الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
الحوار النبوي:
لقد اقتبس رسول الله صلى الله عليه وسلم، من كل ما مر من أنواع الحوار القرآني وأشكاله، وكل ما هو مثبت في القرآن العظيم من أساليب التربية والتعليم، ولا غرو فقد كان خلقه القرآن، وكانت حياته التربوية والتعليمية ترجمة حية بشرية، لآيات الله ومراده ووحيه.
*- الحوار طريقة تربوية نبوية:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصا على تعليم الصحابة بطريق الحوار، وكانت رغبته أشد في أن يكون الصحابة هم البادئون بالسؤال، فقد روى البخاري ومسلم "واللفظ له" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بارزًا للناس، وفي رواية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سلوني"، فهابوه أن يسألوه فجاء رجل، فجلس عند ركبتيه، فقال: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: "لا تشرك بالله شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان"، قال: صدقت، ثم سأله عن الإيمان والإحسان وموعد قيام الساعة، قال أبو هريرة: ثم قال الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ردوه علي" فالتمس فلم يجدوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هذا جبريل أراد أن تعلموا إذا لم تسألوا" 1 وفي لفظ للبخاري: "هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم"2.
ويؤخذ من هذه الأحاديث أمور تربوية أهمها:
أ- مشروعية ترغيب المعلمين في أن يكونوا هم السائلين، ليكون التعليم مبنيا على رغبتهم، وليكون أشد وقعا في نفوسهم.
1 صحيح الإمام مسلم 1/ 30، ط دار الطباعة العامرة استانبول 1329هـ.
2 صحيح البخاري، كتاب الإيمان 1/ 12، ط المطبعة العثمانية المصرية 1932م.
ب- إجراء حوار أمام المتعلمين، ليتابعوا الحوار ويتعلموا منه أمر دينهم، وهذه الطريقة كانت مقصودة من قبل الشارع، بدليل لفظ البخاري: $"هذا جبريل جاء يعلم الناس أمر دينهم"، وكانت هذه الطريقة تروق بعض الصحابة رضي الله عنهم، كما ثبت في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال:"كنا نهينا في القرآن أن نسأل رسول الله صلى عليه وسلم عن شيء، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية، العاقل، فيسأله ونحن نسمع، فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد: أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: "صدق"، الحديث"1.
وحديث جبريل جاء مخصصًا لعموم الآية: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 5/ 101]، ولعموم حديث:"نهينا عن قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال"، ولعل الصحابة كانوا يتهيبون السؤال بعموم الآية والحديث، فجاء حديث جبريل مبيحا السؤال بقصد الاستفادة، والتعليم وخاصة لأمور الدين وأسسه وعقائده.
فثبت من هذا كله أن أسلوب الحوار من أساليب التربية الإسلامية، لذلك أرسل الله جبريل يسأل الرسول ويصدقه، والصحابة يسمعون بكل لهفة وشوق، ليقتدي المعلمون والمربون بهذا الأسلوب في حياتهم التعليمية والتربوية.
*- الحوار النبوي العاطفي:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقدر الناس على تربية العواطف الربانية، والاعتماد عليها عند الضرورة.
آمن من الأنصار وفيه الرجل والمرأة، والشاب والكهل، والطاعن في السن، فربى نفوسهم على الحب في الله والحماية لدين الله، والبغض لأعداء الله، وكراهية العودة إلى الكفر والجاهلية، فلما وزع الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الغنائم في قريش وجدوا وعتبوا، كما ورد عن أبي سعيد الخدري قال2: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا "أي من غنائم هوازن وسباياها" في قريش، ولم يكن في الأنصار
1 ج1 باب الإيمان 1/ 32، ط دار الطباعة العامرة 1329هـ.
2 تهذيب سيرة ابن هشام: عبد السلام هارون ص316-318، ط دار الفكر دمشق.
منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثرت منهم القالة، فأمر سعد بن عباة فجمعهم، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: $"يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم؟ وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأعطاكم الله؟ وأعداء فألف بين قلوبكم؟ ".
قالوا: بلى والله ورسوله أمن وأفضل.
ثم قال: "ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ " قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم، في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، وركلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة، والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحابكم؟ فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار".
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا:"رضينا برسول الله قسما وحظا".
