حين «قال
(1) تفسير النقاش - وهو: محمد بن الحسن بن محمد بن زياد - لا يعتمد عليه، كما سيأتي من كلام ابن حجر رحمه الله بقوله: والنقاش صاحب مناكير.
سليمان: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأةً تَحمِل كلُّ امرأة فارسًا يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: إن شاء الله، فلم يقل، ولم تحمل شيئًا إلا واحدًا ساقطًا أحد شقّيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قالها لجاهدوا في سبيل الله» (1) . لكن عامّة المفسّرين على أن المراد بالجسد المذكور: شيطان، وهو المعتمد، والنقّاش صاحب مناكير] (2) .
والمسألة الثانية: وقع في رواية مسلم أن عدد النساء اللائي حلف سليمان ليطوفنّ بهنّ في ليلة: ستون امرأة، وعند البخاري سبعون، فما وجه الجمع بين الروايات في ذلك؟
[إن محصّل الروايات في ذلك أنهن: ستون، وسبعون، وتسعون، وتسع وتسعون، ومائة، والجمع بينها أن الستين كنّ حرائر، وما زاد عليهن كن سراري أو بالعكس، وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون والمائة فكنّ دون المائة وفوق التسعين، فمن قال: تسعون ألغى الكسر - أي الزائد عن التسعين -، ومن قال: مائة جبر الكسر، ومن ثَمَّ وقع التردد في ذلك. وسليمان عليه السلام كان له ألف امرأة؛ ثلاثمائة منهن صريحة - أي حرائر - وسبعمائة سريّة، أي من الجواري](3) .
4-
…
يقول تعالى: [البَقَرَة: 102]{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} ، فما وجه نفي الكفر عن سليمان عليه السلام، ولم يأت ذكر اتهامه بالكفر فيما سبق؟
[وجه ذلك: أن اليهود الذين اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان عليه السلام، من سحر وكفر، قد نسبوا ذلك إلى سليمان عليه السلام، وزعموا أن
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أخرجه البخاري؛ كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: [ص: 30]{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ *} ، برقم (3424)، ومسلم؛ كتاب: الأيمان، باب: الاستثناء، برقم (1654) .
(2)
انظر: فتح الباري، لابن حجر (6/529 وما بعدها) .
(3)
المرجع السابق (6/531) .
ذلك كان من علمه وروايته، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر الخلق بالسحر، وهم إنما يريدون بذلك أن يحسِّنوا لأنفسهم العمل بالسحر، ذلك أن نبيًا قد علمه وعمل به - بزعمهم -، فلِمَ لا يفعلون هم ذلك؟! وأرادوا أيضًا أن يحسّنوا أنفسهم وفعلتهم الشنيعة عند من كان جاهلاً بأمر الله ونهيه، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة، فبرَّأ الله نبيَّه سليمان عليه السلام مما نسبوه زورًا وبهتانًا إليه، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا - في عملهم بالسحر - ماتلته الشياطين في عهد سليمان، وأن سليمان إنما كان يأمرهم بطاعة الله، واتباع أمر الله الذي أنزله في التوراة على موسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام (1) .
والحاصل: [أن اليهود لما نسبت سليمانَ إلى السحر، صاروا بمنزلة مَن نَسَبه إلى الكفر، لأن السحر يوجب ذلك، فبرَّأ الله نبيَّه من السحر، وأثبته للشياطين، وأَعْلم بأنهم كفروا بتعليمهم الناس السحر](2) .
5-
…
يقول تعالى: [البَقَرَة: 102]{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} ، [ولعل قائلاً أن يقول: أوَ ما كان السحر إلا أيام سليمان؟ فيُقال له: بلى، قد كان السحر قبل ذلك، وقد أخبر الله عن سَحَرة فرعون ما أخبر عنهم، وقد كانوا قبل سليمان، وأخبر سبحانه عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر، وإنما خص الله ذكر تعليم الشياطين السحر للناس في هذا الموضع، لأن الشياطين وأتباعهم اليهود أضافوا ذلك العلم إلى سليمان عليه السلام، فأراد الله تعالى تبرئته مما نَحَلوه وأضافوه إليه، وإن كانت الشياطين تاليةً للسحر والكفرِ قبل ذلك] (3)، أي: قبل عهد سليمان عليه السلام.
[أما السحر الذي تعلّمه الشياطين الناسَ، فهو - بالإجمال - علم بأمرٍ
(1) انظر: تفسير الطبري، (1/493) .
(2)
انظر: تفسير الشوكاني (1/119) .
(3)
انظر: تفسير الطبري (1/497) ، وتفسير ابن كثير ص 123، ط - بيت الأفكار.
مؤثِّرٍ حقيقةً، ضارٍّ غير نافع، تقوم به نفوس قوية مؤثرة باستعانة بمخلوق من شيطان أو كوكب، أو دُخَن وعُقد. وقد يطلق السحر على ما يقع بخداع وتخييلات لا حقيقة لها، نحو ما يفعله المشعوذ من صرف الأبصار عما يتعاطاه بخفة يده] (1) .
6-
…
يقول تعالى: [البَقَرَة: 102]{وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} . وهذا النص من الآية الكريمة قد حوى مسألتين من مهمات المسائل:
الأولى: هَل (ما) نافيةٌ بمعنى: لم؟ أم هي موصولة بمعنى (الذي) ، أم أنها تحتمل المعنيين؟
[اختلف أهل التأويل في هذا المقام - اختلافًا بيّنًا - فذهب الإمام القرطبيٌّ رحمه الله إلى أن «ما» نافية (2) ، وأن {هاروت وماروت} بدل من {الشياطين} ، فيكون المعنِيُّ بِـ {الملكين} ، جبريل وميكائيل عليهما السلام. ذلك أن اليهود قد نسبوا السحر إليهما، فنفى الله ذلك عنهما. وعلى ذلك يكون في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما كفر سليمان، وما أنزل السحر على
(1) ما بين معقوفتين كلام للإمام ابن حجر رحمه الله. الفتح [10/232] . وسيأتي بعون الله تعالى - بيان معنى السحر تفصيلاً وأنواعه، في الفصلين: الثاني والثالث.
