الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2-
التربية بالموعظة:
معنى الموعظة اللغوي والقرآني:
*- في القاموس المحيط "وعظه يعظه وعظا وموعظة: ذكره ما يلين قلبه من الثواب، والعقاب فاتعظ".
*- المعنى القرآني كما ورد في تفسير المنار1.
وذلك في تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 2/ 232] .
"الوعظ: النصح والتذكير بالخير والحق على الوجه الذي يرق له القلب، ويبعث على العمل؛ أي ذلك الذي تقدم من الأحكام، والحدود المقرونة بالحكم والترغيب والترهيب يوعظ به أهل الإيمان بالله، والجزاء على الأعمال في الآخرة، فإن هؤلاء هم الذين يتقلبونه، ويتعظون به، فتخشع له قلوبهم ويتحرون العمل به قبولا لتأديب ربهم، وطلبا للانتفاع به في الدنيا، ورجاء في مثوبته ورضوانه في الأخرى.
وأما الذين لا يؤمنون بما ذكر حق الإيمان، كالمعطين والمقلدين الذين يقولون آمنا بأفواههم؛ لأنهم سمعوا قومهم يقولون ذلك، ولم تؤمن قلوبهم؛ لأنهم لا يتلقوا أصول الإيمان بالبرهان القرآني، أو النبوي الذي يملك من القلب مواقع التأثير ومسالك الوجدان، فإن وعظهم به عبث لا ينفع، وقول لا يسمع".
ب- تحليل لأهم معاني الوعظ، وأشكاله:
ينتج معنا من تأمل هذا التفسير وغيره من تفاسير الآيات التي ورد فيها لفظ "وعظ" في القرآن الكريم أن لأسلوب الوعظ أشكالا، ومعاني أهمها:
*- النصح وهو بيان الحق والمصلحة، بقصد أن نجنب المنصوح الضرر، وندله على ما يحقق سعادته وفائدته، ودليل النصح ألا يتوخى الناصح مصلحة شخصية دنيوية مادية لنفسه، ولذلك وجب على المربي الناصح أن يتنزه أثناء أداء واجبه التربوي، عن كل رياء وعن كل ما يوحي للآخرين بأن له في فعله مصلحة
1 تفسير القرآن الكريم، تفسير المنار للسيد رشيد رضا، ص403، الطبعة الأولى 1346هـ.
خاصة، لئلا يشوب إخلاصه وسمعته، فيفقد هيبته التربوية وتأثيره في نفوس طلابه، وقد بين الله ذلك عند ذكر الحوار الذي جرى بين الرسل وأقوامهم، فقال مخاطبا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 25/ 57] .
وقال على لسان نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب:{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 26/ 109 و127، 145، 164، 180] .
فتكررت هذه الآية خمس مرات في هذه السورة، لتؤكد إخلاص الرسل، وتنزههم عن المصالح المادية الشخصية في دعوتهم إلى الله.
وفي المعنى اللغوي لـ"نصح" ما يدل على الخلاص من الشوائب، والغش ففي القاموس: ورجل ناصح الجيب: لا غش فيه، والناصح: العسل الخالص، وهكذا يتفق المعنى اللغوي مع المعنى الشرعي والهدف التربوي، وقد تكرر ورود ألفاظ من هذه المادة "نصح" في مواطن من القرآن الكريم على لسان الرسل في حوارهم مع أقوامهم، كقول نوح:
{وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 11/ 34]، وكقول هود لقومه "عاد":{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 7/ 68] ، فدلت هذه الآية على أن من شروط النصح الأمانة، وهي هنا تبليغ الحق والشرع، وأخبار الغيب، كما وردت بدون تحريف ولا تشويه، مع نحري الصحة في الأسانيد إن كان العالم يستدل بأحاديث نبوية.
