المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الحوار الخطابي أو التعبدي: - أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع

[عبد الرحمن النحلاوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌المحتوى:

- ‌الفصل الأول: الإسلام والتربية

- ‌أولا- التربية الإسلامية هي العلاج:

- ‌ثانيا: مفهوم التربية

- ‌ثالثا: مفهوم الدين

- ‌رابعا: مفهوم الإسلام

- ‌خامسا: العلاقة بين الإسلام والتربية

- ‌ التربية الإسلامية: فريضة إسلامية

- ‌ التربية الإسلامية قضية إنسانية، وضرورة مصيرية:

- ‌الفصل الثاني: مصادر التربية الإسلامية

- ‌أولًا: القرآن: أثره التربوي في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة

- ‌ثانيا: السنة

- ‌الفصل الثالث: أسس التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌الاسس الفكرية

- ‌مدخل

- ‌أولا: نظرة الإسلام إلى الإنسان

- ‌ثانيا: نظرة الإسلام إلى الكون:

- ‌ثالثا: نظرة الإسلام إلى الحياة

- ‌الأسس التعبدية:

- ‌الأسس التشريعية

- ‌مدخل

- ‌أولا: أثر الشريعة في تربية الفكر

- ‌ثانيا: أثر الشريعة في تربية الخلق

- ‌ثالثا: الضروريات الخمس، وأثرها التربوي

- ‌رابعا: العقيدة الإسلامية، وأثرها التربوي:

- ‌أركان الإيمان:

- ‌الفصل الرابع: غاية التربية الإسلامية وأهدافها

- ‌أولًا: معنى الهدف

- ‌ثانيًا: أهمية الهدف وتحديده

- ‌ثالثا: هدف التربية الإسلامية

- ‌رابعا: التربية الإسلامية، والمواطنة الصالحة

- ‌خامسا: التربية الإسلامية، وهدف كسب الرزق

- ‌سادسًا: مميزات هدف التربية الإسلامية

- ‌سابعًا: أهمية التربية الدينية "بمعناها الخاص" في تحقيق هدف التربية الإسلامية

- ‌الفصل الخامس: وسائط التربية الإسلامية

- ‌أولًا: المسجد وأثره التربوي

- ‌ثانيا: الأسرة المسلمة، ومهمتها التربوية

- ‌ثالثا: المدرسة في التربية الإسلامية

- ‌ تمهيد في أهمية المدرسة ونشأتها:

- ‌ المدرسة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم:

- ‌ المدارس في العصر العباسي المتأخر:

- ‌ المدرسة المعاصرة:

-

- ‌وظائف المدرسة الحديثة

- ‌وظيفة التبسيط والتخليص

- ‌ وظيفة التصفية، والتطهير:

- ‌ توسيع آفاق الناشئ وزيادة خبراته بنقل التراث:

- ‌ وظيفة الصهر والتوحيد وإيجاد التجانس، والتأليف بين الناشئين:

- ‌ وظيفة تنسيق الجهود التربوية المختلفة وتصحيحها:

- ‌ التكميل لمهمة المنزل التربوية:

- ‌رابعا: المربي المسلم

- ‌ تمهيد حول أهمية المربي:

- ‌ صفات المربي المسلم وشروطه:

- ‌خامسًا: المجتمع ومسئوليته التربوية

- ‌سادسا: النشاط المدرسي والتربية الإسلامية:

- ‌سابعا: المنهج التربوي الإسلامي وخصائصه

- ‌الفصل السادس: أساليب التربية الإسلامية

- ‌مدخل

- ‌أولًا: التربية بالحوار القرآني والنبوي

- ‌مدخل

- ‌ الحوار الخطابي أو التعبدي:

- ‌ الحوار الوصفي، وآثاره التربوية:

- ‌الحوارص القصصي

- ‌ الحوار الجدلي لإثبات الحجة:

- ‌ الحوار النبوي:

- ‌ثانيًا: التربية بالقصص القرآني والنبوي

- ‌الميزات التربوية للقصص القرآني والنبوي

- ‌ تربي القصة القرآنية العواطف الربانية وذلك:

- ‌ثالثا: التربية بضرب الأمثال:

- ‌رابعًا: التربية بالقدرة

- ‌خامسا: التربية بالممارسة والعمل

- ‌سادسًا:‌‌ التربية بالعبرةوالموعظة

- ‌ التربية بالعبرة

- ‌ التربية بالموعظة:

- ‌سابعا: التربية بالترغيب والترهيب:

- ‌مستخلص:

