الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول
حكمة القول مع اليهود
من حكمة القول مع اليهود في دعوتهم إلى الله- عز وجل أن يسلك معهم الداعية المسلم المسالك التالية:
المسلك الأول: الأدلة العقلية والنقلية على نسخ الإسلام لجميع الشرائع
.
المسلك الثاني: الأدلة القطعية على وقوع التحريف والتبديل في التوراة.
المسلك الثالث: إثبات اعتراف المنصفين من علماء اليهود.
المسلك الرابع: الأدلة على إثبات رسالة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
المسلك الأول: الأدلة العقلية والنقلية على نسخ (1) الإسلام لجميع الشرائع: دعوة الرسل- عليهم الصلاة والسلام - إلى توحيد الله تعالى دعوة واحدة، فقد اتفقوا جميعا على دعوة الناس إلى إفراد الله بالعبادة، لا إله إلا هو، ولا رب سواه، قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36](2){وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25](3).
فأصل دين الأنبياء صلى الله عليهم وسلم واحد، وهو التوحيد، وإن
(1) النسخ في اللغة: الإزالة، وفي الاصطلاح: رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه. انظر: تفسير ابن كثير 1/ 150، ومناهل العرفان 2/ 71.
(2)
سورة النحل، الآية 36.
(3)
سورة الأنبياء، الآية 25.
اختلفت فروع الشرائع (1)؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات (2) أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، [وليس بيني وبين عيسى نبي]» (3).
ثم ختم الله -تعالى- الشرائع كلها بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فأرسله الله إلى جمح الثقلين: من إنس وجن، ونسخت شريعته جميع الشرائع السابقة، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] (4).
وقال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي أو نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (5).
والله -تعالى- حكيم عليم {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23](6) ولا غرابة في أن يرفع شرع بآخر مراعاة لمصلحة العباد عن علم سابق من علام الغيوب تبارك وتعالى، ولكن اليهود والنصارى (7) أنكروا نسخ الشريعة
(1) انظر: فتح الباري 6/ 489.
(2)
أولاد العلات: الإخوة من أب وأمهاتهم شتى. (الضرائر). فتح الباري 6/ 489.
(3)
البخاري مع الفتح، كتاب الأنبياء، باب قول الله -تعالى-:" واذكر في الكتاب مريم. . . "، 6/ 477، ومسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل عيسى صلى الله عليه وسلم، 4/ 1837، وما بين المعقوفين من البخاري 6/ 478، ومسلم 4/ 1837.
(4)
سورة آل عمران، الآية 85.
(5)
مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته 1/ 134.
(6)
سورة الأنبياء، الآية 23.
(7)
لتداخل أقوال النصارى مع اليهود في النسخ، فسأذكر الرد عيهم جميعا في هذا المسلك إن شاء الله تعالى.
الإسلامية لجميع الشرائع السابقة (1) فيكون الرد عليهم بالقول الحكيم كالآتي:
أولا: الأدلة العقلية: 1 - ليس هنالك محظور في النسخ عقلا، وكل ما لم يترتب عليه محظور كان جائرا عقلا، فالنسخ جائز عقلا.
2 -
الله -تعالى- يأمر بالشيء على قدر ما تقتضيه المصلحة، فقد يأمر بالشيء في وقت، وينهى عنه في وقت آخر؛ لأنه -سبحانه- أعلم بمصالح عباده، والطبيب الحكيم يأمر المريض بشرب الدواء، أو استعمال دواء خاص في بعض الأزمنة وينهاه عنه في زمن آخر؛ بسبب اختلاف مصلحته عند اختلاف مزاجه، والملك الذي يشفق على رعيته ينقلهم في بعض الأزمنة إلى نوع من السياسة غير النوع الأول، لما في ذلك من المصالح، وقد يسوس الوالد الحكيم ولده في وقت باللطف، وفي وقت آخر بالتأديب، على قدر ما يرى في ذلك من المصلحة (2) والله عز وجل {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] (3) وهو سبحانه لا يفعل شيئا إلا لحكمة بالغة، فهو يحيي ثم يميت ثم يحيي، وينقل الدولة
(1) ثم افترق اليهود والنصارى إلى ثلاث طوائف:
(أ) طائفة الشمعونية من اليهود، قالوا: النسخ ممتنع عقلا وسمعا، وعلى هذا القول إجماع النصارى المتأخرين.
(ب) وطائفة العنانية من اليهود، قالوا: النسخ جائز عقلا، لكنه لم يقع سمعا، فهو ممتنع.
(جـ) طائفة العيسوية من اليهود، قالوا: النسخ جائز عقلا وواقع سمعا، إلا أن الشريعة الإسلامية لم تنسخ ما قبلها من الشرائع، وإنما هي للعرب خاصة، وعلى هذا القول إجماع النصارى المتقدمين. انظر: مناهل العرفان للزرقاني 1/ 82، 83.
(2)
انظر: الداعي إلى الإسلام، لكمال الدين عبد الرحمن بن محمد الأنباري النحوي المتوفى سنة 577هـ، ص319، ومناهل العرفان للزرقاني 2/ 83.
(3)
سورة الروم، الآية 27.
من قوم أعزة إلى أذلة، ومن قوم أذلة إلى أعزة، ويعطي من شاء ما شاء، ويمنع من شاء (1) {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] (2).
3 -
يلزم من يقول بوقوع النسخ سمعا وجوازه عقلا أنهم ماداموا يجوزون أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته، وقد وقع ذلك سمعا، فليجوزوا نسخ الشريعة الإسلامية للأديان السابقة (3).
ثانيا: الأدلة النقلية السمعية، وهي نوعان: النوع الأول: ما تقوم به الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى الذين لم يعترفوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
النوع الثاني: ما تقوم به الحجة على من آمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنهم قالوا: إنها خاصة بالعرب (4).
