الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثالثا: هدف التربية الإسلامية
ولما كانت التربية الإسلامية تربية واعية، هادفة، وقد وضع الله أسسها في هذه الشريعة لجميع البشر.
كان لزامًا على الباحث فيها أن يبين هدفها السامي الشامل الذي عينه الله لجميع البشر، قبل الشروع ببيان أساليبها وخصائصها؛ لأن الهدف هو الذي يعين الأساليب، ولو ألقينا نظرة على أسس التربية الإسلامية1، وتصور الإسلام للكون والحياة، ولأهداف الحياة لوجدنا فيها:
أن الله خلق الكون، لهدف معين، وأوجد الإنسان على الأرض ليكون خليفة يحقق طاعة الله، ويهتدي بهديه، وسخر له ما في السموات والأرض، فجعل ذلك كله خادما الإنسان محققا لها، وطلب منه أن يتأمل ما في الكون ليستدل به على عظمة الله، فيدفعه ذلك إلى طاعة الله ومحبته، والخضوع لأوامره ومناجاته، وجعله مستعدًا للخير والشر، وأرسل رسله إلى البشر ليهدوهم إلى عبادته وتوحيده.
وأن الله جعل لهذا الكون ولهذه الحياة الدنيا أجلا ينتهي في وقت محدود عند الله، ثم يفنى الكون وتفنى الحياة الدنيا، ثم يخلق الله الإنسان خلقًا جديدًا، ويخلق كونًا جديدًا، ليحاسب الناس على أعمالهم، وليجازي المسيء الذي كفر بنعمة الله ورسله، وشريعته بالجحيم الدائم، والمحسن الذي آمن بالله وشكره على نعمته، واتبع رسوله وكتابه بالنعيم المقيم الأبدي.
من هذه النظرة الإسلامية إلى الكون يتضح أن الهدف الأساسي لوجود الإنسان في الكون، هو عبادة الله والخضوع له، والخلافة في الأرض ليعمرها بتحقيق شريعة الله وطاعته، وقد صرح القرآن بهذا الهدف في قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 51/ 56] .
وإذا كانت هذه مهمة الإنسان في الحياة، فإن تربيته يجب أن تكون لها نفس الهدف؛ لأن التربية الإسلامية كما عرفناها في أول الفصل الثالث هي:
"تنمية فكر الإنسان وتنظيم سلوكه، وعواطفه، على أساس الدين الإسلامي".
وبذلك "تكون الغاية النهائية للتربية الإسلامية هي تحقيق العبودية لله في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية".
الإسلام، وأهداف التربية الغربية:
بيد أن الاقتصار على هذه الغاية لن يقصر جهد الإنسان على النسك، والمسجد وتلاوة القرآن، كما يبدو للبعض، للوهلة الأولى؛ لأن طاعة الله وعبادته لا تقتصر على النسك والعبادات، بل تشمل الحياة بكل جوانبها، وقد بينا ذلك في الفصل الماضي عندما تعرضنا للعبادة في عداد أسس التربية الإسلامية.
وعلى هذا فجميع الأهداف التربوية التي تدعيها التربية الغربية اليوم، يشملها هذا الهدف الأسمى للتربية الإسلامية، ويسمو بها ويوجهها الوجهة المثالية التي تبعدها عن الانحراف أو الزلل، وتجعلها في خدمة الإنسانية، وتحقيق السعادة للفرد والمجتمع.
1 الفصل الثالث من هذا الكتاب "الأسس الفكرية".
ولبيان ذلك لا بد لنا من وقفة عند كل هدف من هذه الأهداف، لنبين معناه في التربية الغربية، وكيف يتحقق في ظل التربية الإسلامية.
1 -
الإسلام وتحقيق الذات:
ومن أبرز من قال بهذا الهدف التربوي "سير برسي نن"، فقد قال في كتابه "التربية":"إن الذاتية هي الهدف الأسمى الذي تسعى إليه التربية، ولا خير يمكن أن يصيب هذا العالم إلا عن طريق النشاط المطلق للأفراد، رجالا كانوا أو نساء، وإن التربية التي تتخذ مبدأ "تحقيق الذاتية" هدفا لها، هي التربية الوحيدة التي تسير وفق قوانين الطبيعة، والتي تشهد لها الحقائق المستمدة من علم الحياة".