الفصل: ‌ الحوار الخطابي أو التعبدي:

1-

‌ الحوار الخطابي أو التعبدي:

أنزل الله القرآن ليكون هداية للبشرية، وبشرى للمتقين، وقد خاطب الله عباده المؤمنين في عشرات المواضع من كتابه مصدرًا خطابه بنداء التعريف بالإيمان:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} ، وكلما قرأه مؤمن لهج قلبه بالجواب:"لبيك يا رب"، ولذلك اعتبرت هذا الأسلوب حوارا، وقد يجري العكس، فإذا خاطب المؤمن ربه داعيا إياه في بعض آيات القرآن، أجابه الحق جل جلاله بما يناسب المقام، والأدلة على ذلك واضحة أشهرها ما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل".

فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الفاتحة: 1/ 2] قال الله تعالى: "حمدني عبدي".

وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} [الفاتحة: 1/ 3]، قال الله تعالى:"أثنى علي عبدي".

وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّين} [الفاتحة: 1/ 4]، قال:"مجدني عبدي"، وقال مرة:"فوض إلي عبدي".

فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة 1/ 5]، قال:"هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل".

فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة 1/ 6-7] قال: "هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل"1.

1 صحيح الإمام مسلم، 2/ 9 ط/ دار الطباعة العامرة سنة 1330هـ.

ص: 168

وما رواه أبو داود والبيهقي بسند صحيح 1:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ: {لَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 75/ 40]، قال:"سبحانك فلبى"، وإذا قرأ:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 87/ 1] قال: "سبحان ربي الأعلى".

فهذان دليلان على الحوار التعبدي، أحدهما دليل على إجابة الرب لعبده، والآخر دليل على تلبية العبد لنداء ربه، أو سؤاله أثناء تلاوة القرآن، وقد حض رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على مثل هذه التلبية عندما قرأ عليهم سورة الرحمن: روى الحاكم عن جابر قال: "قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: "مالي أراكم سكوتا؟ للجن كانوا أحسن منكم ردًّا، ما قرأت عليهم هذه الآية:{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان} [الرحمن: 55/ 13] ، وبعدها 31 موضعا بنفس السورة، إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد"2.

كما كان صلى الله عليه وسلم قدوتنا في الاستجابة لمعاني القرآن أثناء الصلاة قال حذيفة بن اليمان: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح "البقرة"، فقلت: يركع عند المئة ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعتين، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح "النساء" فقرأها، ثم افتتح "آل عمران" فقرأها، يقرأ مترسلًا: إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ"3.

فتسبيح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعوذه، وسؤاله، مناجاة لله تعالى، أثناء تلاوة القرآن، فهو أشبه ما يكون بالحوار.

النتائج التربوية:

يربي القرآن في نفوس الناشئة بواسطة الحوار التعبدي، أو الخطابي أمورا هامة، على المدرسين والمربين وقراء القرآن، أن ينتبهوا إليها، ويراعوا مدى تأثر الناشئين بها، وعلمهم بمقتضاها منها:

1 صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: محمد ناصر الألباني ط المكتب الإسلامي ص101 الطبعة السادسة 1391هـ.

2 تفسير الجلالين، سورة الرحمن.

3 صفة صلاة النبي: محمد ناصر الألباني ص117 الطبعة السادسة، ط المكتب الإسلامي.

ص: 169

*- التجاوب مع أسئلة القرآن والتفكير بمعناها، والجواب على ما يمكن الجواب عليه، أو استحضار الجواب في القلب.

*- التأثر العاطفي بمعاني القرآن، فقد بلغ التأثر برسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغًا عظيمًا، وذلك مرة عندما قرئ عليه قوله تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 4/ 41] ، وقال القارئ "حسبك"، رواه أحمد والبخاري في صحيحه من حديث ابن مسعود أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ علي"، قلت: يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: "نعم أحب أن أسمعه من غيري"، فقرأت سورة النساء حتى أتيت هذه الآية:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} [النساء: 4/ 41]، فقال:"حسبك الآن"، فإذا عيناه تذرفان1.

*- توجيه السلوك والعمل بمقتضى القرآن الكريم، وذلك نتيجة طبيعية للتأثر العاطفي والقناعة الفكرية، الناشئة عن أسلوب الحوار، فالذي يستجيب لسؤال ربه، أو وصفه للعذاب والجنة، أو لوعده أو لوعيده، حري بأن يستجيب بسلوكه.