هذه التربية النبوية العظيمة، وهذا الحوار النبوي العاطفي يدلنا من الناحية التربوية على أمور أهمها:
أ- أن الاعتماد على العواطف الربانية في المواقف الخطيرة، يجب أن يسبقه تربية صحيحة وعميقة لهذه العواطف، وكان رسول الله كما قلنا قد ربى هذه العواطف في نفوس الأنصار، حتى أصبح الله ورسوله أحب إليهم من المال، والولد والناس أجمعين.
ب- استخدام رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلوب القرآن الاستفهامي، لإثارة العواطف: وكأنه اقتبس من سورة الضحى ذلك القبس الإلهي حين قال لهم: "ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأعطاكم الله، وأعداء فألف بين قوبكم؟ ".
ج- وراعى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم بشر وليسوا ملائكة، وأرادهم أن يدافعوا عن أنفسهم بشيء من القول، فلما استحيوا منه، دافع عنهم بالنيابة عن أنفسهم، لئلا يترك في نفوسهم شيئا من الواجد، فقال: $"أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك.."، وهكذا نجد أن على المربي في المواقف الحرجة، ألا يصدر حكمه قبل أن يسمع من الذين يربيهم، أو يريد أن يحاكمهم، في هفوة ارتكبوها.
*- الحوار النبوي الإقناعي:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاور في سبيل الإقناع وإقامة الحجة، فقد أراد شخص أن يدخل في الإسلام، فاستأذن رسول الله أن يبيح له الزنا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ما معناه1:
"ألك أم؟ " قال: نعم، "ألك أخت؟ " قال: نعم، ثم قال:"أتريد أن يزنى بأمك؟ " قال: لا"، وهنا أقلع الرجل وتاب عن هذا الخلق الدنيء، وتم إقناعه بترك الزنى عن طريق هذا الحوار النبوي، الذي يتضمن قياس معاملة الغير على معاملة النفس، وأن يترك الإنسان أذى الآخرين، ما دام لا يريد أن يؤذيه الآخرون.
وكذلك محاورته مع عدي بن حاتم:
قال الإمام الرازي في تفسيره2: نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانيا، فانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ سورة براءة، فوصل إلى هذه الآية:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 9/ 31] ، قال، فقلت: لسنا نعبدهم، فقال:"أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟ " قلت: بلى، قال:"فتلك عبادتهم".
وروى الإمام أحمد والترمذي، وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم.. فذكر خبر فراره إلى الشام، وأسر أخته وإسلامها وترغيبها إياه بالإسلام، وقدومه إلى المدينة، وسماعه سورة "براءة" من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتراضه على آية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
1 شعب الإيمان للإمام البيهقي.
2 كما نقله عنه صاحب تفسير المنار 10/ 366، ط مطبعة المنار بمصر 1349هـ-1931م.
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} ، وجواب الرسول ثم قال1: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يضرك؟ أيضرك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم إلها غير الله؟ " ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق، قال2: فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال:"إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون".
هذا الحوار الإقناعي يقوم على سؤال المتعلم، أو المخاطب عما يعرفه بالحس أو البداهة، ثم يبني السائل على الجواب ما يريد بناءه من استجواب آخر، حتى يصل إلى الإقناع بكل ما يريد تعليمه إياه أو إقناعه به، فقد كان حوار رسول الله صلى الله عليه وسلم حوارًا تدريجيا بدأ المناقشة حول معنى الآية، وحول اتخاذ النصارى لأحبارهم أربابا، أي مشرعين من دون الله، ثم تبين خطؤهم لعدي بن حاتم، فلما أنس منه الرسول صلى الله عليه وسلم تعقلا، ورغبة في الحق تابع سؤاله عن رأيه في شعار المسلمين "الله أكبر" و"لا إله إلا الله" حتى أقر بشهادة الحق.
وهكذا كان الحوار الاستجوابي في التربية الإسلامية بعد قراءة القرآن، من الوسائل الناجحة لإقناع من يرجي إسلامه من المفكرين والعقلاء، وهو وسيلة ناجحة في التدريس، وما زال من أفضل الوسائل المتبعة إلى يومنا، إنه وسيلة للتعليم والإقناع، وإلزام الخصم بالحجة.
1 تفسير المنار ص365 وقد لخصت أول الرواية، واقتصرت على التقيد بنص آخرها كما ورد.
2 يعني عدي بن حاتم رواي الحديث.