المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الأول: آدابهما في نفسهما وآدابهما في مجلس الدرس - العقد التليد في اختصار الدر النضيد = المعيد في أدب المفيد والمستفيد

[العلموي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مدخل

- ‌مقدمة التحقيق:

- ‌مصادر ترجمة المؤلف بدر الدين الغزي:

- ‌مصادر ترجمة صاحب المختصر عبد الباسط العلموي:

- ‌ترجمة مؤلف المختصر:

- ‌العلموي وكتابه التلخيصي:

- ‌تحليل كتاب "المعيد" للعلموي:

- ‌وصف النسخة المخطوطة:

- ‌النص المحقق:

- ‌المقدمة: في الأمر بالإخلاص والصدق وإحضار النية:

- ‌الباب الأول: في فضيلة الاشتغال بالعلم على ما تقدم في ترتيبه

- ‌الفصل الأول: في فضيلة الاشتغال بالعلم وتصنيفه وتعلمه

- ‌الفصل الثاني: في تحذير مَن أراد بعلمه غير الله تعالى

- ‌الفصل الثالث: في تحذير مَن آذى أو انتقص عالما

- ‌الفصل الأول: في أقسام العلم الشرعي وهي ثلاثة: تفسير، وحديث، وفقه

- ‌الباب الثالث: في آداب المعلم والمتعلم

- ‌النوع الأول: آدابهما في نفسهما وآدابهما في جلس الدرس

- ‌القسم الأول: آدابهما في نفسهما وآدابهما في مجلس الدرس

- ‌القسم الثاني: آدابهما في درسهما واشتغالهما

- ‌النوع الثاني: آداب يختص بها المعلم وقد يشاركه في بعضها المتعلم

- ‌القسم الأول: آدابه في نفسه وتقدم منها جملة في الآداب المشتركة

- ‌القسم الثاني: آداب المعلم مع طلبته

- ‌القسم الثالث: آدابه في درسه

- ‌النوع الثالث: آداب يختص بها المتعلم

- ‌القسم الأول: آدابه في نفسه

- ‌القسم الثاني: آدابه مع شيخه وقدوته وما يجب عليه من تعظيم حرمته

- ‌الباب الرابع: في أدب المفتي والفتوى والمستفتي

- ‌مدخل

- ‌النوع الأول: في الأمور المعتبرة في كل مفتٍ

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: في الأمور المعتبرة في كل مفتٍ:

- ‌الفصل الثاني: في تقسيم المفتين

- ‌النوع الثاني: في أحكام المفتي وآدابه

- ‌النوع الثالث: في آداب الفتوى:

- ‌النوع الرابع: آداب المستفتي وصفته وأحكامه

- ‌الباب الخامس: في شروط المناظرة وآدابها وآفاتها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: في بيان شروط المناظرة

- ‌الفصل الثاني: في آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق

- ‌مدخل

- ‌مناظرة بين الشافعي ومالك رضي الله عنهما

- ‌مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما

- ‌مناظرة بينهما أيضا وهي مشهورة

- ‌مناظرة بينهما أيضا

- ‌مناظرة بين الشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما

- ‌مناظرة جرت بحرة الشافعي رضي الله عنه

- ‌مناظرة جرت بحضرة الشافعي وأقام هو الحجة فيها:

- ‌مناظرة بين أبي العباس أحمد بن سريج وأبي بكر محمد بن داود رحمهم الله

- ‌مناظرة بينهما أيضا في الأصلح والتعليل

- ‌ في الأدب مع الكتب التي هي آله العلم

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهارس العامة:

- ‌ فهرس الآيات القرآنية:

- ‌ فهرس الأحاديث النبوية:

- ‌ فهرس الأعلام والأقوام والجماعات:

- ‌ فهرس الكتب المذكورة في متن الكتاب:

- ‌ فهرس الأشعار والأرجاز:

- ‌ فهرس المصادر والمراجع:

- ‌ فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌القسم الأول: آدابهما في نفسهما وآدابهما في مجلس الدرس

‌الباب الثالث: في آداب المعلم والمتعلم

‌النوع الأول: آدابهما في نفسهما وآدابهما في جلس الدرس

‌القسم الأول: آدابهما في نفسهما وآدابهما في مجلس الدرس

الباب الثالث: في آداب المعلم 1 والمتعلم

النوع الأول: آدابهما في نفسهما، وآدابهما في مجلس الدرس

فأما آدابهما في نفسهما:

فمنها: أول ما يجب على كل منهما أن يقصد وجه الله بأشغاله واشتغاله لا لمال ولأجرة، أو شهوة، أو سمعة، أو تمييز عن الأشباه، أو تكثر بالمشتغلين عليه، أو المختلفين إليه، ولا يشين علمه أو تعليمه بشيء من الطمع في رفق يحصل من تلميذ، أو خدمة، أو مال، وإن قل ولو على صورة الهدية التي لولا اشتغاله لما أهداها إليه، كما أن المتعلم لا يشين طلبه بطمع في شيء يعطيه له الشيخ، أو أن ينزل اسمه في طلبة العلم لينال شيئا من معلوم أو غيره، ودليل هذا كله ما مر في تحذير مَن أراد بعلمه غير الله، وقد تقدم في أول الفصل الثاني من الباب الأول1.

قال سفيان بن عيينة2: كنت قد أوتيت فهم القرآن، فلما قبلت الصرة من أبي جعفرر سُلبته3، وقد صح عن الشافعي أنه قال: وددت أن الناس انتفعوا بهذا العلم، وما نسب إلَيَّ شيء منه4، وقال رضي الله عنه: ما ناظرت أحدا وأحببت أن يخطئ5، وقال رضي الله عنه: ما أوردت الحق والحجة على أحد

1 انظر ص10 فيما بعد من هذا الكتاب.

2 هو أبو محمد، سفيان بن عيينة بن ميمون الهلالي الكوفي: محدث الحرم المكي، من الموالي، كان حافظا ثقة، واسع العلم، كبير القدر، وكان أعور، قال الشافعي: لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز، ولد بالكوفة، وسكن مكة، وتوفي بها سنة 198هـ. تاريخ بغداد 9/ 174، والأعلام 3/ 105.

3 تذكره السامع والمتكلم ص18، وهو يقصد هنا أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي، والجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع 1/ 367.

4 تذكرة السامع والمتكلم ص19، وكتاب العلم للنووي ص87.

5 صفوة الصفوة 2/ 251، وكتاب العلم للنووي ص87.

ص: 81

فقبلها مني إلا هبته واعتقدت مودته، ولا كابرني على الحق أحد ودافع الحجة إلا سقط من عيني1، وعن أبي يوسف2: يا قوم، أَرِيدوا بعلمكم الله، فإني لم أجلس مجلسا قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلسا قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا أقم حتى أُفْتَضَح3.