*- إشعار الناشئ، والمسلم القارئ للقرآن بعزة الإيمان، ومكانته عند الله حتى خاطب عباده بوصفهم به.

أشكال الحوار الخطابي:

تعددت أشكال الخطاب الموجه من الله تعالى، ومقاصد الأسئلة القرآنية العامة، التي لم تكن موجهة إلا من الله، لجميع خلقه، أو لجميع المؤمنين، أو لجميع الناس، وأحيانا يوجه الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ويراد به التشريع لجميع المؤمنين، ويمكن تعداد أهم الأشكال لهذا الحوار الخطابي كما يلي:

*- الخطاب الموجه للذين آمنوا، أو المصدر بنداء التعريف بالإيمان؛ وفي هذا الخطاب يكون المنادى معرفا، فهو اسم موصول صلته جملة "آمنوا"، والقصد من هذا التعريف الإيماء للمخاطبين:

أن يعتزوا بإيمانهم؛ لأن الله جل جلاله يرفع من شأنهم ويخصهم بهذا الوصف العظيم، ويناديهم به حتى أصبح، وكأنه علم عليهم.

1 تفسير المنار 5/ 110، وانظر تفسير ابن كثير 1/ 498 ط دار المعرفة بيروت.

ص: 170

وأن يحرصوا على هذا الإيمان ويستمسكوا به، فهو صفتهم المميزة أمام الناس وأمام الإنسانية، وما كان لهم أن يتراجعوا عنه.

وأن يشعروا بمسئولية التكليف فهو مبني على الإيمان، وما دامعوا قد أخذوا أنفسهم بالإيمان بالله، فقد أخذوا أنفسهم بالعمل بكل ما يأمرهم به الله.

والتكليف بالأوامر الإلهية في القرآن يأتي على أشكال:

*- فإما على شكل بيان حكم الله للعمل به: كحكم الخمر، وصفة الوضوء، والتيمم، وكل هذه التكاليف مصدرة بنداء عرف به المنادى بصفة الإيمان.

*- وإما على شكل نهي عن أمور حرمها الشرع، كالخمر والميسر، وقتل الصيد في الحرم، وعضل النساء، وقد صدرت هذه النواهي بهذا الخطاب الإيماني، للشعور بضرورة الابتعاد عن المحرمات.

وإما على شكل حض على أمور عظيمة لا يقدر عليها إلا المؤمنون، كالصبر، وتقوى الله، والتوبة إلى الله:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 24/ 31] والجهاد.

الحوار الخطابي التذكيري:

ويقوم على التفكير بنعم الله، أو تذكير بعض الطوائف بذنوب أجدادهم، وانحرافاتهم التي ما زالوا بتصفون بها، كتذكير بني إسرائيل:{سَلْ بَنِي إِسْرائيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} [البقرة: 2/ 211]{يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} [طه: 20/ 80]{يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 2/ 122] ، والآيات في ذلك معروفة معظمها في سورة البقرة.

وأما التذكير بنعمة الإيمان، فكقوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 3/ 102-103]، وقوله تعالى:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 93/ 6-8] .

ص: 171

ولهذا الحوار أثر نفسي عميق فهو يوقظ في النفس عاطفة العرفان بالجميل والشكر لله، وبالتالي يربي عاطفة الخضوع، والانقياد لأوامر الله تعالى، وإنما تربي العاطفة بتكرار إثارة انفعال معين نحو موضوع معين، فإذا قرأ الإنسان في عدد من الصلوات عددا من هذه الآيات، وخشع لها قلبه كل مرة، أصبح عنده استعداد للخشوع كلما تذكر هذا الأمر، إن الاستعداد هو العاطفة المطلوبة.

على أن العاطفة يجب أن تكون قوة دافعة تدفع صاحبها إلى التطبيق، والتضحية والسلوك المستقيم، فالتذكير بنعمة الغنى تدفع إلى البذل والسخاء في سبيل الله، والتذكير بنعمة الإيواء تدفع إلى رحمة الأيتام، ورعايتهم وهكذا.

والآيات القرآنية ذات الأسلوب الاستفهامي دالة على هذا، فكلما ورد سؤال يذكر نعمة من نعم الله، كان جوابه إما ملحوظا وإما صريحا، كما في سورة الضحى:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ، وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ، وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 93/ 9-11] .

الحوار الخطابي التنبيهي أو الإيضاحي:

من أوضح صور هذا الحوار، أن يرد سؤال من الحق جل جلاله، يليه جواب، فتكون غايته لفت الأنظار إلى أمر هام، ثم شرح هذا الأمر كقوله تعالى:

{عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ: 78/ 1-3] .