(2)
وقال - بعد أن رجّح كون (ما) نافية، {هاروت وماروت} بدل من {الشيطان} - ما لفظه:(هذا أَوْلى ما حُمِلت عليه الآية من التأويل، وأصحُّ ما قيل فيها، ولا يُلتفت إلى سواه) . ثم علل مذهبه بقوله: (فالسحر من استخراج الشياطين، لِلَطافة جوهرهم، ودقة أفهامهم) ، ثم شرع رحمه الله في الرد على ما يَرِد عند استبعاد كون الاثنين [هاروت وماروت] بدلاً من الجمع [الشياطين] بخاصة أنه قد تقرر في اللغة وجوب أن يكون البدل على حد المبدل منه، فذكر ثلاثة وجوه؛ الأول: أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع، والثاني: أن هاروت وماروت لما كانا الرأس في التعليم نُصَّ عليهما دون أتباعهما. والثالث: أنهما إنما خُصّا بالذّكر من بين الشياطين لتمردهما، ثم استشهد لما قال، وذكر أن هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب] . انظر: تفسيره (2/50) . وممن ذهب إلى كون «ما» نافية، الأستاذ سيد قطب رحمه الله، مع إقراره بأن هاروت وماروت مَلَكان كانا يعلّمان من أصرّ على تعلّم السحر، ما يفرق به بين المرء وزوجه! انظر: الظلال (1/95-96) .
الملَكين جبريل وميكائيل، ولكنّ الشياطين - هاروت وماروت - كفروا يعلمون الناس السحر ببابل.
أما الإمام الطبري رحمه الله، فقال: - بعد أن ذكر احتمال كون (ما) نافية أو موصولة، وجواز كونها محتملة للأمرين، واستدل لكل وجه من هذه الأوجه الثلاثة - قال:[والصواب من القول في ذلك عندي، قولُ من وجَّه (ما) التي في قوله تعالى: {وما أنزل على الملكين} إلى أنها موصولة بمعنى «الذي» ، دون معنى (ما) التي هي بمعنى الجَحْد](1) . فيكون المعنى على ذلك: واتبع اليهود ما تقولته الشياطين في عهد سليمان، من سحر زعموا افتراءً أنه سبب مُلكه، وكذلك اتبعوا الذي تعلموه مما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.
وأما الإمام ابن كثير رحمه الله، فبعد أن نسب القولين السابقين كلاً إلى قائله، وساق الأحاديث التي أوردها، كل منهما، وكذلك الآثار في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، لم يصرّح رحمه الله بعد ذلك بترجيح كون (ما) نافية فينتفي بذلك إنزال السحر عليهما، أو موصولة، فيثبت ذلك لهما (2) !! إلا أنه رحمه الله ذكر بعدها ما يُشعر باختياره كون (ما) نافية، حيث قال: [وادّعى - أي الإمام الطبري - أن هاروت وماروت مَلَكان أنزلهما الله إلى الأرض، وأَذِن لهما في تعليم السحر اختبارًا لعباده وامتحانًا، بعد أن بيّن لعباده أن ذلك مما يَنهى عنه على ألسنة الرسل _ت، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعلّم ذلك، لأنهما امتثلا ما أُمِرا به. وهذا الذي سلكه - أي الإمام الطبري - غريب جدًا
…
] (3) ، ثم إن ابن كثير رحمه الله، قد أشار إلى هذا الترجيح بتصريحه أن ما ذكر من تعليم هاروت وماروت الناس ما يفرقون به بين الأزواج، إنما هو من صنيع الشياطين،
(1) وقد علل الإمام رحمه الله مطوَّلاً - لاختياره، انظر: تفسير الطبري (1/499) .
(2)
انظر: تفسير ابن كثير (1/139-148) .
(3)
المرجع السابق (1/142) .
حيث قال رحمه الله: [وقوله تعالى: [البَقَرَة: 102]{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} ، أي: فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر، ما يتصرّفون به فيما يتصرّفون فيه من الأفاعيل المذمومة، ما إنهم ليفرّقون به بين الزوجين، مع ما بينهما من الخُلطة والائتلاف، وهذا من صنيع الشياطين، كما رواه مسلم في «صحيحه» (1) ؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً؛ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ» (2) .
القول المختار في ذلك (3) : لعل ما ذهب إليه الطبري رحمه الله، من كون (ما) موصولة هو الصواب، فيكون التقدير - كما سبق -: وأقبل بعض أحبار يهود على تعلم السحر من الشياطين الذين ادَّعَوا كذبًا أنه كان سبب ملك سليمان،
(1) الحديث أخرجه مسلم؛ كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس، برقم (2813) ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير، (1/148) ، وقد روى حديث مسلم السابق باختلافٍ فيه يسير.