ومنها: أن يكون كل منهما قوي اليقين، الذي هو رأس مال الإيمان كله، قال صلى الله عليه وسلم:"اليقين الإيمان كله"4، وقال صلى الله عليه وسلم:"تعلموا اليقين"5.

ومنها: أن يحافظ6 على القيام بشعائر الإسلام، وظواهر الأحكام كإقامة الصلوات في مساجد الجماعات، وإفشاء السلام للخواص والعوام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى بسبب ذلك، صادعا بالحق عند السلاطين باذلا نفسه لله، لا يخاف فيه لومة لائم، ذاكرا قوله تعالى:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] .

وكذلك يقوم7 بإظهار السنن، وإخماد البدع، ويقوم لله في أمور الدين وما فيه من مصالح المسلمين على الطريق المشروع، والمسلك المطبوع، ولا

1 صفوة الصفوة 2/ 251، وكتاب العلم للنووي ص87.

2 هو أبو يوسف القاضي، يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي البغدادي، صاحب الإمام أبي حنيفة، وتلميذه، وأول من نشر مذهبه: كان فقيها علامة، من حفاظ الحديث، ولد بالكوفة، وتفقه بالحديث والرواية، وكان واسع العلم بالتفسير والمغازي وأيام العرب، ولي القضاء ببغداد أيام المهدي والهادي والرشيد، ومات في خلافته ببغداد سنة 182هـ، وهو على القضاء. وفيات الأعيان 6/ 378، والسير 8/ 47.

3 كتاب العلم للنووي ص87-88، فيض القدير 3/ 274.

4 المصنوع للقاري 1/ 218، تغليق التعليق لابن حجر العسقلاني 2/ 21، كشف الخفاء 2/ 555، وفيه:"قال الصغاني: موضوع كما نقله عن القاري".

5 حلية الأولياء 6/ 99، وإتحاف السادة المتقين 1/ 409، وتخرج الإحياء 1/ 72، وكنز العمال حديث رقم 7337.

6 أي: يحافظ كل منهما.

7 أي: كل من العالم والمتعلم.

ص: 82

يرضى من أفعاله الظاهرة والباطنة بالجائز منها، بل يأخذ بالأكمل؛ فإن العلماء هم القدوة وإليهم المرجع في الأحكام، وهم حجة الله على العوام، وقد يراقبهم للأخذ عنهم من لا ينظرونه، ويقتدي بهديهم من لا يعلمونه، إذا لم ينتفع العالم بعلمه فغيره أبعد عن الانتفاع به، كما قال الشافعي: ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع1؛ ولهذا عظمت زلة العالم لما يترتب عليها من المفاسد لاقتداء الناس به.

ومنها: أن يتخلق كل منهما بالمحاسن2 التي ورد الشرع بها من الزهد والسخاء والجود وطلاقة الوجه من غير خروج إلى حد الخلاعة، وكظم الغيظ، وكف الأذى عن الناس، واختماله منهم، وأن يتنزه عن دنيء الأكساب طبعا، ومكروهها شرعا، كالحجامة، والدباغة، والصياغة، وملازمة الورع والخشوع، والسكينة والوقار، والتواضع وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والإيثار وترك الاستئثار، والإنصاف وترك الاستنصاف، وشكر المتفضل، والسعي في قضاء الحاجات، وبذل الجاه والشفاعات، والتلطف بالفقراء، والتحبب إلى الجيران والأقرباء، ومجانبة الإكثار من الضحك والمزاح3؛ فإنه يقلل الهيبة ويسقط الحشمة كما قيل: من مزح استخف به، من أكثر من شيء عُرف به4.

ومنها: أن يُلزم نفسه الخوف والْحَزَن والانكسار والصمت، ويظهر الخشية

1 حلية الأولياء 9/ 123، المدخل إلى السنن الكبرى 1/ 325، تهذيب الأسماء 1/ 75، سير أعلام النبلاء 10/ 89.

2 كتاب العلم للنووي ص88.

3 انظر هنا المزاح الجائز من المزاح الحرام كتاب "المراح في المزاح".

4 هو من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، انظر المعجم الأوسط 2/ 370، مسند الشهاب 1/ 237، شعب الإيمان 4/ 257 و263، فتح الباري 7/ 29، التمهيد لابن عبد البر 7/ 185، وفيض القدير 6/ 213.

ص: 83

على هيئته وكسوته، لا ينظر إليه ناظر إلا ويكون نظره مذكرا بالله، وتكون صورته دليلا على علمه، قال عمر رضي الله عنه: تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والحلم، وتواضعوا لمن تَعَلَّمون منه، وليتواضع لكم من يتعلم منكم، ولا تكونوا من جبابرة العلماء، فلا يقوم علمكم بجهلكم1، وفي الخبر: إن من خيار أمتي قوم يضحكون جهرا من سعة رحمة الله، ويبكون سرا من خوف عذابه، أبدانهم في الأرض وقلوبهم في السماء، أرواحهم في الدنيا وقلوبهم في الآخرة2.

ومنها: ملازمة الآداب الشرعية القولية والفعلية، الظاهرة والخفية، كتلاوة القرآن وذكر الله بالقلب واللسان، والدعوات والأذكار آناء الليل وأطراف النهار، ومن3 نوافل العبادات من الصلاة والصيام وحج البيت الحرام والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فمحبته4 وإجلاله وتعظيمه صلى الله عليه وسلم واجب، فكان الإمام مالك إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغير وجهه وينحني5، وكان جعفر بن محمد6 إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم اصفر7، وكان القاسم8 إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يجف لسانه في

1 شعب الإيمان 2/ 287، والزهد لابن أبي عاصم 1/ 120، والفردوس بمأثور الخطاب 1/ 79، وفيض القدير 3/ 274، وانظر أيضا الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/ 93.

2 شعب الإيمان 1/ 478، والمستدرك على الصحيحين 3/ 19، وحلية الأولياء 1/ 16، والإصابة 4/ 754.

3 أي: وأن يكثر من نوافل العبادات.

4 المقصود به النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

5 تذكرة السامع والمتكلم ص21، 22.

6 هو أبو عبد الله، جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط، الهاشمي القرشي، الملقب بالصادق: سادس الأئمة الاثني عشر عند الإمامية، كان من أجلاء التابعين، وله منزلة رفيعة بالعلم، أخذ عنه جماعة منهم الإمامان أبو حنيفة ومالك، ولقب بالصادق؛ لأنه لم يعرف عنه الكذب قط، له أخبار مع الخلفاء من بني العباس، وكان جريئا عليهم صداعا بالحق، توفي في المدينة سنة 148هـ.

7 تذكرة السامع والمتكلم ص22.

8 في تذكرة السامع والمتكلم ص22: "كان ابن القاسم إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم

" وقال المحقق: هو عبد الله بن القاسم بن خالد بن جنادة صاحب مالك.

