الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأسس التعبدية:
تمهيد في معنى العبادة:
لكل نظام فكري يراد له البقاء، رياضات وأساليب سلوكية، تغلب عليها في هذا العصر الصفة الجماعية، وتكون عادة مصحوبة بهتافات، وجهود وحركات جسمية منظمة، ويؤدونها جماعات جماعات، كل جماعة بحسب عمرها وثقافتها، ومكانتها، وذلك ليواكبوا بين انطباعات الإنسان النفسية والفكرية، وبين طاقاته الجسمية، اعترافا منهم بأن الكائن البشري وحده لا تتجزأ، بجسمه وعقله وروحه.
بيد أن الإسلام قد سبق إلى هذا الاعتبار، وأوجد تكاملًا تربويا لم يتوصل إليه أن نظام من هذه الأنظمة.
فبينما تبدو رياضات اليوم، وتجمعات الناس نوعا من العبث وإضاعة الوقت، ليس بينها وبين الفكر السليم، والمنطق، والفطرة النفسية رابط حقيقي متين كـ:{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ} [الأعراف: 7/ 51] .
تظهر لنا العبادات والنسك الإسلامية، أعمالا تعبدية، ورياضيات روحية، عميقة الجذور، ترتبط بمعان سامية، تنبع من فطرة النفس، وبذكريات عظيمة هزت التاريخ، وتقوم بتنظيم حياة المسلم اليومية "بالصلاة"، وحياته الغذائية السنوية "بالصوم"، وحياة المجتمع المسلم الاقتصادية المتكافلة "بالزكاة"، كما تقوم بتنظيم وإحياء وحده المجتمع الإسلامي الكبير، والروابط والمشاعر الاجتماعية للأمة الإسلامية كله في شتى أصقاع الأرض "بالحج".
ولكن السر في هذه العبادات، يكمن في أنها كلها ترتبط بمعنى واحد، هو الذي وحد نوازع الإنسان كلها، وهو الذي ألف بين جميع أفراد المجتمع المسلم، إنه
العبودية لله وحده، وتلقي التعليم والأوامر من الله وحده في أمر الدنيا، والآخرة كله.
{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 8/ 63] .
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 6/ 162-163] .
وما هذه اللحظات والدقائق، وبعض الساعات أو الأيام، التي تشغلها العبادات في حياة المسلم، إلا تذكيرًا بهذه الصلة الدائمة بالله، وترويضًا للنفس على الخضوع الدائم لأوامر الله، فالمسلم يستيقظ لذكر الله، عند الفجر، وينام بأمر الله، بعد صلاة العشاء، ويأكل ما أباحه الله، ويمسك عن الطعام عندما يمنعه الله عن الطعام، ويعطي من المال ما توجبه عليه شريعة الله، ويتمتع بالمال كما يسمح له الله، ويأتي شهوته من حيث أمره الله، ويمتنع عن الشهوات الدنيئة الضارة التي حمانا منها الله، فإذا خرج من بيته ذكر الله بدعاء خاص، وإذا دخله ذكر الله بدعاء آخر، وإذا نام ذكر الله، وغذا رزق مولودًا ذكر الله، وإذا دخل السوق للكسب ذكر الله، إلخ..
الأثر التربوي للعبادة:
1-
العبادات في الإسلام تعلمنا الوعي الفكري الدائم، فما من عبادة يقبلها الله إلا إذا اتصفت بشرطين:
أ- إخلاص النية والطاعة لله.
ب- والإتيان بالطاعة على الشكل والأسلوب الذي سنه رسول الله، ثم الاستمرار على هذين الشرطين حتى تنتهي العبادة أي:
1-
الاستمرار في الخضوع لله والتفكير بعظمته، والشعور بالانقياد له.
2-
والاستمرار في وعي الإنسان لعبادته، وتمشيها مع الشريعة والتعاليم الشرعية بشكها وموضوعها، وما دامت كل أعمال المسلم عبادات
يقصد بها وجه الله، فإن هذه الوعي الفكري يجعل الإنسان المسلم إنسانا منطقيا واعيا في كل أمور حياته، إنسانا منهجيا، لا يقوم بعمل إلا ضمن خطة، ووعي وتفكير.
لا يخدع المسلم؛ لأنه في يقظة دائمة يراقب الله في كل أعماله، وهذا هو لب العبادة؛ ولأنه يعبد الله على ضوء خطة مرسومة، ويقيم حياته على ضوء هذه الخطة، إنها الشريعة الإسلامية.
