الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: نظرة الإسلام إلى الكون:
تمتاظ نظرة الإسلام إلى الكون بأنها ليست نظرة عقلية محضة، ولكنها تعمل على تحريك عواطف الإنسان، وشعوره بعظمة الخالق، ويصغر الإنسان أمامه، وبضرورة الخضوع له، كل ذلك إلى جانب البراهين العقلية القاطعة على وحدانية الله، وألوهيته في هذا الكون وسائر الأكوان التي لا نراها.
1-
فالكون كله مخلوق لله خلقه لهدف وغاية، وما كان اللعب والعبث باعثا على الخلق.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 44/ 38-39] .
وقال سبحانه: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} [الأحقاف: 46/ 3] .
وأما تحريك عواطف الإنسان فبالاستفهام، والحض على العبادة، وتوحيد الله بعد تأمل مخلوقاته، قال سبحانه:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 39/ 62-64]{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 39/ 62-67] .
الآثار التربوية:
ولهذه النظرة الإسلامية إلى الكون آثار تربوية منها:
- ارتباط المسلم بخالق الكون، وبالهدف الأسمى من الحياة، وهو عبادة الله.
- تربية الإنسان على الجدية، فالكون كله أقيم على أساس الحق، ووجد لهدف معين وإلى أجل مسمى عند الله، وليس العبث واللهو من شأنه تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 21/ 16-17] .
وهذا يعلم الإنسان أن يبحث عن غاية كل ظاهرة من ظواهر الكون، وأن يبعد تفكيره عن اللهو والعبث والضياع، وأن يكون تأمله لهذا الكون تأملا منطقيا علميا، ولتحقيق هذا واستكماله، لفت القرآن نظر المتأمل إلى أمرين آخرين غير الجدية، والغاية، سنراهما في الفقرتين التاليتين:
2-
خضوع الكون لسنن سنها الله وفق أقدار قدرها الله:
فدورة الشمس والقمر في فلك لا يحيدان عنه، وفي مواسم لا تتخلف، كل ذلك يجري حسب سنن كونية سنها الله، ومقادير قدرها الله.
وكذلك جميع الأحياء التي على الأرض جعل الله لها معايش، مقدرة مقننة ما ينزلها إلا بقدر معلوم.
وقد علم الله الإنسان الحساب بتكرار الليل والنهار، وتقدير الفصول الأربعة، والأشهر القمرية، قال تعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 17/ 12] .
وقال عز وجل: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} [الأنعام: 6/ 96] .
والحق أن علم الحساب كله قائم على تكرار الوحدات المتساوية، وعدها وإضافتها بعضها إلى بعض، إما على مجموعات مختلفة العدد "الجمع"، وإما على تكرار مجموعات متساوية العدد "الضرب"، وكذلك "قسمة" الأعداد المؤلفة من وحدات
متجانسة متساوية، أو إنقاصها أي "طرح وحدات" منها، ثم تفنن الإنسان في الكسور، والجبر، والتفاضل والتكامل.
وكل ذلك يرجع في أصله إلى ما تعلمه الإنسان الأول من عد الأيام، والأشهر وعد السنين، وحسابها، وما يزال الإنسان يضبط أوقاته على هذا "الميقات الرباني" الذي هو دورة الأرض، والقمر، والفصول الأربعة.
الأثر التربوي:
ومما تقدم نجد أن القرآن ربى عقل المسلم على مبدأين آخرين علميين، غير مبدأي السلبية، والغائية والتفكير الجدي المنطقي، هما:
1-
تكرار حوادث الكون حسب سنن سنها الله له، وهو جل جلاله وحده يملك أن يغيرها إذا شاء، وهذا هو المبدأ الذي بنيت عليه اليوم جميع القوانين العلمية، وهو أساس التفكير العلمي، الذي به اكتشف الإنسان، واخترع كل مظاهر الحضارة.
2-
أن سنن هذا الكون وجميع حوادثه، وظواهره وكائناته:
من أصغر ذرة إلى أكبر جرم قد خلقها الله وسيرها، أو أنزلها بقدر معلوم، لا يزيد ولا ينقص، ولا يتعدى شئء فيه فيختل توازنه، أو يخل بنظام غيره، مما جاوره أو قابله، أو تأثر به أو أثر فيه، ومن هذه المبادئ التي استوحاها علماء المسلمين من القرآن، وارتقوا بها في العلوم الطبيعية، استقت أوروبا مبادئ التفكير العلمي، ووحدة قوانين العلم الحديث، ومناهج التفكير العلمي المنطقي، وهذا هو المبدأ الثاني من مبادئ المنطق العلمي "إقامة الملاحظة العلمية على أساس القياس الكمي لا على أساس الوصف الكيفي، إنه المبدأ الذي يربي العقل على الدقة ليأخذ كل شيء بمقياس.