ص: 84

فيه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم1، وينبغي إذا تُلي2 القرآن أن يتفكر في معانيه وأوامره ونواهيه، وليحذر من نسيانه بعد حفظه، وأن يقرأ القرآن في كل سبعة أيام3، فهو ورد حسن، ويقال: من قرأ القرآن في كل سبعة أيام لم ينسه قط4، وأن يكون له ورد راتب كل يوم لا يُخل به.

ومن الآداب: التنظيف بإزالة الأوساخ، وقص الأظفار، وإزالة الشعور المطلوب زوالها، واجتناب الروائح الكريهة، وتسريح اللحية، وليجتهد في الإخلاص في التوبة والدوام عليها من الأفعال الذميمة5، وليلازم الأفعال الحميدة الظاهرة والباطنة، والمقامات العلية، والأحوال السنية، وأعلاها محبة الله الجامعة لكل فائدة، المجنبة لكل خصلة فاسدة، وكذلك محبة رسوله صلى الله عليه وسلم واتباعه، قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية [آل عمران: 31] .

ومنها: أن يطهر6 نفسه من الخبائث الباطنة، من مساوئ الأخلاق ومذموم الأوصاف؛ كالحسد والرياء والإعجاب واحتقار الناس والغل والبغي والغضب لغير الله والغش إلى غير ذلك من تعدد أوصاف خبائث النفس، فكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح إلا بتطهير الأحداث والأخباث، فكذلك لا تصح عبادة الباطن إلا بعد طهارته من خبائث الأخلاق، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"بني الدين على النظافة"7، والقلب منزل الملائكة، ومهبط أثرهم، وقال

1 تذكرة السامع والمتكلم ص22.

2 انظر فضائل القرآن لأبي عبيدة القاسم بن سلام ص111-215 "بتحقيقنا".

3 انظر فضائل القرآن لأبي عبيد 177 "بتحقيقنا"، وجمال القراء للسخاوي 1/ 189 "بتحقيقنا".

4 قلت: وهذا أصل ابتداع السبع الحسن.

5 الجار والمجرور في قوله من الأفعال الذميمة متعلق بالمصدر، وهو إخلاص، أي في إخلاص التوبة من الأفعال الذميمة ولا يكون متعلقا بالدوام فيفسد المعنى.

6 تذكرة السامع والمتكلم ص23-24.

7 المصنوع للقارئ 1/ 77، وكشف الخفاء 1/ 341.

ص: 85

صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب" 1، والصفات الرديئة في القلب كلاب نابحة، ونور العلم لا يقذفه الله في القلب إلا بواسطة الملائكة {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} 2 [الشورى: 51] وقال ابن مسعود: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور يقذف في القلب3، ووعظ بعضهم فقال: طهروا قلوبكم من الأغيار تصلح لنزول القرآن والأنوار، طهر المنزل حتى ينزل، ومن حصل له الساكن طابت له المساكن، ومن لم تُفتح له المنازل رضي بسكنَى المزابل "من المديد":

إن بيتا أنت ساكنه

غير محتاج إلى السرج4

ومريضا أنت عائده

قد أتاه الله بالفرج

وجهك المأمول حجتنا

يوم تأتي الناس بالحجج

وكان الشبلي5 يقول "من المقتضب":

1 سنن النسائي 7/ 185، والأحوذي 8/ 72، والسنن الكبرى 3/ 148، وشرح النووي على صحيح مسلم 14/ 84، ومسلم رقم 2107 في اللباس، والترمذي رقم 2470 في صفة القيامة، وأبو داود 4153 في اللباس، انظر جامع الأصول 4/ 803-808.

2 وحيا بواسطة الملَك، أو من وراء حجاب، نودي يا موسى، أو يرسل رسولا ليبلغ أمته فيكون بين الحق وبين المبلغ من الأمة اثنان: الرسول والملَك، وبين الرسول والحق جل جلاله واحد وهو الملَك.

3 وينسب هذا القول للإمام مالك، انظر تفسير ابن كثير 3/ 555، والجامع لأخلاق الراوي 2/ 174، وفيض القدير 1/ 119 و4/ 388، وحلية الأولياء 6/ 319.

4 لأبي بكر الشبلي كما في المدهش 1/ 21، وهي مما نسبت إليه كما في ديوانه ص139.

5 هو أبو بكر، ودُلف بن جحدر الشبلي: ناسك، كان في مبدأ أمره واليا في دنباوند، ثم ولي الحجابة للموفق العباسي، وكان أبوه حاجب الحجاب، ثم ترك الولاية وعكف على العبادة فاشتهر بالصلاح، له شعر جيد، سلك فيه مسالك المتصوفة، أصله من خراسان، ونسبته إلى قرية "شبلة" من قرى ما وراء النهر، توفي في بغداد سنة 334هـ. تاريخ بغداد 14/ 389، والأعلام 2/ 341.

ص: 86

اطلبوا لأنفسكم

مثل ما وجدت أنا1

قد وجدت لي سكنا

ليس يشبه السكنا

إن دنوت قربني

أو بعدت عنه دنا

وقد ابتُلي بعض أصحاب النفوس الخبيثة من فقهاء الزمان بكثير من هذه الصفات الذميمة إلا من عصمه الله، وأدوية ذلك مستوفاة في كتب الرقائق ومن أنفعها كتاب الرعاية2 للمحاسبي3.

ومن أدوية الحسد أن يعلم أن حكمة الله اقتضت جعل هذا الفضل في هذا الإنسان، فلا يعترض ولا يكره، فإن اعترض وكره فسُنة الله في مثل هذا جرت أن يسلبه حالته التي أنعم بها عليه وأن يزيد محسوده نعما لشكره وتواضعه وعدم غضبه لنفسه، وما أحسن ما قال الإمام المعافي بن زكريا الموصلي4 "من المتقارب":

1 ليست في ديوانه، وهو في المدهش 1/ 475 بلا نسبة.

2 هو كتاب: "الرعاية لحقوق الله عز وجل" وهو مطبوع مشهور وانظر تذكرة السامع والمتكلم 24.

3 هو أبو عبد الله، الحارث بن أسد المحاسبي: من أكابر الصوفية، كان عالما بالأصول والمعاملات، واعظا مبكيا، وهو أستاذ أكثر البغداديين في عصره، وله تصانيف في الزهد والرد على المعتزلة وغيرهم، ولد ونشأ بالبصرة ومات ببغداد سنة 243هـ. تاريخ بغداد 8/ 211، والأعلام 2/ 153.