وهذا الهدف يعني أن لكل إنسان بمفرده ذاتية، وخصائص تميزه عن غيره من الناس، والتربية الحقة في رأيهم هي التي تعني بإبراز هذه الخصائص عن طريق إطلاق حرية كل الناس، وإتاحة الفرص الكافية والأوضاع المناسبة لجميع الناشئين، ليحقق كل ناشيء ذاتيته، في جو اجتماعي يناسب الجميع.
نقد هذا الهدف:
يؤخذ على هذا الهدف مأخذان:
الأول أن الحرية أو "النشاط المطلق" للأفراد، كما عبر عنه "برسي نن" يحتاج إلى ضوابط تعصم الأفراد عن الغرور بذاتيتهم، أو الطغيان على غيرهم أو استعمال خصائصهم الذاتية في شر الإنسانية، وضرر المجتمع.
فإذا نشأ كل طفل وهو يرى أن المجتمع كله، والكون كله مجال لذاتيته هو، دون أن يكون لهذه الذاتية هدف أسمى يوجه طاقاتها، فأي مجتمع تخرج لنا هذه التربية؟
والمأخذ الثاني هو أن إطلاق الذاتيات يحتاج إلى هدف مشترك أسمى تحققه هذه الذاتيات، مع بقاء مجالات للتمييز الفردي لكل ذاتية.
وهذا الهدف الأسمى لم ينص عليه القانون بهدف "تحقق الذات"، وإن كان "برسي نن" قد أشار إليه بقوله:"ويخطئ من يعتقد أن نظريتنا هذه لا تميز بين المثل العليا والحسنة للحياة، والمثل الرديئة، ولا تمييز بين أنواع الذاتية التي يجب تشجيعها، وأنواع الذاتية التي يجب إخمادها..".
إلا أنه في هذه الإشارة العابرة لم يعتمد على مبدأ، أو معيار للخير أو الشر، وحتى لو أنه وضع مبدأ، لاختلف في ذلك مع غيره من المربين والفلاسفة، ولا يزال الناس يختلفون، فلا بد من معيار إلهي يجمع عليه البشر في هذا الموضوع؛ لأن معايير الناس تختلف باختلاف ظروفهم الاجتماعية، والنفسية والعائلية، ولا يصلح واحد منها لتربية جميع البشر.
أما كيف يشتمل هدف التربية الإسلامية، وهو إخلاص العبادة لله، على هدف "تحقيق الذات"، فإليك تفصيل ذلك:
أ- عندما كلف الله الإنسان بعبادته، كلفه على أساس أنه مميز بين الخير والشر، وقد بين له نتيجة طريق الخير يوم القيامة، ونتيجة طريق الشر، وفي هذا كل التقدير لذاتية الإنسان، ذلك أن الله جعله مميزًا مختارًا، أي أعطاه حرية الاختيار، ثم بين له مسئولية عن هذا الاختيار.
ب- أنه ترك مجال التسابق إلى الخيرات مفتوحا لجميع الناس، وجعل مبدأ الجزاء على حسب العمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فالله يحاسب على كل مثقال ذرة من أعمال الناس، ثم يضاعف لمن يشاء، لا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، أي بالعمل الذي يحقق الخوف من عقاب الله، والخشوع والطاعة لله.
ج- أنه جعل الهدف الأسمى وهو "طاعة الله وعبادته" هو معيار التمييز بين الذاتية الخيرة، والذاتية الشريرة، أو التمييز بين تحقيق الذاتية في سبل الخير، وتحقيقها في سبل الشر، وتفاصيل هذا المعيار منشورة في كتب الفقه والتوحيد، وفي آيات القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهكذا لم يترك الإسلام هدف تحقيق الذاتية والحرية، مطلقًا من غير ضابط، بل اعتبر ذلك الهدف وسيلة لهدف أسمى منه، وهو في الواقع وسيلة، وليس غاية مطلقة، فإذا سألنا كل ماهر في الطب مثلا، لماذا ينمي مهارته هذه أي يحقق "ذاتيته الطبية"؟؟ لأجاب بحسب غايته الضيقة، إما "لجلب المال"، وإما "للشعور بالتفوق"، أما الطبيب المؤمن فهدفه تحقيق أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتداوي؛ لأن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء.