(3)
اختار هذا القولَ الإمامُ الطبري رحمه الله، وقد فصّل في الردِّ على من رجَّح عدم إنزال السحر على الملكين، انظر: تفسيره (1/497) ، كما الشوكانيُّ في تفسيره (1/130) ، وقد التمس عذرًا لجزم الإمام القرطبي بأن (ما) نافية، فقال: ولعل وجه الجزم بهذا التأويل - مع بُعدِه وظهورِ تكلُّفِه - تنزيه الله سبحانه أن ينزل السحر إلى أرضه فتنةً لعباده على ألسن ملائكته. ثم عقب رحمه الله على هذا الوجه من التفسير بقوله: وعندي أنه لا مُوجِب لهذا الوجه من التعسُّف لما هو الظاهر، فإن لله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء، كما امتحن بنَهَرِ طالوتَ، ولهذا يقول الملَكان:[البَقَرَة: 102]{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} . اهـ. وقد اختار هذا الترجيح أيضًا الإمام ابن حجر رحمه الله في الفتح (10/234)، حيث قال:[وقوله: {وما أنزل} ، «ما» موصولة، ومحلها النصب عطفًا على السحر، والتقدير: يعلِّمون الناس السحر، والمُنْزَلَ على الملكين] ، ثم ذكر رحمه الله وجه النفي، وقال بعده:[والجمهور على خلافه وأنها موصولة] .
وما كفر سليمان بعمل السحر ولكن الشياطين هم الذين كفروا بافترائهم ذلك، وتعليمهم السحر للناس، وتعليمهم أيضًا ما أُلهِم الملكين ببابل (1) هاروت وماروت (2) وعُلِّماه - فتنة واختبارًا للناس - من سحر التفريق.
(1) بابِل المذكورة في الآية، هي بابل العراق، - كما اختاره الإمام ابن كثير في تفسيره، لا بابل دُنْبَاوَنْد - كما ذكره الإمام الطبري عن السُّدِّي رحمه الله، في تفسيره [1/504]، وقد حدّد الإمام ابن كثير بدقة متناهية موضع بابل من العراق! فقال رحمه الله:[وقال أصحاب الهيئة: وبُعد ما بين بابل - وهي من إقليم العراق - عن البحر المحيط الغربي، ويقال له: أوقيانوس: سبعون درجة، ويسمّون هذا طولاً، وأما عرضها وهو بُعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية الجنوب، وهو المسامت - أي: المقابل والموازي - لخط الاستواء: اثنان وثلاثون درجة، والله أعلم] . اهـ. انظر: تفسير ابن كثير ص128، ط - بيت الأفكار.
وأصحاب الهيئة، هم: المشتغلون بعلم الهيئة - أي علم الفلك -[وهو (علم يُبْحَث فيه عن أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسُّفلية، من حيث الكمية والكيفية والوضع والحركة اللازمة لها وما يلزم منها] انظر: موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون. للعلاّمة محمد التهانوي [1/61] .
وذكر الحَمَوي في معجم البلدان [1/367] أن بابل - بكسر الباء - اسم ناحيةٍ من الكوفة والحِلَّة، ينسب إليها السحر والخمر. وبابل هي غير (بَابِلْيون) ، التي هي اسمٌ عام لديار مصرَ بلغة القدماء وأهل الكتاب كما ذكره الحَمَويُّ ايضًا [1/370] .
أما سبب تسمية بابل، فذكر القرطبي [2/53] (عن ابن عبد البر أنه قال: أخصر وأحسن ما قيل في ذلك ما رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نوحًا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجُودِيّ ابتنى قرية وسمّاها ثمانين، فاصبح ذات يوم، وقد تَبَلْبَلَتْ ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها اللسان العربي، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض) .
أما دُنْبَاوَنْد فذكر الحموي في معجم البلدان [2/541] أنها لغة في دُبَاوند، وهو جبل - من نواحي الرَّيِّ - عالٍ مشرف شاهق شامخ، لا يفارق أعلاه الثلج شتاءً ولا صيفًا، وزعم العامّة أن سليمان ابن داود عليهما السلام قد حبس فيه ماردًا من مردة الشياطين، يقال له: صخرٌ المارد.
(2)
ذكر القرطبي [2/53] أنهما اسما عَلَم على المَلَكين، وهما أعجميان لا ينصرفان، والجمع: هَوَاريت ومَوَاريت، مثل طواغيت، ويقال: هَوَارتة وهَوَار، ومَوَارتة ومَوَار، ومِثْلُه جالوت وطالوت.
[وقد كان إنزال الملكين هاروت وماروت للتمييز بين السحر وبين المعجزة، التي هي أمر خارق للعادة يظهر على يد النبيِّ، حيث كَثُر السحر في ذلك الزمان، وأظهر السحرة من الأمور الغريبة ما يُوقِع الشكَّ في النبوَّة، فبعث الله هذين الملكين لتعليم أبواب السحر،
…
حتى يزيلا الشُّبَه، ويميطا الأذى عن الطريق. والظاهر: أنهما نزلا بصورة آدميةٍ، ولا بُعْدَ في ذلك، فقد كان جبريل عليه السلام ينزل بصورة دحية الكلبي، وغيره] . انظر: تفسير نور الإيمان للشيخ محمد مصطفى أبي العلا ص 147.
أما ما ورد في شأن قصة هاروت وماروت فقد ذكر ابن كثير في تفسيره [1/146] بعد أن استوعب جميع المرويّ في ذلك أنه [مع كثرة الروايات عن خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، إلا أن حاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيلَ، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمالُ القصةِ، من غير بَسْطٍ ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال] .
لكنْ مع ذلك فإن الإمام ابن حجر رحمه الله ذهب إلى أن لقصة الملكين أصلاً، فقال:[وقصة هاروت وماروت جاءت بسند حسن من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في مسند أحمد، وأطنب الطبري في إيراد طرقها بحيث يُقضى بمجموعها على أن للقصة أصلاً، خلافًا لمن زعم بطلانها كالقاضي عياض ومن تبعه] . انظر: الفتح (10/235) .