4 هو أبو الفرج ابن طرار، المعافي بن زكريا بن يحيى الجريري النهرواني: قاض، من الأدباء الفقهاء، له شعر جيد، مولده ووفاته بالنهروان في العراق، ولي القضاء ببغداد، نيابة، وقيل له: الجريري؛ لأنه كان على مذهب "ابن جرير الطبري"، له تصانيف ممتعة ومفيدة في الأدب وغيره، قال السيوطي: كان من أعلم الناس في وقته بالنحو واللغة والفقه وأصناف الأدب، ثقة، توفي في سنة 390هـ. وفيات الأعيان 5/ 221، وطبقات الحفاظ 417.

ص: 87

ألا قل كان لي حاسدا

أتدري على من أسأت الأدب1

أسأت على الله في فعله

لأنك لم ترض لي ما وهب

فجازاك عني بأن زادني

وسد عليك وجوه الطلب

ولأبي حنيفة رحمه الله في الحسد "من البسيط":

إن يحسدوني فإني غير لائمهم

قبلي كثيرا أهالي الفضل قد حسدوا2

فدام بي وبهم ما بي وما بهم

ومات أكثرنا غيظا بما يجد

ومن أدوية الرياء أن يعلم أن الخلق لا يقدرون على نفعه ولا ضره بما لم يقدره الله تعالى عليه، فلا يتشاغل بمراعاتهم فيتعب نفسه، ويرتكب سخط الله مع أن الله يطلعهم على نيته وسريرته في ريائه لهم وخوفه منهم.

ومن أدوية الإعجاب أن يعلم أن علمه وفهمه وجودة ذهنه وفصاحته وغير ذلك من النعم فضل من المنعم جل وعلا وهو معه عارية وأمانة، وأن معطيه إياها قادر على سلبها منه في طرفة عين، كما سلب بلعام3 ما علمه في طرفة عين، نسأل الله السلامة.

1 الأبيات في تاريخ بغداد 13/ 230، ووفيات الأعيان 5/ 222، ومعجم الأدباء 19/ 154.

2 البيت للبيد بن عطارد بن حاجب التميمي كما في بهجة المجالس 1/ 413، وانظر طبقات الحنفية 1/ 498، وشرح الحماسة 1/ 381.

3 هو بلعام بن باعوراء، من بني إسرائيل الذي دعا على موسى عليه السلام وقومه، وقصته مذكورة في التفاسير، وفيه أنزل الله عز وجل الآيتين 174-175 من سورة الأعراف.

قال الإمام الغزالي: فكذلك العالم الفاجر، فإن بلعام أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات فشبه بالكلب؛ أي سواء أوتي الحكمة أو اسم يؤت فهو يلهث. الإحياء 1/ 45، وانظر أيضا تفسير القرطبي 7/ 303، والطبري 8/ 82، وابن كثير 2/ 267، وانظر هذا الكلام في تذكرة السامع والمتكلم 25.

ص: 88

ومن أدوية الاحتقار1 التأدب بما أدب الله تعالى به عباده، قال تعالى:{لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] وقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فربما كان هذا الذي دونه أطهر قلبا، وأخلص نية، وأزكى عملا، كما قيل: إن الله تعالى أفَى ثلاثة في ثلاثة: وليه في عباده، ورضاه في طاعته، وغضبه في معاصيه2، ثم إن المحتقر لا يعلم بماذا يختم له، ففي الصحيح: "إن إحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة

" 3 الحديث، نسأل الله العافية من كل داء.

ومنها: أن يتجنب مواضع التهم، فإنه يعرض نفسه وعرضه للوقوع في الظنون المكروهة، فإن اتفق له وقوع شيء من ذلك لحاجة أخبر من شاهده وأصحابه بحقيقة ذلك الفعل؛ لئلا يأثموا بظنهم الباطل، ولئلا ينفروا عنه، قال تعالى:{إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] ومن هذا الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجلين لما رأياه يتحدث مع صفية4 فوليا: "على رسلكما إنها صفية"، ثم قال:"إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم فخفت أن يقذف في قلوبكما شيئا"، وروي:"فتهلكا"5.

1 تذكرة السامع والمتكلم 26.

2 تذكرة السامع والمتكلم 26.

3 رواه البخاري 11/ 417، ومسلم 2643، وأبو داود 4708، والترمذي 2183، وأحمد 1/ 283، والبغوي 71.

4 هي أم المؤمنين، صفية بنت حيي بن أخطب: من الخزرج، من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كانت في الجاهلية من ذوات الشرف، تدين باليهودية، من أهل المدينة المنورة، ثم أسلمت، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفيت في المدينة سنة 50هـ. الإصابة "كتاب النساء" ترجمة رقم 647.

5 الحديث في صحيح مسلم عن صفية بنت حيي رضي الله عنها 2/ 216 حديث رقم 2175، والبخاري 4/ 240، وأبو داود 2470، وأحمد 3/ 156، والبغوي 42081، وانظر أيضا تذكرة السامع والمتكلم 20، وكتاب العلم للنووي 89.

ص: 89

ومنها: أن يكون1 زاهدا في الدنيا غير مبالٍ بفواتها مقتصدا في مطعمه وملبسه وأثاثه ومسكنه غير مترفه تشبيها بالسلف، ويتأكد في حق الطالب أن يقلل علائقه من أشغال الدنيا، ويبعد عن الأهل والوطن، فإن العلائق شاغلة وصارفة، قال تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] ونقل يحيى بن معاذ الرازي2: إنه كان يقول لعلماء الدنيا يا أصحاب العلم قصوركم قيصرية، وبيوتكم كسروية، وأثوابكم طاهرية، وأخفافكم جالوتية، ومراكبكم قارونية، وأوانيكم فرعونية، ومآثمكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية، فأين المحمدية؟ 3 وقوله: طاهرية بالطاء المهملة نسبة لطاهر بن الحسين4 المتولي على خراسان، وأقل درجات العالم أن يستقذر المتعلق بالدنيا، فهو أولى باستقذارها في حق نفسه، وعن الشافعي رضي الله عنه: لو أُوصي لأعقل الناس صرف إلى الزهاد، فليت شعري من أحق من العلماء بزيادة العقل وكماله؟ 5 وقال يحيى بن معاذ6: لو كانت الدنيا تبرًا يفنى، والآخرة خزفا يبقى، لكان ينبغي للعاقل إيثار الخزف الباقي على التبر الفاني، فكيف والدنيا خزف فان، والآخرة تبر باق7.

1 تذكرة السامع والمتكلم 18.

2 هو أبو زكريا، يحيى بن معاذ بن جعفر الراوي: واعظ، زاهد، لم يكن له نظير في وقته، من أهل الري، أقام ببلخ، ومات في نيسابور سنة 258هـ. تاريخ بغداد 14/ 208، والحلية 10/ 53، والأعلام 8/ 172.

3 فيض القدير 2/ 419.

