الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولا: أثر الشريعة في تربية الفكر
الشريعة الإسلامية أساس عظيم من أسس التربية الإسامية، فهي بمعناها القرآني الواسع بيان للعقيدة، وللعبادة، ولتنظيم الحياة، ولتحديد تنظيم جميع العلاقات الإنسانية.
1-
فهي أساس فكري يشمل كل ما رأينا من التصورات الفكرية عن الكون والحياة والإنسان، إنها تشمل موقف الإسلام من الإنسان أو نظرته إليه، ونظرة الإسلام إلى الكون والوجود، وعلاقة المسلم بذلك كله.
وهي بهذا ترسم للمسلم صورة منطقية متكاملة ليتصور علاقته بالكون، وليعرف مبدأه، ومصيره وقيمته ومكانته، ووظيفته، وهدفه، وهي بهذا تصوغ عقل المسلم صياغة خاصة، تجعل قدرته على العطاء أعظم من طاقاته، وأمله أوسع من إمكانياته، مدى تفكيره أوسع من إحساساته.
2-
كما أنها تقدم للمسلم قواعد ونظما سلوكية تجعل حياته مثالا للدقة، والنظام والأمانة والخلق الرفيع، والمنهجية والوعي السليم، والتفكير في كل ما يعمل أو يريد عمله قبل الإقدام عليه، أي التصميم قبل التنفيذ، وهذا يربي عند المسلم عادة عظيمة ومفيدة، هي أن يفكر دائما قبل أن يعمل، وأن يكون هادفا ومتقنا، ومنتجا في كل ما يعمل.
3-
الشريعة تربي الإنسان على التفكير المنطقي عن طريق استنباط الأحكام غير أن أحكام الشريعة، كما جاءت في القرآن والسنة، بعمومها وشمولها، لم توضع لعلاج مواقف فردية، أو حالات جزئية بخصوصها، بل وضعت ليستفاد منها في كل العصور والأزمان، ولدى كل موقف يصادفه فرد، أو جماعة من بني الإنسان.
ولذلك قال الفقهاء، وعلماء الأصول:"العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".
ومن ذلك كانت مرونة الشريعة الإسلامية، وحيويتها، وقدرتها الدائمة على العطاء، وإصدار الأحكام في أحلك الظروف وأصعبها، وتقديم العلاج لكل داء اجتماعي، أو نفسي.
ومن هذه المرونة نشأت مرونة عقل المسلم، وقدرته النادرة على حسن المحاكمة والاستدلال؛ لأنه يتعلم ذلك منذ أن يحفظ في طفولته آيات القرآن، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ويفهمها، فيفكر في تطبيقها على واقعة، فإذا كانت الآية أو الحديث قاعدة عامة، حصل القياس، أو ما يسميه المناطقة بـ"الاستنتاج"، وقام به العقل دون تصنع أو عناء.
لو قرأ الطفل مثلا قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 3/ 185] ، وفهم معناها، ثم سئل عن نفسه "ما مصيرها على ضوء هذه الآية؟ " لربط نفسه بمصير كل النفوس، ولطبق حكم هذه الآية العام على حالته الخاصة، أو حالة قريب له كان قد توفي من قريب أو بعيد.
4-
الشريعة تخرج شعبًا متحضرًا حضارة راقية.
وفهم الشريعة الإسلامية يحتاج إلى تعلم القراءة والكتاة، وإلى تلاوة القرآن، وتدبر أحكامه ومعانيه، وإلى تعلم الحساب "لعلم الفرائض"، والتاريخ "لفهم السيرة وآيات الجهاد"، وإلى معرفة جغرافية الجزيرة العربية، وغيرها، لمعرفة مواطن الأقوام البادئة الذين عذبهم الله كقوم شعيب أهل "مدين"، وقوم عاد وغيرهم ممن تجبروا في الأرض، وعتوا عن أمر ربهم، وكقوم فرعون في مصر.
وقد حض القرآن على التفقه في الدين وتعلم الشريعة، فقال تعالى:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 9/ 122] .
وقد جمعت هذه الآية مطلبين: التعلم والتعليم، فكان من خصائص هذه الشريعة، توسيع الآفاق الفكرية، وتثقيف العقل البشري، والحض على طلب
العلم، بل جعلته فريضة، فبلغت الأمة الإسلامية درجة من الحضارة العلمية لم تبلغها آنذاك أمة غيرها.
وكانت أستاذة الغرب، في اكتشاف وحدة قوانين الكون، وأهمية التجريب للتأكد من حصة الحقائق العلمية، وفي إيجاد علم التاريخ، وضوابطه وأسانيده، وعلوم اللغة وأوزان الشعر، وفي الطب، والفلك، والجبر، وعلم الضوء، وكانت الشريعة الإسلامية، والرغبة في فهمها وتطبيقها، هي المبنع الثري الذي انبجست منه كل هذه العلوم، وغيرها كثير مما لا يتسع له البحث هنا؟
هذه بعض الخصائص الفكرية للشريعة الإسلامية، وهذه أهم نتائجها في تربية عقل المسلم:
1-
على الشمول فهو ينظر إلى نفسه، وحياته نظرة كلية متعلقة بتصوره الشامل لهذا الكون، ولجميع جوانب الدنيا والآخرة، كما علمه القرآن.
2-
وعلى الوعي الفكري لكل ما يعمل، أو يقول أو يريد، أو يكتب.
3-
وعلى التفكير المنطقي، والقدرة على المحاكمة والاستنتاج، والاستقراء كما علمه القرآن.
4-
وعلى الرغبة في التعلم والوصول إلى الحقائق العلمية، مما يؤدي إلى مجتمع ذي حضارة فكرية، ونظم تعليمية وتربوية لم توجد عند غيره.
غير أن هذه الأمور قد جاءت خلال تعلم الشريعة، عفوا من غير قصد، ودون أن تنص الأحكام الشرعية على كثير منها، وإن كانت الشريعة بمعناها الواسع الذي يضم تصور الإنسان للكون ويضم العقيدة، والإيمان بالغيب، وقد أمرتنا بطلب العلمِ، كما أمرتنا بالنظر في الكون وفي أنفسنا، وبالسير في الأرض، ويأخذ العبرة من التاريخ.
ولما كنا قد استوفينا هذه المعاني في البحث الأول من هذا الفصل، فقد بقي علينا الآن أن نبحث في الأثر المباشر للأحكام الشرعية، وإحاطتها بحياة الفرد، وحياة المجتمع، وما تركت فيهما من توجيه سليم، وما رسمته من أطر وخطوط كبرى لحياة آمنة مستقرة، قائمة على العدالة ينشأ في ظلها الفرد، ويتعايش بل يتراحم، على أساسها المجتمع.