الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا: المدرسة في التربية الإسلامية
1-
تمهيد في أهمية المدرسة ونشأتها:
لم تصل الإنسانية إلى إيجاد المدرسة على شكل الذي نراه اليوم إلا بعد أن مرت بمراحل طويلة، وتجارب عديدة.
فقد كان الطفل في الحياة البدائية يتعلم من أبويه، ومجتمعه كل شيء بأسلوب غير مقصود وغير منظم، تارة عن طريق التقليد، وتارة عن طريق التأمل والمحاكاة المقصودة، والتكرار والإعادة بقصد الإتقان.
بيد أنه كان للدين الفضل الأول في إيجاد تربية هادفة مقصودة، وذلك حين أوجد الدين الركنين الأساسيين لعملية التربية المقصودة، وهما: الهدف الواضح المحدود، وهو عبادة الله وحده، والتعريف به، والإيمان به، في جميع الأديان السماوية، والمنهج أو المادة الفكرية، والسلوكية المعينة المقصودة، وهو الاستسلام لتشريع الله، وأوامره التي أنزلها على رسله، ليحفظها الجيل ويعمل بمقتضاها، ثم ينقلها إلى الجيل الذي بعده، دواليك.
وتتابعت الأجيال، تتناقل شريعة الله وأوامره، وأسلوب عبادته، بالحفظ والتعلم، والتقليد والاتباع، فردا عن فرد، وجمعا عن فرد، وجمعا عن جمع، في الساحات والمواسم والصوامع، والبيع والمساجد، ولم تكن الكتابة قد انتشرت في أول الأمر، فكان التعليم مقصورًا على المشافهة، والمناقشة والمحاكاة والاتباع، والممارسة العملية والتجريب.
ولم يكن التعليم مقصورًا على الصغار، بل كان الصغار والكبار يتلقون التعاليم الدينية من رسل الله وأتباعهم، ويلقنونها؛ لأبنائهم ومن يليهم؛ فكان نشر الدين فريضة دينية وضرورة اجتماعية؛ لأن المجتمع المؤمن الموحد مهاجم، وأهل الحق قلة في أكثر العصور:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 12/ 103] ، فإذا لم يدافعوا عن أنفسهم بالدعووة إلى عبادة الله وحده، وبيان الحق والبرهان عليه، غلبوا وغزوا في عقر دارهم، واتهموا في صميم عقيدتهم وأفكارهم، ولم يخصص لتعليم أماكن خاصة، إلا إذا اعتبرنا المعابد دورا للتعليم، فكان التعليم
ممزوجا بكل ظروف الحياة الاجتماعية، العائلية منها والدينية والاقتصادية والحربية، والسلمية والمهنية من زراعية وصناعية.
واشتق من المعابد أماكن ملحقة بها تخصص لتخريج مختصين بالدعوة إلى الدين ينقطعون للعبادة، ويزهدون بالدنيا، وقد ذكر لنا القرآن هذه الفئة من الدعاة بقوله تعالى مشيرا إلى أتباع رسول الله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام:
وهكذا كانت المعابد النواة الأولى للمدارس أو للتربة المقصودة، وكان رسل الله وأتباعهم المخلصون، الدعاة إلى دين الله، هم المعلمون الأوائل في هذه البشرية1.
وقد وردت في القرآن إشارات إلى تربية بعض الرسل لأبنائهم، وما علموهم من توحيد الله وعبادته، كوصية يعقوب لبنيه، ووصية إبراهيم من قبله:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 2/ 132-133] .
كما وردت إشارة إلى تربية بعض الصالحين لأبنائهم كوصية لقمان لابنه، وهو يعظه "سورة لقمان":[الآيات: من 13 حتى 19] .
ووردت إشارات كثيرة إلى حو ار طويل دار بين كل نبي وقومه، مثل:"نوح" و"شعيب" و"إبراهيم" و"موسى" و"صالح" و"لوط" حتى آمن من آمن، وكل هذه المحاولات يمكن اعتبارها مواقف تربوية، سنبسط بعضها عند ذكر "الطريقة الحوارية" في "أساليب التربية الإسلامية" في تمام هذا الباب إن شاء الله.
والذي يهمنا هنا هو مواقف هؤلاء الرسل التربوية، وما تبعهم عليه أتباعهم من أساليب الدعوة والتبشير بالدين، وما خصصوا من أماكن لتعليم الدين.
وهكذا استمر انتشار "دور التربية الدينية"، وكان ذلك بين مد وجزر؛ لأن الصراع كان دائما بين الكفر والإيمان، بين السحرة1 والكهان والعرافين، يربون الناس على الباطل، والخرافات الوثنية، وبين الرسل وأتباعهم يربون الناس على التفكير الصحيح، وتوحيد الله، والحرية والمسئولية والكرامة الإنسانية، والعدل، والإحسان، وتعليل الأمور تعليلا منطقيا بعيدا عن الخرافة والشرك، كما رأينا في "أسس التربية الإسلامية" في فصل سابق.
1 ولا حاجة إلى اعتبار ما يسمونه "مدرسة القبيلة"، واتخاذ دور "الكهان" أو "العرافين" فيها: نواة لنشوء المدرسة؛ لأن الأخبار عن القبائل متناقضة ضعيفة السند في هذا الشأن بينما تجمع الأخبار الصحيحة من الأديان السماوية على ما ذهبنا إليه إجماعا لا يرقى إليه الشك، والوحي أقدم من الكهانة، والعرافة بصريح القرآن.