4 هو أبو الطيب، ذو اليمينين، طاهر بن الحسين بن مصعب الخزاعي: من كبار الوزراء والقواد أدبا وحكمة وشجاعة، وهو الذي وطد الملك للمأمون العباسي، ولد في بوشنج "من أعمال خراسان" وسكن بغداد، ثم ولاه المأمون العراق وخراسان، وكان أعور، مات قتيلا، أو مسموما بمرو سنة 207هـ. تاريخ بغداد 9/ 353، والأعلام 3/ 221.

5 تذكرة السامع والمتكلم 18.

6 هو أبو زكريا الرازي: واعظ، زاهد، لم يكن له نظير في وقته، من أهل الري، أقام ببلخ، وله كلمات سائرة مأثورة، ومات في نيسابور سنة 258هـ. الأعلام 8/ 172.

7 تذكرة السامع والمتكلم 18، وفيض القدير 1/ 483.

ص: 90

ومنها: أن يكون منقبضا عن الملوك وأبناء الدنيا لا يدخل إليهم صيانة للعلم كما صانه علماء السلف، فمن فعل ذلك فقد عرض نفسه لما لا قبل له به ولا طاقة، وخان أمانته، فإن العلم أمانة عنده، قال تعالى:{لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] وقال تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} الآية [المائدة: 44] إلى غير ذلك من الآيات، وقال صلى الله عليه وسلم:"العلماء أمناء الرسل على عباده ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم"1.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن يكرم دينه فلا يدخل على السلطان ولا يخلون بالنسوان ولا يخاصمن أهل الأهواء2، قال الأوزاعي3: ما شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور أميرا، وقال حذيفة4 رضي الله عنه: إياكم ومواقف الفتن، قالوا: وما هو؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه في الكذب ويقول ما ليس فيه، فإن دعت إلى ذلك ضرورة أو مصلحة دينية فلا بأس5، وعلى هذا يحمل ما جاء عن بعض السلف في المشي إلى الملوك

1 الفردوس 3/ 75، وكشف الخفاء 2/ 84، وميزان الاعتدال 8/ 84.

2 سنن الدارمي 1/ 102، والقرطبي 7/ 140.

3 هو أبو عمرو، عبد الرحمن بن عمرو بن محمد الأوزاعي: إمام الديار الشامية في الفقه والزهد، وأحد الكتاب المترسلين، كان ثقة، مأمونا صدوقا فاضلا خيرا كثير الحديث والعلم والفقه، ولد في بعلبك، ونشأ في البقاع، وسكن بيروت وتوفي بها سنة 157هـ. وفيات الأعيان 2/ 127، وطبقات الحفاظ 93.

4 هو أبو عبد الله، حذيفة بن حِسْل بن جابر العبسي، واليمان لقب حسل: صحابي، من الولاة الشجعان الفاتحين، كان صاحب سر النبي في المنافقين، لم يعلمهم أحد غيره وولاه عمر على المدائن "بفارس" وهاجم نهاوند وغزا الدينور، وماه سندان، ثم غزا همذان والري، وافتتحها كلها عَنْوَةً، توفي في المدائن سنة 36هـ. الإصابة ترجمة رقم 1652، وتهذيب التهذيب 2/ 219.

5 شعب الإيمان 7/ 49، والتمهيد 13/ 57، والحلية 1/ 277.

ص: 91

وولاة الأمر على أنهم قصدوا بذلك حصول الأغراض الدنيوية المساعدة للأحوال الدينية، فاعلمه، والله أعلم.

ومنها: أن يكون شديد التوقي من محدثات الأمور، وإن اتفق عليها الجمهور1 فلا تغتر بإطباق الخلق على ما حدث بعد الصحابة، وكن حريصا على التفتيش عن سير الصحابة وأعمالهم، أكانوا مهتمين بالتصدير والمناظرة، والقضاء والولاية، وتولي الأوقاف والوصايا، ومال الأيتام، ومخالطة السلاطين ومجاملتهم في العشرة، أو في الخوف والحزن، والتفكر والمجاهدة، إلى غير ذلك من علوم الباطن.

واعلم يقينا أن أعلم أهل الزمان أشبههم بالصحابة وأعرفهم بطريقهم، فعنهم أُخذ الدين، قال علي رضي الله عنه: خيرنا أتبعنا لهذا الدين2، وقال ابن مسعود: أنتم في زمان خيركم فيه المسارع في الأمور، وسيأتي بعدكم زمان يكون خيركم المتثبت المتوقف؛ لكثرة الشبهات3، وقال حذيفة رضي الله عنه: أعجب من هذا أن معروفكم اليوم منكر زمان قد مضى، وأن منكركم معروف زمان قد يأتي، وأنكم لا تزالون بخير ما عرفتم الحق، وكان العالم فيكم غير مُستَخَف به4.

قال الغزالي5 وقد صدق: فأكثر معروفات هذه الأعصار منكرات في عصر الصحابة؛ إذ من غرر المعروف في زماننا تزيين المساجد، وإنفاق الأموال العظيمة في عمارتها، وبسط البسط الرفيعة فيها، ولقد كان يعد فرش البواري

1 أي: الجمهور من الناس.

2 مسند البزار 3/ 97.

3 طبقات السبكي 6/ 381، والإحياء 4/ 343.

4 مصنف ابن أبي شيبة 7/ 211، وتهذيب الكمال 19/ 529، والزهد لابن أبي عاصم 1/ 169.

5 هو أبو حامد، محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي، حجة الإسلام: فيلسوف، متصوف، كان كثير الرحلات، له نحو مائتي مصنف، مولده ووفاته في الطابران "قصبة طوس، بخراسان" توفي في سنة 505هـ، الوافي بالوفيات 1/ 277، وطبقات الشافعية.

ص: 92

في المسجد بدعة، وقيل: إنه من محدثات1 الحجاج2، فقد كان الأولون قل ما يجعلون بينهم وبين التراب حاجزا.

ومن ذلك الاشتغال بدقائق الجدل والمناظرة، ويعدونه من أجل علوم الزمان، ويزعمون أنه من أعظم القربات، وقد كان ذلك من المنكرات.

ومن ذلك التقشف في النظافة، والوسواس في الطهارة، وتقدير النجاسة البعيدة في نجاسة الثياب مع التساهل في حل الأطعمة وتحريمها.

ومن ذلك3 التلحين في الأذان والقراءات، والتباهي بذلك إلى غير ذلك من النظائر، ولقد صدق ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: أنتم اليوم في زمان، الهوى فيه تابع للعلم، وسيأتي عليكم زمان يكون العلم تابعا للهوى4، وكان هشام يقول: لا تسألوهم اليوم عما أحدثوا، فإنهم أعدوا له جوابا، ولكن سلوهم عن السُّنَّة فإنهم لا يعرفونها، وقال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي5 في كتابه: الأحاديث الموضوعة6 بعد ذكره لحديث في قراءة الفاتحة وآيات منها: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} عقيب الصلاة، هذا حديث موضوع كنت

1 أي: من المحدثات المنكرة المعدة قربة.