2-
كما أن العبادات تربي المسلم على الارتباط بالمسلمين، حيثما كان، ارتباطا واعيا منظما متينا مبنيا على عاطفة صادقة، وثقة بالنفس عظمية، فهو ارتباط واع؛ لأنه ليس طاعة عمياء للمجتمع، ولا هياجا جماهيريا عابرا، يخبط خبط عشواء! إن الأعمال التعبدية التي يأتيها المسلم مع المسلمين تكسبه لذة الشعور بقوة الجماعة، وعواطفها المشتركة، إلى جانب لذة المناجاة الفردية، والشعور بقوة الذات المسلمة التي تستمد قوتها من خالقها بالدرجة الأولى، فإذا انفرط عقد المسلمين أو منعوا من الاجتماع لسبب طارئ، لم يفقد أفرادهم مقوماتهم الذاتية، من جهة، ولكنهم مع ذلك يعودون إلى التجمع من جديد على أساس عقيدتهم من جهة ثانية، لعلمهم بأن عباداتهم منفردين لا تكون كاملة، ما داموا قادرين على التجمع، بل إن بعض العبادات قائمة على التجمع كالحج والزكاة، فمهما منعوا من إقامة المجتمع المسلم فلا بد لهم من العودة إليه، وتوحيد القلوب والنفوس المؤمنة، حتى تصبح كالجسد الواحد.
3-
والعبادة في الإسلام تربي النفس المسلمة على العزة والكرامة، وإباء الضيم، والاعتزاز بالله؛ لأنه أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم، بيده رقاب الجبابرة يقصمهم متى شاء، وبيده الموت والحياة، والرزق، والملك والجاه والسلطان، هذه المعاني وأمثالها يرددها المسلم دائما في عباداته اليومية1، والسنوية ويرددها الخطباء في الاجتماعات التعبدية الأسبوعية، فإذا استيقظت وعاشت في نفوس المجتمع المسلم
1 حتى أنه يكبر الله في صلواته كل يوم زهاء مئة مرة، ويسمع تكبير الله على المآذن نحو ثلاثين مرة كل نهار وليلة، فيرددها مع المؤذن.
وفي حياة أفراده وتعاملهم وعلاقتهم، استقام كل إنسان ولم حدوده، فلا ظلم ولا استعلاء، ولا غمط ولا استغلال، ولا ذل ولا استعباد، ولا تفريق بين الطبقات، الكل تحت لواء الله، والله أكبر من أن يرضى لعباده الظلم.
4-
والعبادات المستمرة في جماعة واحدة، تحت لواء عقيدة واحدة، حيث الجميع يناجون ربا واحدا، ثم إذا فرغوا تعارفوا وتناصحوا وتشاوروا، قبل أن ينفضوا من اجتماعهم.
كل ذلك يعلم المسلمين الحياة الشورية، القائمة على التعاون، والمساواة، والعدل؛ المساواة أمام القانون؛ لأنهم متساوون من حيث المبدأ أمام الله الذي أنزل القانون والتشريع، كما أن العبادة تربيهم على العدالة في المعاملة بإعطاء كل ذي حق حقه، وحقه في المجتمع هو العمل اللائق به وبمهاراته وقدراته، وتقواه وصلاحه، سواء كان ينتسب لهذه الاسرة أو تلك.
5-
العبادة في الإسلام تربي عند المسلم قدرا من الفضائل الثابتة المطلقة1، لا تقف عند حدود الأرض، أو القوم والمصلحة القومية، أو الحزب الحاكم، ولكنها تعم التعامل مع البشرية جمعاء، فالمسلم هو المسلم بأخلاقه وإنسانيته، أتى سار، وحيثما حل؛ لأن ربه واحد يراقبه حيثما كان.
أما البريطاني مثلا، فإنه قد لا يسرق، ولا يكذب، ولا يغش، ولا يقتل، ولا يغتصب، ولكن ذلك كله، يكون منه في حدود بريطانيا، وفي مصلحة القومية البريطانية، أما إذا انتقل خارج الحدود البريطانية، خارج الوثن الذي ربي على عبادته، وقامت تربيته على أساسه، فهما هنا تفجؤك منه أخلاق لم تعهدها منه: الأنانية اليغيضة والجشع، والغش والخداع، وربما قتل الناس ونهب أموالهم وخيراتهم بالمليارات:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر
…
وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر..!
وفي هذا خير مثل على الفارق الحاسم بين منهج التربية الإسلامية، ومناهج التربية غير الإسلامية.
1 محمد قطب: منهج التربية الإسلامية 39-40.
وفيه أوضح دليل على عظمة منهج الإسلام التربوي حين يقيمه الإسلام على أساس عبادة الله بمعناها الواسع الشامل، وعلى أساس الصلة الدائمة بالله، لا على أساس الأمور الوضعية البشرية، والاعتبارات الأرضية الدنيوية.