د- أنه ثبت في بعض الآيات، والأحاديث النبوية ضرورة أن يعمل كل إنسان بحسب قابلياته، واستعدادته الذاتية، كقوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 87/ 1-3] أي قدر لكل كائن استعدادا خاصا به، وهداه إلى سبيل الحياة التي تحقق ذاتيته، وقابلياته واستعدادته.
وقوله سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 9/ 105] .
فالمجتمع المؤمن يرى أعمال أفراده، ويشجع قابلياتهم ويقابلها بالشكر والتقدير، وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"اعملوا فكل ميسر لما خلق له".
أي أن الله خلق كا كائن، وكل إنسان لهدف أو لمهنة، وزوده بقدرات وكفاءة معينة، ثم يسر له من المجالات ما يناسب ذاتيته وكفاءته ومقدرته، ولذلك أمره بالعمل، والسعي لتحقيق مثله الأعلى حسب قدرته وذاتيته.
ومن الكلمات الطيبة الموزونة في هذا المجال قول المربي الكبير، ابن قيم الجوزية، في كتابه "تحفة المودود بأحكام المولود":
"ومما ينبغي أن يعتمد، حال الصبي، وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، مما كان مأذونا منه شرعا، فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غيره، فإنه إن حمل على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيأ له، فإذا رآه حسن الفهم صحيح الإدراك جيد الحفظ واعيا، فهذه من علامات قبوله، وتهيئه للعلم، لينقشه في لوح قلبه ما دام خاليا، فإنه يتمكن فيه ويستقر ويزكو معه، وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها، من الركوب والرمي واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم، ولم يخلق له، مكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك، وأنه لم يخلق لذلك، ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع، ومستعدا لها، قابلا لها، وهي صناعة مباحة نافعة للناس، فليمكنه منها، هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاج إليه في دينه"1.
1 ص144-145 ط المطبعة الهندية 1380هـ على نفقة الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني.
وقال ابن سينا في كتابه "القانون":
"وعلى المؤدب أن يبحث له عن صناعة، فلا يجبره على المعلم إذا كان غير ميال إليه، ولا يتركه يسير مع الهوس، إذ ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له، مواتية، لكن ما شاكل طبيعته، وناسبه، وأنه لو كانت الآداب والصناعات تجيب، وتنتقاد بالطلب دون المشاكلة والملاءمة، إذن ما كان أحد غفلًا من الأدب، وعاريًا من صناعته، وإذن لأجمع الناس على اختيار أشرف الصناعات"1.
2-
الإسلام وهدف النمو:
توجيه الإسلام في جوانب التربية المختلفة:
يرى بعض علماء التربية وفلاسفتها المعاصرون، أن الهدف الأوحد للتربية هو النمو، نمو الإنسان من جميع النواحي العقلية والجسمية والروحية، والاجتماعية، ولكن معنى النمو يحتاج إلى إيضاح: هل النمو مجرد زيادة في الحجم، أو الوزن أو المعلومات والتصورات، أم هو تطور كيفي الأسلوب حياة الناشئ منذ الولادة حتى البلوغ؟ ولحركاته وتصرفاته وسلوكه؟
يجمع علماء التربية اليوم أن الزيادة الكمية وحدها ليست هي معنى النمو الذي تهدف إليه التربية، ولكنهم يختلفون في تطوير سلوك الإنسان.
أ- فبعضهم يرجعه إلى آليات وردود أفعال منعكسة، فيجعلون الإنسان كالمعمل الكبير، كلما ضغط على زر من أزراره تحركت آلة من آلاته، وكل آله تحرك التي تليها، حتى يصل الإنتاج إلى آخر مرحلة، فيخرج إلى يد المستهلك برادا، أو سيارة، أو مكيفا، إلخ.. وهكذ الإنسان كلما أثر فيه مؤثر خارجي سعى إلى تحقيق شهوة من شهواته.
وهؤلاء لا يحتاجون إلى كثير من النقاش، ولا يصمدون أما الاحتجاج بإرادة الإنسان، وتغير الاستجابة من إنسان إلى آخر، بحسب تربية كل إنسان وظروفه الحالية، أو آماله المستقبلة.