2 هو أبو محمد، الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي: قائد، داهية، سفاك، خطيب، ولد ونشأ في الطائف، ثم ولاه عبد الملك مكة والمدينة والطائف، ثم أضاف إليها العراق، وثبتت له الإمارة عشرين سنة، وكان سفاكا سفاحا فاتكا باتفاق معظم المؤرخين، وأخبار كثيرة، مات بواسط "التي بناها هو بين الكوفة والبصرة" سنة 95هـ. وفيات الأعيان 2/ 29، والسير 4/ 343.

3 أي: من المنكرات.

4 الزهد الكبير 2/ 165.

5 هو أبو الفرج، عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي: علامة عصره في التاريخ والحديث، كثير التصانيف، مولده ووفاته في بغداد سنة 597هـ. وفيات الأعيان 3/ 140، والسير 21/ 365، وطبقات الحفاظ 502.

6 هو كتاب "الموضوعات" لابن الجوزي، وقد طبع بتحقيق عبد الرحمن بن محمد عثمان في المكتبة السلفية بالمدينة المنورة سنة 1386هـ، في ثلاثة أجزاء.

ص: 93

سمعته في زمن الصبي فاستعملته نحوا من ثلاثين سنة لحسن ظني بالرواة، فلما علمت أنه موضوع تركته، فقال لي قائل: أليس هو استعمال خير؟ فقلت: استعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعا، فإذا علمنا أنه كذب خرج عن المشروعية. انتهى1.

ومنها: أن تكون عنايتهما بتحصيل العلم النافع في الآخرة، المرغب في الطاعة، متجنبين العلوم التي يقل نفعها، ويكثر فيها الجدال، والقيل والقال، روي أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علمني من غرائب العلم2، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما صنعت في رأس العلم؟ " قال: وما رأس العلم؟ قال: "هل عرفت الرب؟ " قال: نعم، قال:"وما صنعت من حقه؟ " قال: ما شاء الله، قال: هل عرفت الموت؟ قال: نعم، قال:"وما أعددت له؟ " قال: ما شاء الله، قال:"اذهب فأحكم ثم تعال نعلمك من غرائب العلم"3.

وينبغي أن يكون التعليم من جنس ما روي عن حاتم الأصم4 تلميذ شقيق البلخي5 أن شقيقا قال له: منذ كم صحبتني؟ قال حاتم: منذ ثلاثة وثلاثين سنة، فقال: ما تعلمت مني في هذه المدة؟ قال: ثمان مسائل، فقال شقيق: إنا لله وإنا إليه

1 لم نجده في كتاب: "الموضوعات" لابن الجوزي، ولا في كتابه:"العلل المتناهية"، ولعله في أحد كتبه الأخرى، وانظر حول هذا الحديث الموضوعات 1/ 245، وتذكرة الموضوعات 79، وكشف الخفاء 2/ 106.

2 مسند الربيع بن حبيب البصري ص311.

3 مسند الربيع بن حبيب البصري ص311.

4 هو أبو عبد الرحمن، حاتم بن عنوان، المعروف بالأصم: زاهد، اشتهر بالورع والتقشف، له كلام مدون في الزهد والحكم، من أهل بلخ، زار بغداد، واجتمع بأحمد بن حنبل، وشهد بعض معارك الفتوح، كان يقال: حاتم الأصم لقمان هذه الأمة، مات في بواشجرد سنة 237هـ. تاريخ بغداد 2/ 152، والأعلام 2/ 152.

5 هو أبو علي، شقيق بن إبراهيم بن علي الأزدي البلخي: زاهد صوفي، من مشاهير المشايخ في خراسان، وكان من كبار المجاهدين، استشهد في غزوة كولان "بما وراء النهر" سنة 194هـ. حلية الأولياء 8/ 62، والنجوم الزاهرة 2/ 21 و146.

ص: 94

راجعون، ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثمان مسائل! فقال: يا أستاذ لم أتعلم غيرها، ولا أحب أن أكذب، فقال: هات هذه الثمان مسائل حتى أسمعها، فذكرها، والقصة مشهورة في كثير من الكتب1 وهي مشتملة: الأولى على محبة الحسنات، والثانية على مدافعة هوى النفس، والثالثة على الصدقة، والرابعة على النسبة للتقوى، والخامسة على ترك الحسد، والسادسة على مصادقة الخلق وعداوة الشيطان، والسابعة على ملازمة الطاعة وترك الذل للخلق بسبب المعيشة، وترك الحرام، والثامنة على التوكل على الله تعالى؛ فقال شقيق بعدما قرأ حاتم الثمان مسائل: يا حاتم وقفك الله، إني نظرت في علم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان فرأيته يدور على هذه الثمان مسائل، اللهم توفيقا للعمل الصالح واجتنابا للطالح.

ومنها: أن يكون اهتمامه بعلم الباطن، ومراقبة القلب، ومعرفة طريق الآخرة وسلوكه، وصدق الرجاء في انكشاف ذلك من المجاهدة والمراقبة، فإن المجاهدة تفضي إلى المشاهدة في دقائق علوم القلب، وتنفجر منه ينابيع الحكم الخارجة عن العد والحد من طريق مفتاح الإلهام، ومنبع الكشف لا بالكتب المدونة، فكم من متعلم طال تعلمه ولم يقدر على مجاوزة مسموعه بكلمة، وكم من مقتصر على المهم في التعلم فتح الله عليه من لطائف الحكم ما تحار فيه عقول ذوي الألباب؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم"2، وفي بعض الكتب3 السالفة: يا بني إسرائيل لا تقولوا: العلم في السماء من ينزل به، ولا في الأرض من يصعد به، ولا من وراء البحار من يأتي به، العلم محصور في قلوبكم، فتأدبوا بين يدي تأدب الروحانيين، وتخلقوا إليَّ تخلق الصديقين أظهر العلم من قلوبكم حتى يغطيكم ويغمركم.

1 انظر هذه القصة في حلية الأولياء 8/ 82-83.

2 انظر كشف الخفاء 2/ 347، وتفسير ابن كثير 4/ 29، وفيض القدير 4/ 388.

3 فيض القدير 4/ 338.

ص: 95

ومنها: أن يبحث عما يفسد الأعمال، ويشوش القلب، ويهيج الوسواس، ويثير الشر، فإن أصل الدين التوقي من الشر؛ ولذلك قيل: اعرف الشر لا للشر، لكن لتوقيه، ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه1، وقيل لحذيفة رضي الله عنه: نراك تتكلم بكلام لا يسمع من غيرك من الصحابة! فمن أين أخذته؟ قال: خصني به رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الناس يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه، وعلمت أن الخير لا يسبقني، وقال مرة: فعلمت أن من لا يعرف الشر، لا يعرف الخير، فكان عمر وعثمان وأكابر الصحابة يسألونه عن الفتن العامة والخاصة، وكان يُسأل عن المنافقين فيخبر بأعداد من بقي، ولا يخبر بأسمائهم، وكان عمر يسأله عن نفسه: هل يعلم بها شيئا من النفاق، فبرأه من ذلك، وكان -أعني عمر رضي الله عنه إذا دُعي إلى جنازة نظر، فإن حضر حذيفة صلى عليها وإلا ترك، وكان حذيفة رضي الله عنه يُسمى صاحب السر بالسين المهملة2.

