الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: أثر الشريعة في تربية الخلق
والشريعة الإسلامية لها جانب تربوي، يتضح في أسلوبها حين تعرض على طريق الترغيب والترهيب، أو أخذ العبرة من التاريخ، أو الحض على التقوى، ومخافة الله، ولذلك نجد كثيرا من الأحكام يعللها القرآن تارة بـ {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة: 2/ 21] ومواضع كثيرة في القرآن، وتارة بالتطهير والتزكية:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 9/ 103] وتارة.. وتارة..
وللشريعة جانب تطبيقي يتجلى في الأمر والنهي، والتحريم، والتحليل، والإباحة والحظر، والحدود، والعقوبات، والقصاص، والإرشاد إلى كيفيات وأساليب عملية، أو تعاملية معينة، في البيع والزواج وسائر العقود، وكثيرا من أمور الحياة.
1-
الشريعة ضابط خلقي للفرد:
عندما تتمكن تعاليم الشريعة من نفس الفرد، ومشاعره تصبح بمثابة ضابط خلقي، يحاكم المرء نفسه إليه، عندما يقف أمام أمور مشتبهات، كبعض أساليب البيع والشراء، وكذم الإنسان يجاهر بالمعصية، ونحو ذلك، والضابط الخلقي هنا غير الوازع التربوي الديني، فالوازع يبعدك عن موضوع المحرمات بالكلية، ولكن الضابط هو الذي يقول لك بدقة: هذه حدود المحرمات في البيوع، فلا تقترب منها، والنظرة سهم مسموم فصن نفسك عن النظر إلى الأجنبيات، فإذا اضطررت من أجل معرفة الشخص، فلك النظرة الأولى.
وكان المجتمع الإسلامي يشترط حدا أدى من معرفة أحكام الشرع، فلا يدخل السوق، مثلا، من لم يعرف الحلال والحرام من البيوع.
لذلك كانت تربية هذا الضابط تتم في حلقات العلم، وكان جميع الناس يقضون أمسياتهم في حلقات العلم، فلا عمل بعد الغروب إلا طلب العلم، والمساجد التي تتسع لصلاة جميع الناس، هي التي تتسع لتعليم كل الناس، والدافع الحقيقي لهذا الضابط هو الخوف من الله، فلا يحاول المسلم التهرب من الشرع أو الاحتيال عليه، وهذه هي الميزة الأساسية التي تميز الشرع عن القانون.
2-
الشريعة ضابط اجتماعي:
وعندما يكثر تداول أحكام الشريعة، على المستوى الاجتماعي، في حلقات الوعظ وخطب المنابر، تصبح بعض هذه الأحكام أعرافا، ومصطلحات اجتماعية فعندما كنت طفلا كان يعير بعض الناس في دمشق بأنه "فوايزي" أي ربوي يأكل الربا، وكانت هذه اللفظة بغيضة مقيته، إذا أطلقت على شخص تحاشاه الناس، وهذا يدل على أن المجتمع يدافع عن كيانه الديني حين يمنع المجاهرة باقتراف المحرمات، فيحتقر السكير والفاسق، والمجاهر بالمعاصي، والمرأة المومس.
وقد ربى الإسلام هذه الفطرة الاجتماعية، فنظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحض على ذلك، وجعل تركه من علاات انهيار المجتمع، قال تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 5/ 78-79]، وعن أبي بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه"، أخرجه الإمام أحمد في المسند "1/ 1".
3-
الشريعة ضابط سياسي:
عندما تتولى السلطة تنفيذ أوامر الشريعة، تصبح تعاليم الشريعة، سلوكا سياسيا تسلكه الدولة مع جميع رعاياها، فتقطع يد السارق، وترجم الزاني وتمنع الخمر، والتبرج، والخلاعة، والظلم، والبغي بغير الحق، وتراقب الباعة فتمنع الغش والاحتكار، وتنشر العلم، وتحيط المدارس بعناية وتوجيهات دينية خاصة، وترسل الدعاة إلى الله، وترفع راية الإسلام، وتوجه وسائل الإعلام توجيها إسلاميا.
ويتربى الناشئ في هذا الجو على المعاني الإسلامية يستقيها من منزلة، ومدرسته، ومن النداءات التي تتعالى في المآذن ومن منابر المساجد، ومن الإذاعة، والرائي، ومن كل شيء يحيط به، فلا يقع بصره إلا على معروف، ولا يطوق سمعه شيء ينكره الإسلام، أو يغضب الله، ولا تحدثه نفسه بمعصية، ما دامت هيبة الدولة المسلمة، وهيبة المجتمع المسلم يردعانه عن ذلك.
فإذا وقع في معصية، سترها وندم وتاب، وعاد إلى جادة الصواب، فيتوب الله عليه إن كان لا يجهر بها، ثم أقلع عنها.
وهكذا نرى أن الشريعة الإسلامية تربي الناس بثلاثة أساليب:
1-
أسلوب تربوي نفسي ينبع من داخل النفس، ضابطه الخوف من الله ومحبته، وتطبيق شريعته اتقاء لغضبه، وعذابه ورغبة في ثوابه، وهذا الأسلوب قد تخبو جذوته أحيانًا عند بعض الناس، أو يفقده من لم يتمكن الإيمان من قلبه، فتسول نفسه له العبث بحرمات الناس، ويطمع بالمال المحرم أو الشهوات المحرمة من كان في قلبه مرض، فتعالجه الشريعة بالأسلوب الثاني.
2-
التناصح الاجتماعي والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فالمجتمع الغيور على شريعة الله، وحرماته لا يدع منكرًا، ولا يقر على ترك أصل من أصول الإسلام كالصلاة والزكاة والصوم، والجهاد، بل يأمر المقصر، ويأخذ بيده، ليعينه على نفسه، أو على تربية أولاده.
3-
وازع السلطة التنفيذية أي الدولة المسلمة التي تنفذ أحكام الشريعة، فيستتب الأمن، ويسود سلطان الشرع، وينعم الناس بعدل الشريعة.
وهذه الأساليب الثلاثة تتعاون على تحقيق المعاني الإسلامية، وتطبيقها في حياة الفرد والجماعة والدولة، فتصبح هذه الحياة أقرب ما تكون إلى الكمال، والسعادة والحضارة والرخاء، والتكافل والطمأنينة والاستقامة.
وتتبع أصالة الشريعة الإسلامية من اعتمادها على الإيمان بالله، وعبادته، والخوف منه، وعن هذه الأصالة يصدر المجتمع في تقاليده وأعرافه الإسلامية، كما يصدر الفرد في سلوكه، وأمانته، وانضباطه الذاتي، وإقباله على تعلم الشريعة، وتطبيق أحكامها على نفسه، دون حاجة إلى رقيب، أو جلاد رهيب، يدعه إلى تنفيذ الأوامر دعا، كما يحدث لدى الأمم ذات القوانين الوضعية.
وهذه هي أعظم ميزة تميز الشرع الإسلامي عن القوانين البشرية الوضعية.