1 علم النفس: عبد الرحمن نحلاوي، عبد الكريم عثمان، محمد خير عرقسوسي، ط كلية الشريعة بالرياض ص44.
فمن العلوم أن المؤثر الخارجي الواحد، كرؤية الطعام مثلًا يعطي عدة ردود أفعال مختلفة، كعدم المبالاة: بالنسبة للشبعان؛ والصبر: بالنسبة للصائم؛ والعزوف: بالنسبة لشريف النفس الذي لا يجد الميل الكافي لهذا اللون من الطعام.
وكل من هؤلاء يفكر قبل أن يقدم على الاستجابة، وليس آلة تستجيب بدون تفكير، أو هدف، أو غاية من الحياة.
ب- أما الفريق الثاني فيقولون: أن الإنسان ينمو أي يتطور سلوكه، على أثر ما يتكون عنده من خبرات، فإذا كان الطفل بين أهله ووسخ ثوبه الجديد، مثلا، بالطعام، عابوا عليه ذلك، وعنفوه، وأظهروا أمامه من الانفعالات، ما يجعله يعلق في ذهنه ارتباط الألم النفسي بتوسيخ الثوب الجديد.
هذا الارتباط يسميه "جون ديوي"1 خبرة، وهذه الخبرة بالذات، في هذا المثال لما كانت صادرة عن المجتمع، أمكننا أن نسميها خبرة اجتماعية؛ لأنها تحصر التعامل مع الجماعة، وتتابع خبرات الطفل الاجتماعية، حول السلوك المعيب أمام الضيف، والسلوك المحبب، كالتحية وألفاظها، فنقول: إن الطفل ينمو نموا اجتماعيا أي تزداد خبراته الاجتماعية، وتنمو معها مشاعره الاجتماعية، كالأنس بالآخرين، كالصغار، والخوف من بعض الناس أو من بعض المواقف، والنفور من البعض الآخر وهكذا، وقل مثل هذا في نمو الخبرات الحسابية، واللغوية، والقصصية، والصناعية، واليدوية، وهلم جرا..
نقد هذا الهدف:
ليس من شك في أن تتابع الخبرات ينمي مدارك الناشئ، ويجعل سلوكه أقرب إلى التعايش مع المجتمع، ومع الحضارة ومخترعاتها، ومع ظروف الحياة ومتطلباتها.
ولكن ليست جميع الخبرات سواء في تحقيق خير الإنسانية، وبالتالي ليس كل نمو يستخدم للخير، فبعض عصابات الأشقياء في أمريكا يستخدمون خبراتهم، ونموهم
1 فيلسوف ومرب أمريكي معاصر توفي سنة 1372هـ/ 1952م، وله آراء وكتب في التربية مشهورة، وإليه تنسب طريقة "المشروع" من أهم طرق التربية الغربية.
العقلي ومهاراتهم في السطو على المصارف، أو خطف عظماء الناس، أو أطفال الأغنياء.
فهل يعد هذا هدفًا تربويا؟ إنه في عرف هذه العصابات1 هدف يربون عليه أبناءهم، أو يدربون عملاءهم بل هو هدفهم المفضل، ولكنه في الحقيقة وسيلة للشر، وذلك؛ لأن هذا النمو وتلك الخيرات والمهارات، لم تكن هي الهدف، بل كانت وسيلة لهدف آخر هو الثراء السريع المفاجئ، أو التشفي من بعض الطبقات، أو....
ومن هذا المثال، ومن جميع مواقف الحياة، ندرك أن النمو وسيلة لتحقيق هدف أبعد منه، والنمو سلاح ذو حدين، إذا لم يوجد منذ الصغر نحو هدف أسمى، فقد يستخدمه الناشيء بعد خروجه إلى المجتمع، لتحقيق أغراض دنيئة، أو أعمال ضارة بالآخرين.
والتربية الإسلامية التي تضع كل شيء في موضعه الطبيعي، اعتبرت النمو بجميع جوانبه وسيلة لتحقيق مثلها الأعلى، وهو "العبودية لله وطاعته، وتحقيق عدالته وشريعته في جميع شئون الحياة الفردية والاجتماعية"، فالإسلام يحض على النمو بكل أشكاله، أي أن التربية الإسلامية تشمل رعاية النمو من كل جوانبه: الجسمية، والعقلية، والخلقية، والاجتماعية، والذوقية، والروحية، والوجدانية، مع توجيه هذا النمو تحو تحقيق هدفها الأسمى.