ومنها: وهو من أعظم الأسباب المعينة على الاشتغال والفهم وعدم الملالة، أكل القدر اليسير من الحلال الذي لا شبهة فيه، قال الشافعي رضي الله عنه: ما شبعت منذ ست عشرة3 سنة، وسبب ذلك أن كثرة الأكل جالبة لكثرة الشرب، وهي جالبة للنوم والبلادة، وفتور الحواس والكسل، هذا مع ما فيه من الكراهة الشرعية، والتعرض لخطر الأسقام البدنية كما قيل "من الوافر":

1 أبجد العلوم 1/ 143.

2 البخاري 3/ 131 و6/ 2595، ومسلم 3/ 1475، وانظر الاستيعاب 1/ 324، وأسد العابة 1/ 390، والمستدرك 1/ 197، و209، 4/ 472 و478 و479، والسنن الكبرى 8/ 156، والسير 2/ 361، والإصابة ترجمة رقم 1652 "2/ 39".

3 تذكرة السامع والمتكلم 74، والحلية 9/ 127، وجامع العلوم والحكم 1/ 428، وتهذيب الأسماء 1/ 75.

ص: 96

عدوك من صديقك مستفاد

فلا تستكثرن من الصحاب1

فإن الداء أول ما تراه

يكون من الطعام أو الشراب

وقد جمع بعض الحكماء في كثرة الأكل خمسين آفة، ونظمها مولانا وسيدنا وشيخنا شيخ الإسلام والد المصنف2 رحمه الله وأبقى خلقه- فقال "من البسيط":

في كثرة الأكل يا ذا العقل والنظر

خمسون آفة كن منها على حذر

توليد سقم وثقل ثم طول كرى

ووصمة النفس مع غم ومع بطر

وقسوة وعمى قلب تؤثره

وهزل روح ونقص الخوف والحذر

وقلة العقل مع جهل مكثره

وقلة الشكر والإخلاص والخفر

وشهوة تنمو مع ترك الحياء كذا

نسيان علم وذكر الموت في العمر

وحب دنيا وشح والبقاء كذا

حب الشياطين فقد الصبر مع ضجر

1 البيتان لابن الرومي كما في المثل السائر 1/ 315، وجمهرة الأمثال 1/ 465.

2 هو أبو الفضل، محمد بن محمد بن أحمد العامري، رضي الدين الغزي: باحث، من علماء الشافعية، أصله من غزة، ومولده ووفاته بدمشق 935هـ. الكواكب السائرة 2/ 3، والأعلام 7/ 56.

ص: 97

وذم حكمة أيضا والعداوة مع

تهييج عادة أشواق مع الأشر

وبغض مولاه مع هدم العبادة مع

فقد البهاء وحرج الدين بالغير

والضحك أيضا وإذهاب الحلاوة من

قلب وإبدال صفو منه بالكدر

وترك ذكر وإذهاب اليقين كذا

ترك افتقار وآداب لمعتبر

وترك الأعمال والإكثار من حسد

والبعد من جنة والقرب من سقر

ثم التغفل ينمو والفضول كذا

وللشياطين تسليح على البشر

كذاك تفريق صحب وارتكاب معا

صلي الله جل وهذا غاية الخطر

وفي رسائل إخوان الصفاء لها

شرح بذا الحصر واف غير مختصر

وهاك في هذه الأبيات جملتها

تلخصت فأتت في النظم كالدرر

ولبعضهم في بعض فوائد الجوع "من الكامل":

في الجوع عشر فوائد عن حصرها

عجز البيان وباء بالتقصير

من بعضها كسر الهوى وبكسره

فوز الفتى بعوارف التحبب

ص: 98

وصفا القلوب وحفظها في سيرها

من علة التكدير والتأثير

وإدامة السهر الذي هو مقصد

في شرع أهل الجد والتشمير

وسلامة الجسد الذي هو مركب

للقصد من علل ومن تغيير

وهو المذكر بالفقير وحاله

ولرب خير جاء في التذكير

وبه على الإيثار تحصل مكنة

تبدو لطائفها لكل بصير

وعلى العبادة أي عون للفتى

في ضمنه بل أيما تيسير

وبه انحسام مواد كل ضرورة

يأتي من الشيطان للتغرير

والمرء ذو مؤن وفي تقليله

طرح لما يدعو إلى التكثير

فأجع فؤادك للوفا متعرضا

واسلك سبيل محقق وخبير

واعلم بأن الجوع في شرع الولا

مفتاح باب الفتح عن تحرير

والأولى أن يكون ما يأخذه من الطعام والشراب ما ورد: "بحسب ابن آدم

ص: 99

لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفَسه"1، وأما زيادته على ذلك فهي من الإسراف، وقد قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] قال بعض العلماء: جمع الله بهذه الكلمات الطب كله2.

ومنها: أن يقلل استعمال المطاعم3 التي هي من أسباب البلادة، وضعف الحواس كالتفاح الحامض، والباقلا، وشرب الخل، كذلك ما يكثر استعماله البلغم المثقل للبدن، والمبلد للذهن ككثرة الألبان والسمك وأشباه ذلك.

وينبغي أن يستعمل ما جعله الله تعالى سببا لجودة الذهن كمضع اللبان والمصطكي على حسب العادة، وأكل الزبيب بكرة والجلاب ونحو ذلك مما ليس هذا موضع شرحه4.

وينبغي أن يجتنب ما يولد النسيان بالخاصية كأكل سؤر الفأر، وقراءة ألواح القبور، والدخول بين جملين مقطورين، والشق بين الغنم والمعز، وليقرأ سورة "إيلاف قريش" إذا دخل في الشياه؛ لقوله تعالى:{وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] وإلقاء القمل ونحو ذلك من المجربات، ونحو ذلك من المحذرات الواردة، وللحافظ البرهان الناجي5 في ذلك كتاب "قلائد العقيان فيما يورث

1 موارد الظمآن 1/ 328، جامع العلوم والحكم 1/ 424، 428، وفيض القدير 5/ 407، وكشف الخفاء 2/ 260، وتفسير القرطبي 7/ 192.

2 تذكرة السامع والمتكلم ص75، تفسير القرطبي 7/ 192.

3 تذكرة السامع والمتكلم ص76-77.

4 تذكرة السامع والمتكلم ص77.