ولعل سبيل الجمع بين مذاهب أهل العلم في ذلك: أن ما يرويه المفسرون في قصة هاروت وماروت لا يصح رفعه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك لكونه لم يستجمع شروط الصحيح، المُصطلَح عليها عند أهل الحديث، ولكون تفصيلاتها من جملة أخبار بني إسرائيل، التي لا يعوّل عليها، لذا فقد أنكرها جمعٌ من ثقات الأئمة وعلماء الإسلام، كالقاضي عياض، والفخر الرازي، والشهاب العراقي، والإمام ابن كثير، والعلاّمة الآلوسي والأستاذ سيد قطب رحم الله الجميع، إلا أن كثرة المروي في ذلك، واستفاضة طرقه، يشير بوضوح - حسبما يرى الإمام ابن حجر رحمه الله إلى أن للقصة أصلاً، لكن غاية ما هنالك أنهم لم يجيزوا تصحيح رفعها عند من أنكرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقتصروا على ما في القرآن مجملاً على ما أراده الله تعالى، والله أعلم.
أما وجه هذا الاختيار، فلأمور منها:
أ-
…
أن إدراج التقديم والتأخير في عبارات الآية الكريمة، يتنافى مع مقام القرآن أحسن الحديث، والبالغ شأوًا لا يُقارَب من درجات البلاغة وإعجازًا لا يبارى في منازل الفصاحة.
ب -
…
أن ثمة فرقًا شاسعًا بين نبل غاية الملكين من تعليم السحر، وخبث مرمى الشياطين في ذلك، فالنص الكريم قد صرّح بكون الملكين فتنة
وأن تعليمهم السحر للناس، إنما هو ابتلاء لهم، وتبرئة لسليمان عليه السلام مما افترته الشياطين عليه، وأنهما لا يعلمان أحدًا حتى يبذلا قصارى جهدهما في النصيحة له بنهيه عن ذلك التعلُّم، وإعلامه بمغبة ما يُقدِم عليه، ووقوعه بالكفر باعتقاده حقِّيَّته، وخسرانه المبين في آخرته. بينا كان تعليم الشياطين السحر للناس، افتراء على سليمان عليه السلام، وكفرًا بنبوته وشرعه، ودعوة إلى العمل بالسحر، وإضلالاً لعباد الله تعالى، فشتَّانَ بين مُحَذِّرٍ من ضلالة، وبين داعٍ إليها.
جـ-
…
أن السحرة قد كثروا في ذلك الزمان ببابل، وأن بعضهم قد افتتن الناس به، حتى ادَّعَوا له نبوة، فبعث الله هذين الملكين ليعلما الناس أبواب السحر، حتى يزيلا اللبس الحاصل عند الناس بين معجزات الأنبياء وأباطيل السحرة.
د-
…
أن في جعل (هاروت وماروت) بدلاً من الشياطين، ما لا يخفى من تكلُّفٍ، لا يتناسب مع قواعد العربية التي توجب أن يكون البدل مطابقًا للمبدل منه، فكيف يكون اثنان بدلاً من جمع، وهو نادر في لغة العرب، فضلاً عن أن السياق هنا يأباه.
هـ-
…
أن دأْب الشياطين ودَيْدنهم هو تزيين الباطل، وتسويل الإضلال والدعوة إلى الكفر، كما قال تعالى:[الحَشر: 16]{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ *} . فكيف يسوغ أن يكون هاروت وماروت من الشياطين، مع كونهما - بنص الآية - يحذران المتعلم أشد التحذير من تعلّم السحر، وينهيانه أعظم النهي عن الوقوع بما يتسبب بكفره؟ ثم هما لا يعلّمان إلا من أبى أن ينزجر عما زجراه عنه، فلو كانا شيطانين لرحّبا به أيما ترحيب، فهو قد أقبل عليهما بكلّيته لا يريد إلا غاية ما يسعيان لأجله، وهو إضلال الناس.
أخي القارئ الكريم:
هذا ما وفقني الله تعالى لاختياره من اجتهاد أهل العلم في هذه المسألة، ولا أجزم بترجيح فيه، إلا أنه - كما ذكر آنفًا - هو قول الجمهور منهم، ولغيرهم اجتهاده، ولكلٍّ منهم أدلته وتعليله، والله أعلم بمراده.
المسألة الثانية: قد يلتبس على البعض جواز تعليم الملائكة الناس التفريقَ بين المرء وزوجه، مع ما ثبت من الدلائل على عصمة الملائكة عن المعصية، فكيف يمكن التوفيق بين هذا وذاك؟
[إن السحر مما قد نهى الله عباده من بني آدم عنه، فغيرُ منكَرٍ أن يكون جلّ ثناؤه علّمه الملكين الذين سمّاهما في تنزيله، وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم - كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما: [البَقَرَة: 102]{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} ، ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه، وعن السحر، فيمحِّصَ المؤمنَ بتركه التعلم منهما، ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفرَ منهما، فيكون الملكان في تعليمهما مَنْ علّماه ذلك لله مطيعَيْن، إذ كانا - عن إذن الله لهما - يعلّمان. وقد عُبد من دون الله جماعة من أولياء الله، فلم يكن ذلك لهم ضائرًا، إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به، بل عُبد بعضهم والمعبود عنه ناهٍ. فذلك الملكان غير ضائرهما سحرُ مَن سَحَر، ممن تعلم ذلك منهما، بعد نهيهما إياه عنه، وعِظتهما له بقولهما:{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} إذا كانا قد أدّبا ما أُمِرا به بقيلهما ذلك] (1) كذلك [فإن هذين الملكين قد سبق في علم الله تعالى لهما إنزالها بابل، وإنزال علم التفريق بين المرء وزوجه عليهما، فيكن هذ
…
اتخصيص لهما من جملة الملائكة عليه السلام، فلا تعارض حينئذ، وذلك كما سبق في علمه تعالى من أمر إبليس من استكباره عن السجود لآدم، مع كونه في الملأ الأعلى وقد
(1) انظر: تفسير الطبري (1/501) .