*- التذكير: وهو أن يعيد الواعظ إلى الذاكرة معاني وذكريات، وتستيقظ معها مشاعر ووجدانات وانفعالات، تدفع للمبادرة إلى العمل الصالح، والمسارعة إلى طاعة الله وتنفيذ أوامره، وهذا يقتضي أن يكون في ذكريات الموعوظ، ووجدانه ما يعتمد عليه الواعظ من إيمان بالله، وخوف من الحساب، ورغبة في الثواب وللتذكير وسائل أهمها:
1-
التذكير بالموت؛ وقد كان عمر بن الخطاب يخاطب نفسه قائلا: كفى بالموت واعظا يا عمر، وكان الخوف من الله ومن الحساب بعد الموت بين يدي الله قد أسال
دموع هذا الخليفة الصالح حتى ترك الدمع أثرا واضحا في خديه، أصبح يعرف به بين أصحابه، ومما يتبع الموت التذكير بعذاب القبر، وسؤال الملكين في القبر، وتنشأ العظة بالموت عن أنه آت لا محالة لا ينجو منه إنسان، وأنه لا يأتي في الوقت الذي يريده الإنسان، فهو من صنع الله وتقديره، استأثر الله وحده بعلمه، وقد شرع الله لنا تغسيل الميت وتجهيزه، وتشييعه وزيارة القبور لنزداد عظة الموت.
2-
التذكير بالموض؛ فالحياة دائما مهددة بالمصائب والأمراض، وهي أمور تفاجئ الإنسان فتنغص عليه حياته، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة"، فالحياة الدنيا تحمل بين طياتها الدليل على نقصها وفنائها، وإن الآخرة هي الحياة الحقة الباقية:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 29/ 64] ، ففي هذا موعظة لمن يعقل ويفكر في هذه الحياة، ونقصها ونكدها، ليرجع إلى الله وتستيقظ عنده الخشوع لله، والخوف منه، والخضوع لأوامره، ولذلك شرع لنا زيارة المرضى لنشكر الله على الصحة من جهة، ونواسي المريض من جهة أخرى، كما شرع لنا الصبر على المرض والمصائب، ووعدنا عليه بثواب عظيم، وأدبنا رسول الله أن ندعو للمريض بمثل قولنا:"أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك"01
3-
التذكير بيوم الحساب، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وقد يجيء مقترنا بالوعظ، وذلك ما ورد في بعض الآيات كقوله تعالى:{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [الطلاق: 65/ 2] .
لأن تقبل الوعظ والامتناع عن المحرمات، وعن الاستبداد بالزوجة، مثلًا، بقصد مكارهتها وظلمها وأكل صداقها، هذا الامتناع يحتاج إلى رادع، ووازع من نفس الإنسان، ولا رادع كالخوف الحقيقي من الله، ومن يوم الحساب، ووجود هذا الخوف يعتمد على تربية إسلامية تنمو معها العواطف الربانية كما أشرنا إلى ذلك في حينه من مباحث هذا الكتاب.
1 رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط البخاري، الترغيب والترهيب لعبد العظيم المنذري، 4/ 103، ط عيسى البابي الحلبي.
ج- النتائج التربوية:
يعتمد الوعظ من الناحية النفسية، والتربوية على أمور أهمها:
*- إيقاظ عواطف ربانية كانت قد ربيت1 في نفس الناشئين بطريق الحوار، أو العمل والعبادة والممارسة، أو غير ذلك كعاطفة الخضوع لله، والخوف من عذابه أو الرغبة في جنته، وكذلك يربي الوعظ هذه العواطف وينميها، وقد ينشئها من جديد.
*- الاعتماد على التفكير الرباني السليم الذي كان الموعوظ قد ربي عليه، وهو التصور السليم للحياة الدنيا والآخرة، ودور الإنسان أو وظيفته في هذا الكون ونعم الله، وأنه خلق الكون والموت والحياة، ونحو ذلك مما أوضحته في "أسس التربية الإسلامية" كأركان الإيمان، وتوحيد الله بالتشريع والعبادة، والجبروت والقدرة المطلقة.
*- الاعتماد على الجماعة المؤمنة، فالمجتمع الصالح يوجد جوا يكون فيه الوعظ أشد تأثيرا وأبلغ في النفوس، لذلك جاءت معظم المواعظ القرآنية، والنبوية بصيغة الجماعة كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 4/ 58]، وكالحديث:"وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة، وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا..".
*- ومن أهم آثار أسلوب الموعظة تزكية النفس، وتطهيرها وهو من الأهداف الكبرى للتربية الإسلامية، وبتحقيقه يسمو المجتمع، ويبتعد عن المنكرات وعن الفحشاء، فلا يبغي أحد على أحد ويأتمر الجميع بأمر الله، بالمعروف والعدل والصلاح والبر، والإحسان وقد جمعت هذه المعاني في قوله تعالى:
1 كما مر في بحث الحوار العاطفي.