ولكن ذلك يحتاج إلى ربط وإيضاح، نسبطه في الفقرات التالية:
*- التربية الإسلامية والنمو الجسمي.
مما لا شك فيه: أن طاعة الله وعبادته، والدعوة إليه تحتاج إلى جهد، وطاقات جسدية، ولذلك جاء في الحديث الشريف:"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"؛ وأن الانتحار وقتل النفس، وإلحاق أي أذى بالجسم، من الأمور المجرمة التي يعاقب عليها الشرع في الدنيا والآخرة؛ وأن كلا من الصلاة والصيام والحج، فيها تنشيط وتوجيه لبعض طاقات الجسم وأجهزته؛ وأن تغذية الرضيع
1 كلمة عصابة لا يعبر بها عن الشر فقط، فقد جاءت حتى في القرآن لجماعة المسلمين، ولكن اسم الإشارة هنا خصصها.
وإعالة الطفل وإطعامه، وكساءه من الأمور التي يكلف بها الأب، أو النائب عنه، أو الدولة إن فقد العائل.
ثم إن الإسلام حض على بعض الأمور التي تقوي الجسم، كالرمي والفروسية، وندب إلى السباحة، وسمح الرسول للأحباش بممارسة ألعابهم بالحراب، وكان يطل من حجرته، ويتفرج عليها هو والسيدة عائشة.
وصارع الرسول صلى الله عليه وسلم "ركانة"، بطل قومه في ذلك الوقت، فصرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وسابق السيدة عائشة في الجري.
وكان الصحابة عندما يخرجون من صلاة المغرب، يتبارون ويتمرنون على رمي النبال، حتى قال رافع بين خديج:"كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم، "فينصرف أحدنا، وإنه ليبصر موانع نبله" 1، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سباقا للخيل، عن عبد الله بن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي أضمرت من الحفياء، وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق2.
وهكذا نرى أن التربية الإسلامية تضم في طياتها تنمية الجسم، وتربية الجوارح، ولكنها بالمقابل توجه هذه الطاقات نحو حير الإنسان وخير المجتمع، وتحذر من البطش أو الاعتداء.
فللتربية الإسلامية وسيلتان لتوجيه الطاقات الجسمية:
أولاهما: توجيهها نحو كل ما يرضي الله، مع إغاثة الملهوف وإعانة الكل، والجهاد في سبيل الله.
وثانيهما: تحذيرها من كل ما يغضب الله، مع التلويح بالعقوبة لكل بطش، أو أذى أو اعتداء يقوم به أي إنسان مهما بلغت قوته أو مكانته.
*- التربية الإسلامية والنمو العقلي:
العقل هو أهم الطاقات الإنسانية في نظر الإسلام، فجمع أركان الإيمان مبنية على فهم العقل وقناعته.
1 رواه البخاري 1/ 140، ط دار الفكر.
2 رواه البخاري في فتح الباري شرح صحيح البخاري ج1، ط المطبعة السلفية.
لقد خاطب القرآن العقل ليدله على وجود الله، وحض الإنسان على التدبر في الكون، وفي نفسه ليدله على أن الله وحده الذي يستحق العبادة، ولفت النظر إلى قياس البعث في الآخرة على الخلق الأول، والنشأة الأولى، ليبرهن بالاستنتاج العقلي على صحة عقيدة البعث، والجزاء والجزم بها، وأمره أن يتفكر في خلق السماوات والأرض، وينظر في آثار الأقوام السالفة، وأنزل القرآن لنعقل معانيه ونتدبر آياته، وأنكر على الذين لا يستعملون عقولهم في الفهم والتفكير السليم، ووصفهم بالصم والبكم والعمي؛ لأنهم لم يفكروا فيما نقلته إليهم حواسهم من المرئيات والمسموعات، وأبوا أن ينطقوا بالحق الذي يمليه عليهم عقلهم لو سمحوا له بالتفكير والتدبر، فهم عمي عن إبصار الحق، أو ما يؤدي إليه من آيات الله في الآفاق، صم عن سماع الحجج، والتفكير في مصيرهم.