قيل إنه كان من الملائكة، لقوله تعالى:[البَقَرَة: 34]{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلَاّ إِبْلِيسَ أَبَى} ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك، مع أن شأن هاروت وماروت - على ما ذُكِر - أخفُّ مما وقع من إبليس لعنه الله] (1) .
7-
…
يقول تعالى: [البَقَرَة: 102]{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} .
[تأويل ذلك: وما يعلِّم الملكان أحدًا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه، حتى يقولا له: إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم، فلا تكفر بربّك، فيأبَوْن قبول ذلك منهما، فيتعلمون منهما السحر الذي يفرقون به بين الرجل وامرأته](2)[وفي معنى {يعلمان} قولان؛ أحدهما: أنه من باب التعليم، الثاني: أنه من الإعلام لا من التعليم، فـ {يعلمان} بمعنى يُعْلِمان، وقد جاء في كلام العرب تعلّم بمعنى: اعْلَم](3) . فيكون المعنى على القول الثاني: [أن الملكين يعلّمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه](4) ، فيخبرانهم أن تعلمه والعمل به موجب لكفرهم، ولحرمانهم من نصيبهم من التنعُّم في الآخرة.
[وأما الفتنة، فهي المحنة والاختبار، كما قال تعالى إخبارًا عن موسى عليه السلام: [الأعرَاف: 155]{إِنْ هِيَ إِلَاّ فِتْنَتُكَ} ، أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك] (5) .
(1) انظر: تفسير ابن كثير ص 124، ط - بيت الأفكار.
(2)
انظر: تفسير الطبري (1/506-507) .
(3)
انظر: تفسير القرطبي (2/54) .
(4)
المرجع السابق (2/53) .
(5)
انظر: تفسير ابن كثير (1/148) .
8-
…
يقول تعالى: [البَقَرَة: 102]{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} ، وهنا مسألتان أيضًا:
الأولى: هل ما أُنزل على الملكين من تفريق بين المرء وزوجه، هو عينُه السحر الذي تُعلِّمه الشياطين، أم هو معنىً غير السحر؟ وهل يقدر الساحر على أكثر من التفريق؟
قال قتادة رحمه الله: (السحر سِحران: سحر تعلّمه الشياطين، وسحر يعلّمه هاروت وماروت)(1)، وعلى ذلك يكون السحر الذي أنزل على الملكين هو سحر خاص بالتفريق بين المرء وزوجه. [ويكون عطف:{وما أنزل} على لفظ {السحر} ، لتنزيل تغاير المفهوم منزلة تغاير الذات] (2) ، فما أنزل على الملكين هو مغاير في ذاته لما تعلمه الشياطين الناس من ضروب السحر، ثم تفتري على ملك سليمان بأنه كان يسخّر من يسخّر بالسحر.
والثانية: كيف يمكن للساحر التفريق بين المرء وزوجه، مع عِظم ما بينهما من الخِلْطة والائتلاف؟!
[إن سبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيَّل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظرٍ أو خُلُقٍ أو نحو ذلك، أو عَقْدٍ أو بَغْضَةٍ، أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفُرقة](3) . ذلك أن [السحر تخييل الشيء إلى المرء بخلاف ما هو به في عَيْنه وحقيقته، فتفريق الساحر بين المرء وزوجه يكون بإحداثه السبب الذي كان منه فُرْقَةُ ما بينهما](4) . حيث لا يرى كل منهما إلا مساوئ صاحبه، ولو كانت غير ذات بالٍ، فإن الساحر يعمل بسحره على
(1) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (1/498) ، بإسناد صحيح.
(2)
انظر: نور الإيمان في تفسير القرآن للشيخ محمد أبي العلا ص 147.
(3)
انظر: تفسير ابن كثير 128، ط - بيت الأفكار.
(4)
انظر: تفسير الطبري (1/508) .
تبغيض كلٍّ منهما بالآخر، ليرى كلاهما تلك المساوئ البسيطة الهيِّنة عظيمةً مَهُولة، حتى يكاد كل منهما لا يطيق احتمالاً لذلك ولو لمرة واحدة، فما الحال إذًا عند تكرار ذلك؟ عندها تستحيل بنظر كل منهما الحياة الزوجية، فيتمّ فِراق ما بينهما، والعياذ بالله تعالى.
9-
…
يقول تعالى: [البَقَرَة: 102]{وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ} ، فمَنْ هؤلاء؟ وكيف يكون ضرر السحر؟ وهل (مِنْ) في الآية زائدة؟ وما معنى (بإذن الله) ؟ في قوله سبحانه:[البَقَرَة: 102]{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} ، ثم نفي ذلك بقوله تعالى:[البَقَرَة: 102]{وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ} ؟
هذه ستُّ مسائلَ يَجْمُل بيانُها ليتبين المقصود من الآية الكريمة.
أ-
…
أما الضمير في قوله تعالى: {وما هم} ، فهو يشير إلى: السحرة؛ سواء منهم من تعلم سحر الشياطين، أم سحر التفريق من الملكين، ويستوي في ذلك السحرة من اليهود أو من غيرهم.
[ففي قوله تعالى: {وما هم} إشارة إلى السحرة، وقيل إلى اليهود، وقيل إلى الشياطين](1) .
والمعنى: (وما المتعلمون من الملكين هاروت وماروت المعنى الذي يفرّقون به بين المرء وزوجه، بضارين من أحد من الناس إلا
(1) انظر: تفسير القرطبي (2/55) .
من قضى الله عليه - بإرادته الكونية القدرية - أن ذلك يضرّه، فأما من دفع الله عنه ضُرّه، وحفظه من مكروه السحر والنفث والرقى - أي رقى الجاهلية - فإن ذلك غير ضارِّه، ولا نائله أذاه] (1) .