{الْحَاقَّةُ، مَا الْحَاقَّةُ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ، كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة: 69/ 1-4] .

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ، وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية: 88/ 1-2] .

وقد اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلوب القرآن في هذا اللون من الحوار، فقال فيما رواه أبو هريرة:"أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته"، رواه مسلم1.

1 رياض الصالحين ص269، شركة الشمولي بالإسكندرية بمصر.

ص: 172

وهذا أسلوب رائع، يضاهي أسلوب الاستجواب في المدرسة الحديثة، ويزيد عليه: فالاستجواب المدرسي مقصور على أمور عادية علمية جافة، والحوار القرآني، أو النبوي يتحدى عقول السامعين، وأفكارهم بأمور جديدة أو غامضة، ثم يشرحها لهم ويوجههم إلى الأخذ بخيرها وترك شرها، فغايته وجدانية سلوكية: وجدانية بحيث يكره إلى السامع أو المخاطب الشر، ويجيب إليه الخير، ويثير عواطفه وانفعالاته في سبيل تحقيق سلوك طيب، والابتعاد عن سلوك شرير.

ولهذا الحوار التنبيهي أغراض كثيرة منها:

*- التنبيه إلى أمر عظيم كقيام الساعة.

*- التنبيه إلى قانون عام، أو سنة إلهية للبشر كقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [الحج: 22/ 5] .

الحوار الخطابي العاطفي:

وهو خطاب أو استفهام يعتمد على إثارة عواطف إنسانية، أو انفعالات وجدانية، تترك أثرًا فعالا في الانقياد للسلوك الطيب والعمل الصالح، كالخوف والأمل، الرغبة والرهبة.

*- فالخشوع لله والشعور بعظمته كقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 67/ 3] ، وفي هذا تحد للإنسان، ليتأمل في عظمة خلق الله للسماوات والكواكب، وقد نوه الله تعالى ببعض الآثار النفسية لهذا التحدي، والتأمل بقوله:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 67/ 4] ، فالشعور بعظمة الله هنا يتجلى حين يرافقه شعور بضعف الإنسان، ويلازمه انقياد وطاعة، وخشوع لله.

*- والشعور بالندم إزاء المعاتبة، والتأنيب كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا

ص: 173

مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 9/ 38] .

وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 61/ 2-3] .

*- والخوف من عذاب يوم القيامة، وأهواله واضح في قوله تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 4/ 41]، ثم يبين الله تعالى بعض الآثار النفسية لذلك الموقف بقوله:{يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 4/ 42] .

*- وإثارة عواطف الشكر لله والشعور بفضله ومنه، مبثوثة في كثير من الآيات، كقوله تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة: 56/ 68-69] .

وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [الواقعة: 56/ 71-72] ، وبعد كل استفهام دليل دامغ على عجز الإنسان، وعظمة الله وقدرته، فالماء الذي نشربه لا نملك أن نجعله حلوًا لو كان مالحا {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 56/ 70] ، والنبات الذي نزرعه لا نملك ربه لو حبست عنه الأمطار، وغارت الآبار والأنهار، أو جاءته ريح سموم، فأصبح حطاما أو هشيما:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 56/ 63-67] ، فلا يملك القارئ المتدبر إلا أن يخشع قلبه لفضل الله، ويلهج لسانه بحمده وشكره.

تربية العواطف الربانية:

وتربية هذه العواطف أو غيرها يخضع، كما تدل الحياة، ونتائج أبحاث علم النفس، شروط أهمها:

*- أن تثور الانفعالات الوجدانية في مواقف من الحياة الفردية، أو الاجتماعية المناسبة وترافقها استجابات سلوكية مناسبة.

*- أن تتكرر هذه الانفعالات، وتتكرر معها الاستجابات السلوكية المناسبة،

ص: 174

كالصلاة والبكاء من خشية الله، وقراءة القرآن والدعاء، والتلذذ بمعاني القرآن وأساليبه.

*- أن يؤدي هذا التكرار إلى استعداد وجداني، يجعل صاحبه مستعدًّا للانفعال، كلما تكررت المناسبة، أو تكرر المعنى أو الموضوع الذي أثار الانفعال أول مرة، كاستعداد المؤمن للحماسة من أجل العقيدة، ولتحقيق أوامر الله والغضب لله، والدعوة إلى دينه.