ولو ذهبنا نحصي الآيات التي وردت فيه كلمات "تعقلون، يعقلون" لوجدنا "46" آية، أو موضعا في القرآن و"14" موضعا لكلمة "يتفكرون، تتفكرون" و"13" موضعا وردت في كلمة "يفقهون"، وكل هذه الآيات جاءت إما للحض على التفكير، وإما لمخاطبة العقلاء دون سواهم من الذين لا يريدون أن يعقلوا أو يتفكروا، وورد الحض على تدبر القرآن في أربع مواضع من القرآن.
وورد تخصيص أولي الألباب بالموعظة، والحض على التقوى، والاعتبار بقصص القرآن، وبدلائل قدرة الله في الكون وبالتذكر، والعبرة بالقصاص، وبالهداية "16" مرة، وقد أوردنا عددا من هذه الآيات عندما بحثنا في أسس التربية الإسلامية.
وهكذا نلاحظ أن التربية الإسلامية، في سبيل تحقيق هدفها الأسمى، وهو الإيمان بالله والخضوع له، وتذكر عظمته كلما نظر الإنسان إلى الكون، أو إلى نفسه؛ تدعو العقل إلى ممارسة حقه في البرهان والاقتناع، والتأمل والملاحظة، واستخدام الحجج المنطقية، كما تدعوه إلى استخدام ما سخر الله له في الكون، ودراسة القوى الكونية بقصد معرفة سننها للاستفادة منها، أي أنها تنمي العقل على أفضل أساليب النمو، ولكنها لا تسمح للعقل بالغرور، والتكبر عن قبول الحق، والصمم عن سماع الحجة المنطقية، في سبيل التشبث بالأهواء والشهوات، أو التحجر والتصلب
والاستمرار في الباطل من أجل منصب، أو مال، أو جاه، أو عزة زائفة يبتغيها من وراء هذا الباطل، كالسيطرة على عقول البسطاء بالشعوذة والتخريف.
فالتربية الإسلامية تنمي العقل على التفكير السليم، والتواضع، والتسليم بالحق، والأمانة العلمية، وابتغاء الحق دون الهوى، والانتفاع بما يعلم، لا الاكتفاء بالعلم النظري، بل لا بد من التطبيق العملي، وقد بينا ذلك عند ذكر النتائج التربوية لبعض أسس التربية الإسلامية، فثبت بذلك أن التربية الإسلامية، وإن لم تنص صراحة، على تنمية العقل، لكن هدفها البعيد يشمل النمو العقلي كما شمل النمو الجسمي، وهي توجه هذا الجانب العقلي من جوانب التربية، كما رأينا، نحو الدقة في التفكير والأمانة، والتطبيق العملي، ونحو العمل على معرفة الله في آثاره وآياته ومخلوقاته، ونحو التبصر والهدى، والبعد عن الهوى، وعن الاتباع الأعمى، ونحو طلب الدليل والمعرفة اليقينية، والبعد عن الظن.
*- التربية الإسلامية، والنمو الاجتماعي:
شمول الهدف الإسلامي للجانب الاجتماعي من جوانب التربية:
معنى النمو الاجتماعي:
يقصد بالنمو الاجتماعي، أو الجانب الاجتماعي في التربية عدة معان أهمها:
1-
نمو المشاعر الاجتماعية كالشعور بالانتماء، والميل الفطري إلى الجماعة وحب التقليد.
2-
نمو الخبرات الاجتماعية، وما ينتج عنها من أساليب التعايش مع الجماعة، ومعرفة ما تحرمه الجماعة، وما تستحبه، وما توجبه على أفرادها، وأساليب السلوك في المجتمع، وآداب الحياة المشتركة.
3-
نمو التصورات الاجتماعية والأفكار، والأهداف المشتركة التي تنعكس في نفوس الأفراد، نتيجة للتربية الاجتماعية التي يتلقونها، وللمشاركة في أعياد الأمة أو عبادتها، أو مظاهر حياتها الجماعية، أو جهودها الاقتصادية أو الحربية، ونحن هنا سنتناول مدى شمول التربية الإسلامية، بهدفها الأسمى، لهذه المعاني والجوانب الاجتماعيه.