ب -
…
أما ضرر السحر، [ففي إسناد - الآية - التفريق إلى السحرة وجعلها السحر سببًا لذلك، دليل على أن للسحر تأثيرًا في القلوب بالحب والبغض والجمع والفرقة والقرب والبعد](2) ، أما كيفية تأثير السحر بالتفريق، فقد سبق أن الساحر يُحدِث تخييلاً للمساوئ لكلٍّ من الزوجين، بخلاف ما هو به على الحقيقة. لكنْ بعد ثبوت ذلك من ضرر السحر، هل يستطيع الساحر تجاوز هذا الحد من الضرر، أم أن ذلك هو غاية ما يمكنه فعله؟
[ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر ليس يقدر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفرقة، لأن الله تعالى ذكر ذلك في معرض الذمّ للسحر وبيّن ما هو الغاية في تعليمه؛ فلو كان الساحر يقدِر على أكثر من ذلك لَذَكَره، وقالت طائفة: إن ذلك خرج مخرج الأغلب، - أي أن أغلب عمل السحرة متعلق بالتفريق - لكن الساحر يقدر على غير المنصوص عليه](3) . [فلا يُنكَر أن يظهر على يد الساحر خَرْق العادات مما ليس في مقدور البشر؛ من مرض وتفريق وزوال عقل وتعويج عضوٍ، ولا يبعد في السحر أن يستدقَّ جسم الساحر حتى يتولّج في الكُوَّات والخوخات والانتصاب على رأس قصبةٍ، والجري على خيط مستدِقٍ،
(1) انظر: تفسير الطبري (1/509) .
(2)
انظر: تفسير الشوكاني (1/170) .
(3)
انظر: تفسير القرطبي (2/54) .
والطيران في الهواء، والمشي على الماء، وركوب كلبٍ، وغير ذلك] (1) . لكنْ [قد أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقُمَّل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام. فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر](2) .
جـ-
…
أما كون «من» زائدة في قوله تعالى: {من أحد} - في الموضعين -، كما ذكر عامّة المفسرين.
فليس مقصودهم بذلك - كما قد يفهم البعض أن أهل التفسير يدّعون أن ثمة ألفاظًا مزيدة لا عمل لها!! لكنّ مقصودهم أنها قد زِيدت إلى السياق لإفادة معنى لا بدّ منه، كالتوكيد مثلاً (3)، فيكون المعنى هنا: أنه ليس من أحد على الإطلاق يعلمه الملكان إلا بعد إنذاره وتبيين عاقبة أمر متعلم السحر والعامل به. كذلك فإن السحر، بعد أن يتعلمه السحرة ويعملوا به، ليس يضر مسحورًا على الإطلاق إلا من قضى الله عليه - بإرادته الكونية القدرية - أن ذلك يضره.
د-
…
قد تقرر أن السحر لا يضر مسحورًا إلا بإذن الله، فهل الإذن هنا بمعنى السماح لهم بفعل ذلك الضر؟!
نقول: حاشَ لله تعالى أن يسمح بما فيه ضر لعباده، دون
(1) المرجع السابق (2/46) .
(2)
انظر: تفسير القرطبي (2/47) .
(3)
انظر: تفسير الشوكاني (1/120) . والقرطبي (2/55) . والطبري (1/509) .
استحقاق منهم لذلك. فإن الله جل ثناؤه قد حرّم التفريق بين المرء وحليلته بغير سحر، فكيف بذلك على وجه السحر؟ ثم إن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء ويقضي على الخلق بها. فإن تقرر ما سبق، فما معنى إذن الله بضر المسحور؟
قد ذكر أهل التأويل في ذلك وجوهًا محصّلها (1) أن الإذن، قد يكون بمعنى: إرادة الله تعالى الكونية والقدرية، وقضاؤه بذلك. وهذا يكون بتخلية الله تعالى بين المأذون له (الساحر) والمخلّى (المسحور) بما سبق في علم الله سبحانه ومشيئته وخلقه.
فيكون المعنى - على ذلك -: أن السحرة لا يضرون بسحرهم إلا من سبق في قضاء الله أن السحر يضره، ومَنْ سبق بعلمه تعالى وقوع ذلك له، فيخلّي سبحانه - عند وقوع السحر - بين ضرر سحر الساحر، وبين المسحور فيخلق سبحانه أثر السحر فيتأثر المسحور عندها فيضره السحر، وذلك بما سبق بمشيئة الله تعالى. وبذلك تحق الفتنة على المفتونين من السحرة إن هم أصروا على تعلم السحر والعمل به، ويختبر الله من سبق كذلك علمه سبحانه أن السحر يضره، فيبتليه بالصبر على ما أصابه ولم يكن ليخطئه، كذلك يبتلي الله الناس عامة - بوصول ضرر السحر إلى المسحور -: هل ترتاب قلوبهم في صدق الأنبياء ومعجزاتهم، فيعتقد بعضهم أنهم سحرة - والعياذ بالله - فيكفر بذلك الاعتقاد، ثم يزداد كفرًا بتعلّمه السحر والعمل به؟ أم يثبت الناس على جادة الحق فيميز أحدهم بين النبيِّ والساحر، والمعجزة والسحر، فيكون
(1) انظر: تفسير فتح القدير للإمام الشوكاني (1/121) ، وتفسير الطبري (1/489) .