3-
الكون مسير، ومدبر دائما بقدرة الله:
فالله الذي رتب سنن الكون بقي -وما زال- قائمًا على تسييره وتدبيره أمره، يمده بقوته:{وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 22/ 65] .
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 30/ 25] .
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 32/ 5] .
والإنسان جزء صغير من هذا الكون، فلا جرم أنه خاضع في كل شئونه وحياته وموته، لتقدير العزيز العليم، ولسنن سنها لله.
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 6/ 61] .
4-
وكذلك الإنسان: قد رتب الله سننا اجتماعية لحياته:
فأرسل على أساسها الرسل، وعذب الأمم، وأهلك بعضها، ورتب آجالها، وغير أحوالها.
وقال سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 3/ 137] .
وقد تأثر، بل توجه، ابن خلدون بهذه السنن الاجتماعية، المذكورة في القرآن، عند وضع معظم نظرياته الاجتماعية، بل وضع أساس علم الاجتماع في مقدمته المشهورة.
5-
الكون كله قانت لله:
ومن الفقرتين السابقتين ينتج معنا أن كل ما في الكون خاضع لله، ولتدبيره ولأمره، ولإرادته ومشيئته، وقد بين الله في مواضع من كتابه العزيز:
الأثر التربوي:
إذا كانت كل الكائنات والجمادات تخضع لبارئها، وتشهد بعظمته وتنزيهه عن كل نقض، فأجدر بالإنسان العاقل المفكر أن يعترف لربه بالنعمة، والفضل ويستشعر عظمته، ويسبح بحمده ويقدس له، وهذا من أهم النتائج التربوية الناجمة عن عرض الإسلام للكون ولخصائصه، بهذا الأسلوب التربوي.
6-
كثير ما في الكون مسخر للإنسان زاخر بالنعم:
يمتاز الدين الإسلامي، بأن جعل الإنسان يستخدم ما حوله من الكائنات، وقوى الكون، ولفت نظره إلى أنه مسلط عليها بإذن الله، وأن الله قد سخرها له، من أكبر الأجرام التي تؤثر في حياته كالشمس، إلى أصغر الكائنات التي يستطيع الاستفادة منها كالنحل، والذرة.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 2/ 29] .
الأثر التربوي:
هذه الآيات وكثير أمثالها، ترقق قلب الإنسان، وتربي عواطفه، وانفعالاته كل الخشوع لله، والشعور بفضله، وعنايته، ورحمته، وحلمه، وتدفع الإنسان إلى حمد الله وشكره، وتسبيحه، وتوحيده.
وهي تربي العقل على مبدأ علمي عملي، كان آخر ما اهتدى إليه الفكر الغربي، هو مبدأ التقنية، واستخدام القوانين العلمية وقوى الكون لرفاهية الإنسان.
ذلك أن كل آية من هذه الآيات التي نزلت منذ أربعة عشر قونا، تقول للإنسان: استخدم حرارة الشمس التي سخر الله لك، واستخدم ضوء القمر، والرياح والنجوم، والأنهار، والجبال، والبحر، وكل شيء سخره الله لك، وجعل مفتاحه بيدك.
وهذه قاعدة تشمل كل ما في الأرض، ألم يقل الله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 2/ 29] .
هذا من الناحية العلمية والاجتماعية والحضارية، أما من الناحية التربوية، فقد ربانا القرآن التربية التي لا يطغى فيها الإنسان، ولا يتجاوز حده في استخدام هذه الأمور، فلا يفسد ماء الأنهار، ولا يقتل كائنات البحار، ولا يستعمل نعم الله في سفك الدماء، وتعميم الدمار، ولا يظلم أخاه الإنسان، فيغتصب خيراته بغيا وعدوانا، أو زورا وبهتانا.
والتربية الإسلامية هي التي ضمنت هذا الجانب، فالإنسان، تحت رايتها، إنما يستخدم ما سخر الله له باسم الله، وبأمره، وفي حدود شريعته، والله لا يحب الفساد ولا يسمع بالظلم والعدوان، بل يدعو إلى العدالة بين الناس، والتراحم والتكافل والتعاون، فإذا ذكر الإنسان اسم الله على كل سلوكه، وتصرفاته وعلى كل ما يستخدمه أصبح سلوكه مثاليا، وامتنع عن كل بغي، وعدوان وإفساد وبهتان.