الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
الحوار الوصفي، وآثاره التربوية:
تمهيد:
يرى الباحث في أشكال الحوار الخطابي في الصفحات الماضية، أن ذلك الحوار يبدو لأول وهلة من طرف واحد، وقد أوضحت أن الطرف الثاني إنما يستجيب بعواطفه، ووجدانه وانفعالاته وتفكيره، وهي استجابة لا تقل أثرا وأهمية عن ظهور الطرف الثاني، والتصريح به في نص القرآن أو الحديث، كما أنها استجابة واقعية إذ تعتبر التربية الإسلامية: أن كل ناشئ وقارئ للقرآن، أو متعبد
بقراءته، مخاطب فعلا بهذه الأنواع من الأسئلة والنداءات القرآنية، وأنه لا بد مستجيب بفكره أو عاطفته، ما دام حاضر القلب، والفكر أثناء تلاوة القرآن، أو القيام به في الصلاة، فذلك الحوار قائم بين الله وعباده.
أما هذا النوع الثاني، وما يليه من أنواع الحوار "أعني الوصفي والقصصي والجدلي"، فيبدو كاملا في النص القرآني، والحوار الوصفي، الذي صرح فيه بذكر المتحاورين، وقصد من الحوار إثبات وصف حي لحالة نفسية، أو واقعية لهؤلاء المتحاورين، بقصد الاقتداء بصالحهم، والابتعاد عن شريرهم، والتأثر بهذا الجو تأثرا وجدانيا ينمي العواطف الربانية، والسلوك الإنساني التعبدي الفاضل، والأمثلة على هذا الحوار وافرة في القرآن الكريم نذكر منها قوله تعالى في حوار أهل النار:{وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ، هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 37/ 20-23] .
فالحوار هنا بين الحق جل جلاله، وبين ملائكته، والحديث عن الظالمين الذين
استحقوا عذاب جهنم، لقد استفاقوا من قبورهم، فأدركوا أن هذا اليوم هو يوم الدين، وجاء النداء الرباني لزبانية جهنم ليدلوا الظالمين إلى طريق النار، ثم استمر الحوار لبيان ضعفهم، والاستهزاء بهم بعد أن ينالوا حسابهم، في ذلك الموقف:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ، مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 37/ 24-25] ، وعجزوا عن الجواب، فأخبرنا الله جل جلاله عن حالهم:{بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 37/ 26] ، ثم دار الحوار بين قادة الظلم والباطل، وبين السوقة الذين استسلموا للباطل في الدنيا، فحشروا في العذاب جميعا:
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ، قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 37/ 27-28]، وتنصل قادة الظلم من المسئولية:{قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ، فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ، فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} [الصافات: 37/ 29-32] .
النتائج التربوية:
*- يعرض لنا الحوار الوصفي صورة حية لأحوال أهل النار، أو أهل الجنة النفسية فهو يستعين بالمخيلة والوصف الدقيق، على تربية العواطف الربانية، والتأثير في نفس القارئ أو السامع بهذه الآيات، ومما يزيد هذه الصورة تأثيرا أن الوصف جاء على ألسنتهم وباعترافهم، فهم يصفون ندمهم وآلامهم، وأي عاقل يسمح لنفسه أن يكون مكانهم؟
*- يعتمد الحوار الوصفي على الإيحاء، كما يعتمد عليه الحوار التعريضي، فالآيات هنا تحذرنا من هذا المصير، دون أن تقول لنا:"إياكم أن تقعوا فيما وقع فيه هؤلاء"، وهذا الإيحاء "كما رأينا" أشد تأثيرا من التلقين، ولكن يحسن مع ذلك استجواب الناشئين أثناء تدريس القرآن، عن رأيهم في هذا المصير الذي صار إليه هؤلاء الكفار، وعن سببه؟ ليتأكد المربي من أنهم يتابعون هذه الصورة بالتأمل والتفكير، وليختبر أحاسيسهم ومشاعرهم، ومدى استجابة عواطفهم وانفعالاتهم، فهو مطالب بتربية هذه الانفعالات، والعواطف كالخشوع والرغبة والرهبة، كما أنه مطالب بإفهامهم المعنى وتحسين تلاوتهم، سواء بسواء.
ولم يقتصر القرآن على وصف مشاعر أهل النار، بل وصف لنا بعض مشاعر أهل الجنة في حوار وصفي رائع، وسنعرض مثالا عنه دون تعليق تربوي؛ لأن ما مر ينطبق عليه وفيه كفاية.