إن تربية الإنسان على إخلاص الخضوع، والطاعة، والعبادة لله وحده، في جميع أمور الحياة سينتهي إلى تنمية المشاعر الاجتماعية بشكلها المزدهر المتفتح الخير، وأول ما يقرره علماء الاجتماع، أن المجتمع إنما يتكون باجتماع مجموعة من الأفراد، واشتراكهم على تصورات وأهداف ومصالح، يفهمونها فهمًا موحدًا ويعملون لها جميعًا، فيؤلف ذلك بينهم بروابط تربط جميع الأفراد، وتشدهم بعضًا إلى بعض، وتحبب إليهم العيش المشترك، والتعاون والتكافل فيما بينهم.
وهذا الهدف الذي عرفناه للتربية الإسلامية، من أفضل التصورات المشتركة وأقدرها على لم شعت الأفراد، وربط قلوبهم وعواطفهم برباط متين لا يتزعزع، ثابت لا يتغير ما دام الأفراد يتعهدونه بالتزام ما ينتج عنه من سلوك عملي، ومن وعي وتقدير لظروف الحياة، على ضوء ما رأيناه من التصورات الإسلامية للكون وللحياة، ومن أركان العقيدة الإسلامية، أن جميع الأسس الفكرية والتعبدية، والتشريعية للتربية الإسلامية، وقد عرضناها في الفصل السابق، تؤلف سلسلة من التصورات المشتركة للمجتمع المسلم، ولكنها تمتاز عن تصورات سائر المجتمعات، غير الإسلامية بالعمق والوعي، والوضوح، والثبات والأصالة والمعقولية.
فبينما تجد المجتمعات الأخرى، يتلقى أفرادها تقاليدهم، وتصوراتهم المشتركة الاجتماعية، بتقليد أعمى وحماسة جماهيرية هوجاء؛ تجد التربية الإسلامية تشترط في أفرادها أولا القناعة الفكرية، ثم المشاركة الجماعية في العبادات والأعياد، على ضوء من تلك القناعة، ووضوح الهدف المشترك، والشعور بسمو هذا الهدف، إلى جانب توفر الحماسة الجماعية الهادفة، كما في التكبير المشترك في العيد الأضحى، وفي أثناء القتال والجهاد، ونحو ذلك، وصلاة الجماعة بحركات موحدة، وصلوات الأعياد، والجمع وخطبها، وحتى الصلوات الخمس يجب أن تكون في جماعة.
وهكذا نجد أن التصورات المشتركة الإسلامية، تكون الجانب الأكبر من ثقافة المسلم وتفكيره، والضابط الأول لسلوكه الاجتماعي، والوازع النفسي العميق، الذي لا يقتصر تأثيره على التواجد الجماعي، بل يتعداه إلى كل أحوال الناشئ الفردية والجماعية.
وللمجتمع في التربية الإسلامية، سلطة عظيمة في حماية الشريعة والعقيدة، التي تعتنقها الجماعة، وهو لا يتنازل عن هذه السلطة، ما دامت مستمدة من الله، الذي أوكل إلى الجماعة مهمة التواصي بالحق، والتناصح والتناهي عن المنكر، وقد بسطنا كل ذلك في حينه، مع بعض الأدلة من القرآن والحديث.
والتربية الإسلامية، بهدفنا المشترك وهو إخلاص العبودية لله، توحد فكرة الانتماء، وتربطها بهذا الهدف الأسمى، فجميع الناس ينتمون إلى أمة واحدة، هي التي اعتنقت عقيدة التوحيد، واتخذت طريق الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولقد كان العرب قبل الإسلام لا يعرفون الانتماء إلى أمة واحدة حتى جاء القرآن يصرح بها:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 3/ 110] .
كما يصرح بالولاء لله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 10/ 62-63] .
وبأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ولا يجوز أن يتخذوا لأنفسهم أولياء من دون المؤمنين؛ لأن أخوة الإيمان هي التي تربطهم.
وهكذا، وبتربية هذه المعاني في نفس الناشئ ترعى التربية الإسلامية تنمية الأواصر الاجتماعية عنده، على أساس هدف نبيل، لا عنصرية فيه ولا ظلم، ولا طغيان على الشعوب الأخرى، لمجرد أنها من طينة أخرى، فالانتساب في التربية الإسلامية إنما يكون للدين، وليس للغة أو القومية.