ذلك من مزيد إيمانه وعظيم يقينه، فيعظُم أجره ومثوبته بذلك؟ لذا فقد كان تعليم الملكين للسحر تعليمَ تحذيرٍ بوجوب اجتنابه، ونذارةٍ منه، ونهي شديد عنه، لا تعليم دعاء إليه، أو حثٍّ على طلب تحصيله، فهما في الحقيقة ممتثلان طاعة الله في التحذير من الفتنة، وإزالة الشُّبَه في ثبوت المعجزة، وإماطة الأذى عن طريق النبوَّات، وهذا - كما لا يخفى - بخلاف تعليم الشياطين للسحر، حيث لم يكتفوا بافترائهم الكذب على سليمان، بل دَعَوا إلى تعلم السحر، والعمل به، والدعوة إليه، واستبداله بشريعة الله، ومعجزات أنبيائه عليهم السلام، فهرع إليهم أولياؤهم من يهود ومن ترسّم خطاهم، فنبذوا تعاليم التوراة وكفروا بالنبيِّين عليهم السلام وبمعجزاتهم، ثم عمدوا إلى تعلم السحر والعمل به، وآمنوا بالسحرة وأباطيلهم، وعظموا أمرهم!!
هـ-
…
هؤلاء اليهود - الذين نبذوا عهود التوراة ونسَوْا ميثاق الله الذي واثقهم به، بأخذ تعاليم كتابه بقوة، واتبعوا السحر فصدقوا به وتعلموه وعملوا به - هل كانوا جميعًا بهذا الوصف؟ أم هم الأكثرون منهم؟
إن المتأمل في نص الآية الكريمة يجدها تشير - مع سباقها - إلى أنّ [جُلّ اليهود أربع فِرَقٍ:
-
…
فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها، كمؤمني أهل الكتاب، وهم الأقلون المدلول عليهم بمفهوم قوله تعالى:[البَقَرَة: 100]{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
-
…
وفرقة جاهروا بنبذ عهود التوراة، وتخطي حدودها، تمردًا وفسوقًا، وهم المعنيون بقوله تعالى:[البَقَرَة: 100]{نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} .
-
…
وفرقة لم يجاهروا بنبذ تلك العهود، ولكن نبذوا لجهلهم، وهم الأكثرون المدلول عليهم بمنطوق قوله تعالى:[البَقَرَة: 100]{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
-
…
وفرقة، وهم العاملون بالسحر، تمسكوا بتلك العهود ظاهرًا ونبذوها خفية، عالمين بالحال، بغيًا وعنادًا، وهم المتجاهلون - مع كونهم يعلمون - وقد دل عليهم قوله تعالى:[البَقَرَة: 101]{كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ، وهذا الفريق هو الأعظم خطرًا، والأشد كفرًا] (1) ، ذلك أن [هؤلاء من علماء اليهود الذين نقضوا عهد الله بتركهم العمل بما واثقوا الله على أنفسهم العمل بما فيه، كأنهم لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وتصديقه، فخالفوا أمر الله على علمٍ منهم بوجوبه عليهم](2) .
و
…
أخيرًا، قد يتبادر إلى الفهم، وقوع تعارض بين ظاهر ما يدل عليه قوله تعالى:[البَقَرَة: 102]{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} ، وما يدل عليه قوله سبحانه:[البَقَرَة: 102]{وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَاّ بِإِذْنِ اللَّهِ} ، فالأول يثبت للسحرة التأثير بالتفريق، والثاني ينفي قدرتهم على الضرّ إلا بإذن الله، [والحق أنه لا تنافي بينهما، فإن المستفاد من جميع ذلك: أن للسحر تاثيرًا في نفسه، ولكنه - مع ذلك - لا يؤثر ضررًا إلا فيمن أَذِنَ الله بتأثيره فيه](3) .
(1) انظر: نور الإيمان في تفسير القرآن للشيخ محمد مصطفى أبي العلا ص 145.
(2)
انظر: تفسير القرطبي (2/55) ، وتفسير الشوكاني (1/121) وتفسير الظلال (1/96) .
(3)
وهو ما رجّحه إمام المفسرين الطبري بقوله: كأنه قال جلّ ثناؤه: وما هم بضارّين بالذي تعلّموا من الملكين، من أحد إلا بعلم الله. يعني: بالذي سبق له في علم الله يضرّه. اهـ. انظر: تفسيره (1/509) .
10-
…
يقول تعالى: [البَقَرَة: 102]{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} . فهل يخلو تعلُّمُ السحرِ من أي نفع؟ وما هو أعظم ضررِ السحر؟
[الآية الكريمة فيها تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة، ولا يجلب إليه منفعة، بل هو ضرر محض وخسران بحت](1) إذًا، فلِمَ يتعلم الناس السحر؟! الواقع أن المنفعة المنفية هنا هي المنفعة في الآخرة، وقد بيّن المولى عز وجل ضر السحر على صاحبه في الآخرة، فقال سبحانه:[البَقَرَة: 102]{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اُشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} ، فأي ضرر أعظم من تيئيس الساحر من رحمة ربه، وحسن ثوابه؟! [فالسحر يضر متعلمه في دينه، ولا ينفعه في معاده، فاما في العاجل في الدنيا، فإن السحرة قد كانوا يكسبون به ويصيبون به معاشًا](2) ، لكن هذه المنفعة العاجلة في الدنيا - غير المباركة - لا يمكن مقارنتها بنفع الآخرة، كما أن الضر المترتب على تعلم السحر في الآخرة لا يوازيه بحالٍ عَرَضٌ من حطام الدنيا قليل، [ويكفي أن يكون هذا الشر المترتب على السحر هو الكفر، ليكون ضرًا خالصًا لا نفع فيه](3)، حتى لو توهّم السحرة أن فيه نوعَ منفعةٍ لهم. والحاصل: أن السحر يضر السحرة في دينهم، وليس له نفع لهم يوازي ضرره، [بل إن ضره يشمل دنياهم، فالساحر إذا عثر عليه فإنه يؤدب ويُزجر ويلحقه شؤم السحر](4) .