النوع الأول: تقوم الحجة على من أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مطلقا بالأدلة الواردة في التوراة والإنجيل، والداعية المسلم إذ يورد الأدلة من كتبهم لا يعتقد أن هذه النصوص كما أنزلت، بل يحتمل أن تكون مما وقع عليه التحريف والتغيير، فإن اليهود والنصارى قد غيروا وبدلوا كثيرا من كتبهم، ولكن المسلم يقيم عليهم الحجة بما بين أيديهم من التوراة والإنجيل (5) لا
(1) انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 1/ 180.
(2)
سورة الأنبياء، الآية 23.
(3)
انظر: مناهل العرفان 2/ 86.
(4)
انظر: درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية 7/ 27.
(5)
تنقسم أخبار كتب اليهود والنصارى إلى ثلاثة أقسام:
(أ) ما علم صحته بنقله عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا صحيحا، أو كان له شاهد صحيح من الشرع يؤيده، فهذا القسم صحيح مقبول.
(ب) ما علم كذبه لكونه يناقض ما عرف من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، أو لا يتفق مع العقل الصحيح، وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته.
(جـ) ما هو مسكوت عنه، وليس من النوع الأول ولا الثاني، وهذا القسم يتوقف عنه المسلم فلا = = يصدقه ولا يكذبه، ويجوز حكايته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل. . "، البخاري مع الفتح 8/ 170، 13/ 116، وقوله صلى الله عليه وسلم:" حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج. . " في البخاري مع الفتح 6/ 496، وانظر: التفسير والمفسرون للذهبي 1/ 179.
لثبوتها، ولكن لإلزامهم بالتسليم، أو يعترفوا بالتحريف ومن ذلك ما يلي:
1 -
جاء في التوراة أن الله - تعالى- أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه، وورد أنه كان يولد له في كل بطن من البطون ذكر وأنثى، فكان يزوج توءمة هذا للآخر، ويزوج توءمة الآخر لهذا، إقامة لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب، ثم حرم الله ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى (1).
2 -
جاء في السفر الأول من التوراة أن الله -تعالى- قال لنوح عند خروجه من السفينة: " إني جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب، ما خلا الدم فلا تأكلوه "، ثم اعترفوا بعد ذلك بأن الله حرم كثيرا على أصحاب الشرائع، ومن ذلك الخنزير في شريعة موسى، وهذا عين النسخ (2).
3 -
أمر الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذبح ولده، ثم نسخ هذا الحكم قبل العمل به، وقد أقر منكرو النسخ بذلك (3).
4 -
الجمع بين الأختين كان مباحا في شريعة يعقوب صلى الله عليه وسلم، ثم حرم في شريعة موسى صلى الله عليه وسلم (4).
(1) انظر: تفسير ابن كثير 1/ 152، 383، ومناهل العرفان للزرقاني 2/ 87، وإظهار الحق، لرحمة الله الهندي 1/ 513.
(2)
انظر. تفسير ابن كثير 1/ 152، 383، ومناهل العرفان 2/ 87، وإظهار الحق 1/ 515.
(3)
انظر: تفسير ابن كثير 1/ 152، ومناهل العرفان 2/ 87، وإظهار الحق 1/ 315.
(4)
انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 1/ 181، والداعي إلى الإسلام للأنباري ص 324، وابن كثير 1/ 152، 383، ومناهل العرفان 2/ 88، وإظهار الحق 1/ 515.
5 -
أمر الله -تعالى- من عبد العجل من بني إسرائيل أن يقتتلوا، ثم أمرهم برفع السيف عنهم (1).
وغير ذلك كثير.
النوع الثاني: تقوم الحجة به على من آمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم واعترف بها؛ ولكنه جعلها خاصة بالحرب دون غيرهم، فهؤلاء متى سلموا واعترفوا برسالته صلى الله عليه وسلم وأنه صادق فيما بلغه عن الله- عز وجل من الكتاب والسنة وجب عليهم الإيمان والتصديق بكل ما ثبت عنه، وما جاء به من عموم الرسالة، والنسخ الثابت بالكتاب والسنة (2) ومن هذا النوع ما يأتي:
1 -
قال تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 106 - 107](3).
2 -
(1) ابن كثير 1/ 152، ومناهل العرفان 2/ 87، وانظر ذلك من القرآن في سورة البقرة، الآية 54.
(2)
انظر: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية 1/ 37، 1/ 31 - 176، ودرء تعارض العقل والنقل 7/ 27.
(3)
سورة البقرة، الآيتان 106، 107.
(4)
سورة آل عمران، الآيات 93 - 95.
3 -
وقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا - وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 - 161](1).
4 -
وقال سبحانه: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146](2).
5 -
وقال عز وجل: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101](3).
6 -
وقال جل وعلا: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ - يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 38 - 39](4).
7 -
إجماع سلف الأمة على أن النسخ وقع في الشريعة الإسلامية، كما أن النسخ وقع بها لجميع الشرائع السابقة (5).
وبهذه الأدلة العقلية والنقلية السمعية التي دلت على جواز النسخ عقلا
(1) سورة النساء، الآيتان 160، 161.
(2)
سورة الأنعام، الآية 146.
(3)
سورة النحل، الآية 101.
(4)
سورة الرعد، الآيتان 38، 39.
(5)
تفسير البغوي 3/ 22، 84، 1/ 326، وابن كثير 1/ 151، 382، 585، 2/ 186، 520، 587، والشوكاني 1/ 361، وإغاثة اللهفان لابن القيم 2/ 321 - 328، والسعدي 1/ 401، 4/ 116، 241، ومناهل العرفان 2/ 89.