*- والعاطفة الفعالة تؤدي بصاحبها إلى سلوك مناسب يرضيها ويحقق غايتها، فهي قوة دافعة ما تزال تدفع صاحبها حتى يسلك ذلك السلوك، فعاطفة الخشوع تدفع المؤمن إلى طاعة الله وتحقيق أوامره، وكذلك الشكر على النعم يدفع إلى الصدقة، أو حسن استعمال المال أو الجاه أو البصر، في طاعة الله وتحقيق شريعته، دواليك.

الحوار العاطفي الترديدي:

وهو الذي يتردد فيه سؤال معين، مثير لعواطف متشابهة، فيتكرر عددًا من المرات، بينها فواصل من الآيات المؤثرة، فيأخذ هذا السؤال كل مرة معنى يتناسب مع ما سبقه من الآيات بالإضافة إلى معناه الأصلي كتكرار قوله تعالى في سورة الرحمن:{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 55/ 13] ، وبعدها 31 موضعا بنفس السورة، وقوله تعالى في سورة القمر:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 54/ 17] ، وأربع مواضع بعدها في نفس السورة، وقوله أيضا:{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 54/ 16] وأربع مواضع بعدها أيضا من نفس السورة، وهذا التكرار يساعد على نشوء العاطفة الربانية، وتمكينها وترتيبها في النفس، ونموها، كما يساعد على استعدادها للثورة في عدد من المواقف المتنوعة، بحسب تنوع الآيات السابقة للسؤال المتكرر، فقد وردت آية:{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 55/ 13] ، في أول السورة بعد ذكر نعم الله في خلق الإنسان وتعليمه، وأن الله سخر له الشمس والقمر، والنجم والسماء، والميزان والأرض والنبات، فأثار هذا السؤال عواطف الشكر لله، ثم ورددت تارة أخرى بعد ذكر قدرة الله على الإنسان: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا

شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 55/ 35-36] ، فأثارت انفعال الخوف من الله، وربت عاطفة الخشوع لله.

ص: 175

كل ذلك إلى جانب تربية العبودية لله، وهو الهدف الأصلي المقصود بالدرجة الأولى من هذه الآية الكريمة، فالتصديق بآلاء الله ونعمه، وآيات قدرته ووحدانيته، يثمر في قلب المؤمن ثمرة عظيمة هي إخلاص الخضوع، والعبودية والانقياد لله وحده، وهذا من أهم نتائج "العاطفة الربانية"، وهي العاطفة السائدة تترعرع في التربية الإسلامية، فتتوجه سائر العواطف بتوجيهها، وتهذب الغرائز،

والنزعات الإنسانية بسيطرتها، فتستقيم الشخصية، وتقوى وتتضافر جميع الطاقات والاستعدادات، وتتجه إلى تحقيق هدف واحد.

الحوار الخطابي التعريضي:

وهو خطاب من الحق جل جلاله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يتضمن تعريضا بالمشركين كوصف مساوئهم أو ضعفهم، أو الاستهزاء بباطلهم، أو تهديدهم بعذاب الله.

أ- فالتنويه ببعض ترهاتهم، واتهاماتهم الباطلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى:{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور: 52/ 29] ، وفي هذا الشكل من أشكال الحوار الخطابي تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين، وتقوية لعزائم الدعاة إلى الله: كما في الشكل الذي يليه:

ب- والتهديد من الله تعالى، كقوله جل جلاله:{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِين} [القلم: 68/ 44-45] .

ج- ووصف مساوئ بعض المشركين، كقوله تعالى:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 96/ 9-10]، وقوله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى، وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى، أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 53/ 33-38] .

الآثار التربوية:

يلاحظ أن للحوار الخطابي التعريضي آثارًا تربوية في النفس أهمها:

1-

تسلية المؤمنين والدعاة إلى الله تعالى عما يلاقون من عنت، وإرهاب فيسبيل الله، وإشعارهم بأن النتيجة لهم، وأن الله معهم ضد أعمال أعداء الله.

2-

الإيحاء إلى قارئ القرآن بأن تحتقر صفات المشركين، وأعمالهم، وإيقاظ انفعالات الاشمئزاز من باطلهم وكفرهم، حتى تصبح هذه الانفعالات عاطفة متأصلة في نفس الناشئ عن طريق التكرار كما مر معنا.

والإيحاء كما يرى علماء النفس هو: إيصال القناعة بفكرة ما إلى ذهن السامع عن غير طريق التلقين المباشر، فقد يكون عن طريق القصة، أو التعريض، كما رأينا في الآيات السابقة، وهو أشد تأثيرًا في بعض الأحيان من التلقين المباشر.

ص: 176