11-
…
يقول تعالى: [البَقَرَة: 102]{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اُشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . وهنا
(1) انظر: تفسير الشوكاني (1/121) .
(2)
انظر: تفسير الطبري (1/510) .
(3)
انظر: تفسير الظلال لسيد قطب (1/96) .
(4)
انظر: تفسير القرطبي (2/55) .
خمس مسائل مهمة، تُوصِلُنا - إن شاء الله - إلى نهاية مطافنا مع أقوال أهل العلم، في فقه هذه الآية العظيمة، وهذه المسائل هي:
هل تضمّن قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اُشْتَرَاهُ} معنى القَسَم؟ وما الذي يُستفاد من ذلك؟ وما المراد بالشراء هنا؟ وما معنى الخَلَاق؟ وما الذي ذمّه الله من فعل أحبار اليهود في الآية؟
أ -
…
[إن تحقيق «مَنْ» بـ «لام اليمين» في قوله تعالى: {لمن} ، دال على أن قوله تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمُوا} ، بمعنى القسم، فيكون معنى الكلام: واللهِ لَمَنِ اشترى السحرَ ما له في الآخرة من خلاق، فقد عبر عن الفعل بقوله تعالى:{اشتره} ، ولم يقل: يشتروه، وذلك لدخول «لام القسم» ، على «مَنْ» ، وذلك كما يقال: أُقسِم لَمَنْ قام خير ممن قعد، وكما يقال: قد علمْتَ لَعمرٌو خيرٌ من أبيك.
ب-
…
ويستفاد من تضمن الآية معنى اليمين: مزيد توكيد علم أحبار اليهود بما تضمنته التوراة من عهد الله إليهم: أن الساحر - وقد اشترى السحر وترك دين الله - لا خلاق له عند الله يوم القيامة، والنار مثواه ومأواه] (1) .
جـ-
…
أما [المراد بالشراء هنا فهو: الاستبدال، فيكون المعنى: من استبدل ما تتلو الشياطين - أي فضّل ذلك واختاره وآثره - على كتاب الله تعالى](2) .
د -
…
[وأما الخلاق، فقد ذكروا معاني له؛ منها: النصيب، والحُجَّة، والدِّين، والقِوام (3)، وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى
(1) انظر: تفسير الطبري (1/510) .
(2)
انظر: تفسير الطبري (1/511) .
(3)
قِوام الأمر، بالكسر: نظامُه وعِماده، يقال: فلان قِوام أهل بيته، وقِوام الأمر أيضًا مِلاكه الذي يقوم به. انظر: مختار الصحاح مادة (ق وم) .
«الخَلَاق» في هذا الموضع: النصيب. لأن ذلك هو معناه في كلام العرب، فيكون المعنى: ما له في الدار الآخرة حظٌ من الجنة، من أجل أنه لم يكن له إيمان ولا دين ولا عملٌ صالح يجازَى به، فلا نصيب لهم في الآخرة من الخيرات، أما من الشرور فإن لهم فيها نصيبًا] (1) .
-
…
أما المذموم بقوله تعالى: [البَقَرَة: 102] {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ
…
} ، فهو:[فعلُ المتعلِّمين من المَلَكين التفريق بين المرء وزوجه، وهذا خبر منه جل ثناؤه عن هؤلاء: أنهم بئس ما شروا - أي باعوا - به أنفسهم، برضاهم بالسحر عوضًا عن دينهم الذي به نجاةُ أنفسهم من الهَلَكة، جهلاً منهم بسوء عاقبة فعلهم، وخسارةِ صَفْقة بيعِهم](2) . كذلك، فإن الله تعالى قد ذم أحبار اليهود في ختام الآية بقوله:[البَقَرَة: 103]{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ، بأنهم إما أن يكونوا لا علم لهم بمغبّة ما يقدمون عليه من تعلم السحر وسوء عاقبة ذلك، أو أنهم علموا ثم تركوا العمل بعلمهم، والواقع - كما أخبرت الآية:[البَقَرَة: 102]{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اُشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} - أنهم يعلمون، [لكنهم آثروا اتباع الشياطين والعمل بما أحدثته من السحر على العمل بكتاب الله ووحيه وتنزيله، عنادًا منهم، وبغيًا على رسله، وتعديًا منهم لحدوده، على معرفةٍ منهم بما عند الله من العقاب والعذاب لمن فعل ذلك](3) .
[ولبئس البديل ما استبدلوا به من السحر عوضًا عن الإيمان ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان لهم علم بما وُعِظوا به](4) ، [فهم قد باعوا أنفسهم
(1) انظر: تفسير الطبري (1/511) .
(2)
المرجع السابق (1/512) .
(3)
انظر: الطبري أيضًا (1/512) .
(4)
انظر: تفسير ابن كثير ص 129، ط- بيت الأفكار.
بما لا يزيدهم إلا تبارًا وهلاكًا، حيث أوجب لهم هذا البيعُ النار، وهي عذاب أليم؛ فلو أنهم كانوا يعلمون حقيقة ما يصيرون إليه - من العذاب الأليم - ما تعلّموا السحر، ولا عملوا به، ولا كفروا] (1) .
هذا - بحمد الله - ما يسّر الله تعالى من ذكرٍ لأقوال بعض أهل العلم في تدبّر معاني هذه الآية الكريمة. ولو شاء المرء استنباط جُلّ معانيها لما وسعه مصنَّف بتمامه، فسبحان من أنزل الكتاب، وأمر عباده بتدبّر آياته:[ص: 29]{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ *} .
(1) انظر: نور الإيمان في تفسير القرآن، للشيخ محمد مصطفى أبي العِلا ص:150.