6-
والتربية على أساس العبادة تزود الإنسان دائما بشحنات متتالية من القوة المستمدة من قوة الله، والثقة بالنفس المستمدة من الثقة بالله، والأمل بالمستقبل، المستمد من الأمل بنصر الله وثواب الجنة، والوعي والنور المستمد من نور الله.
هذه الشحنات التي تدفع المسلم دائما إلى الإمام، وتهبه القدرة المستمرة على الدأب والجهد، وتقديم كل طاقاته حية منتجة، واعية مستمرة.
والإسلام يحرص حرصا شديدا على استمرار هذه الشحنة الحية التي تعبئ القلب، وتنير له الطريق في أصعب الظروف وأحلكها، فينهض من كونه كلما تعثر، ويستنير بنور العبادة والصلة بالله كلما أظلم ما حوله، حتى يقصد عبادة الله في كل أعماله، ومعاملاته وقضاء مآربه.
والإسلام صريح في اعتبار العمل هو العبادة، ما دام القلب يتجه فيه إلى الله:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون} [البقرة: 2/ 177] .
هذا هو منهج العبادة الذي يرسمه الإسلام، ويقيم عليه أسلوبه ومنهجه التربوي مشترطا فيه الصدق مع الله، والتقوى لله، أي الصلة الدائمة بالله1.
7-
ثم إن تربية المسلم بالعبادة تجدد نفسه باستمرار، لا بما تمنحه العبادة من شحنات من النور، والقوة والعاطفة، والأمل فحسب.
بل بالتوبة التي تزيل عن قلبه، وتصوراته ما قد يعلق بهما من أدناس، وتمحو من جوارجه أثر ما قد يكسب من آثام أو أخطاء.
1 هذه الفقرة مستمدة من كتاب منهج التربية الإسلامية، محمد قطب 41-42.
واكتساب الإثم يعني انحراف الإنسان عن جادة الصواب، أي عن طاعة الله وعبادته التي أخذ بها نفسه، منذ أن آمن بالله حق الإيمان، وأسلم وجهه لله، أي استسلم لأوامره ومناجاته، والخضوع له، والتوبة من الذنب أو الإثم هي الرجوع عن ارتكابه، والعزم على تركه وأن يستبدل به الإنسان عملًا صالحًا.
وهي جزء من العبادة؛ لأنها تقوم على تذكرة رقابة الله، ونعمه وجبروته وعقابه، وهذا التذكير يدعو إلى الندم على ما فرط الإنسان في جنب الله، والإقلاع عن الذنب، والقيام بالعمل الصالح.
بل هي عبادة راتبة يومية ندب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يستغفر بعد كل فريضة، وكان يستغفر كل يوم سبعين مرة.
وقد أمر بها القرآن قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 24/ 31] .
كما أخذ الله العهد على نفسه أن يمحوا أخطاء التائبين، ويغفر لهم:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 6/ 54] .
فالتوبة تطهير مستمر للنفس، ورجوع مستمر إلى الله، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل صيغة للتوبة، والاستغفار فقال:
"سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"، ومن قالها حين يصبح موقنا بها، فمات من يومه دخل الجنة، ومن قالها حين يمسي موقنا بها، فمات من ليلته دخل الجنة" 1.
وقد ثبت لدى علماء النفس، والطب النفسي أو الصحة النفسية، أن التوبة تشفي من كثير من الأزمات، والأمراض النفسية؛ لأنها تعين على إعادة تكيف الإنسان مع نفسه، ومع مبادئه ومثله الأعلى، ومع مجتمعه القائم على المثل الأعلى، الذي هو عباة الله في النظام الإسلامي، ومراقبته، كما أنها تربي المجتمع على التسامح بين أفراده.
وفي هذا المعنى "التسامح" يقول الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 24/ 22] .
وكان أبو بكر قد أقسم ألا يعود إلى إعطاء "مسطح" الذي روج الإفك، وهو اتهام عائشة رضي الله عنها، وألا يتصدق عليه بعد ذلك، وكان قبل ذلك يتعهده بالصدقة، فلما نزلت هذه الآية في حق أبي بكر وأمثاله قالوا:"بلى نحب أن يغفر الله لنا"، وعفى وصفح عمن تكلم في عرض ابنته.
لأن التوبة وطلب المغفرة من قد علمته أن يصفح عن الناس كما يحب أن يغفر الله، ويصفح عنه.
1 زاد المعاد ص16، تأليف ابن قيم الجوزية، مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثانية 1369هـ، وقد أخرجه البخاري.
انظر الكلم الطيب، لابن تيمية ص32 منشورات الكتب الإسلامي 1950م.