5 هو أبو إسحاق، إبراهيم بن محمد بن محمود بن بدر، برهان الدين، الحلبي القبيباتي الشافعي الناجي: واعظ، عارف بالحديث، قال السخاوي: "ممن وعظ وحذر وأنذر وخطب وصدع وروى وأسمع، ولم يكن يخاف في الله لومة لائم، مع انجماعة عن بني الدنيا، وتقنعه باليسير

" وسبب شهرته بالناجي فقيل: لأنه كان حنبليا وتحول شافعيا!! توفي سنة 900هـ، ودفن في مقبرة القُبَيْبَات. الذيل التام على دول الإسلام 3/ 273.

ص: 100

الفقر والنسيان"1 جمع فيه فأوعى، وقد اختصره المرحوم شيخنا الرضي والد المصنف شيخ الإسلام في أرجوزة سماها "نظم القلائد2".

ومنها: أن يقلل نومه ما لم3 يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة على ثمان ساعات، وهو ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل منها فعل، ولا بأس أن يريح نفسه وقلبه وذهنه وبصره إذا كَلَّ باستراحة وتنزه وتفرج في المستنزهات بحيث يعود إلى حاله، ولا يضيع عليه زمانه، ولا بأس بمعاناة المشي، ورياضة البدن4 به، فقد قيل: إنه ينعش الحرارة، ويذيب فضول الأخلاط، وينشط البدن، ولا بأس بالوطء الحلال إذا احتاج إليه، فقد قال الأطباء: إنه يخفف الفضول، وينشط ويصفي الذهن إذا كان عند الحاجة إليه باعتدال، ويحذر كثرته كل الحذر، فإنه يضعف السمع والبصر والعصب والحرارة والهضم، ويحدث غير ذلك من الأمراض المردية، وهو كما قيل: ماء الحياة يصب في الأرحام5.

ومنها: أدعية وفوائد وردت يستعان بها على حفظ القرآن والعلم، فينبغي مراعاتها، وإن كان غالبها ضعيفا6 عن ابن عباس مرفوعا7: "من سره أن يودعه

1 قال حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1354: "مختصر أوله: الحمد لله الذي علمنا ما لم نكن نعلم

".

2 في كشف الظنون 2/ 1354: "نظمه الشيخ أبو عبد الله محمد بن الغزي في بحر الرجز أوله: الحمد لله الذي علمنا

إلخ".

وذكر أنه جمعها متنظما.

3 تذكرة السامع والمتكلم ص77-78.

4 تذكرة السامع والمتكلم ص80.

5 تذكرة السامع والمتكلم ص81.

6 انظر تذكرة الموضوعات 56-57، وكنز العمال 2/ 58-61.

7 الحديث المرفوع هو ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة من قول أو فعل أو تقرير سواء أكان متصلا أم منقطعا، وقال الخطيب:"هو ما أخبر به الصحابي خاصة من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله". الباعث الحثيث 24، والمنهل الروي 40.

ص: 101

الله عز وجل القرآن وحفظ أصناف العلوم فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف، أو في صحفة قوارير بعسل وزعفران وماء مطر، ويشربه على الريق، وليصم ثلاثة أيام، وليكن إفطاره عليه، ويدعو به في أدبار الصلوات المكتوبة: اللهم إني أسألك بأنك مسئول لم يسأل مثلك، أسألك بحق محمد صلى الله عليه وسلم رسولك ونبيك، وإبراهيم خليلك وصفيك، وموسى كليمك ونجيك، وعيسى كلمتك وروحك، وأسألك بصحف إبراهيم وتوراة موسى، وزبور داود، وإنجيل عيسى، وفرقان محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، وأسالك بكل وحي أوحيته، وبكل حق قضيته، وبكل سائل أعطيته، وأسألك بأسمائك التي دعا بها أنبياؤك فاستجبت لهم، وأسألك باسمك المخزون المطهر، الطاهر المبارك المقدس، الحي القيوم ذي الجلال والإكرام، وأسألك بأسمائك: الواحد الأحد الصمد الفرد الوتر، الذي ملأ الأركان كلها، وأسألك باسمك الذي وضعته على السماوات فقامت، وأسألك باسمك الذي وضعته على الأرضين فاستوت، وأسألك باسمك الذي وضعته عل الجبال فرست، وأسألك باسمك الذي وضعته على النهار فاستنار، وأسألك باسمك الذي تحيي به العظام وهي رميم، وأسألك بكتابك المنزل بالحق، ونورك التام: أن ترزقني حفظ القرآن، وحفظ أصناف العلوم، وتبثها في قلبي، وأن تستعمل بها بدني في ليلي ونهاري أبدا ما أبقيتني يا أرحم الراحمين1.

وروي عن بكر بن خنيس2 قال: من أحب أن يقرأ القرآن، ولا ينسى منه شيئا -بإذن الله عز وجل فليقل: اللهم افتح علينا

1 انظر هذا القول بتمامه في تذكرة الموضوعات ص57، وهو عن ابن مسعود.

2 هو بكر بن خُنيس الكوفي العابد، نزيل بغداد: محدث كان يروي كل منكر، وكان رجلا صالحا غزاء، وليس بقوي في الحديث، قيل: كان يوصف بالعبادة والزهد، ويحدث بأحاديث مناكير عن قوم لا بأس بهم، وحديثه في جملة حديث الضعفاء، وليس ممن يحتج بحديثه، توفي نحو سنة 170هـ. تاريخ بغداد 7/ 88، وتهذيب الكمال 4/ 208.

ص: 102

رحمتك، وانشر علينا رحمتك، وعن سنيد1 قال: من أحب ألا ينسى شيئا فليقل: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32] وقال بعض الصالحين: إذا قرأت شيئا ثم قمت عنه فقل: اللهم إني أستودعك ما قرأته فاردده عليَّ وقت حاجتي إليه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم2.

وغسل الرأس يزيد في الحفظ، وتركه ينقص من الحفظ، ومن أراد أن يحفظ العلم فعليه بخمس خصال: صلاة الليل ولو ركعتين، والدوام على الوضوء، والتقوى في السر والعلانية، وأن ينوي بأكله القوة على الطاعة، والسواك في كل صلاة وعند تغير الفم، ومن كتب آية الكرسي في كفه اليسرى بيده اليمنى سبع مرات بزعفران في كل مرة يلحسها بلسانه لم ينسَ شيئا أبدا، ومن قال أربعين مرة مساء: اللهم اجعل نفسي نفسا طيبة طائعة حافظة تؤمن بلقائك وتقنع بعطائك، وترضى بقضائك لم ينس شيئا أبدا، ومن قال عند رفع ما يقرأه: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عدد كل حرف كتب ويكتب أبد الآبدين ودهر الداهرين، فإنه لا ينسى منه شيئا أبدا، ومما يفيد للحفظ قولك عقب كل صلاة: آمنت بالله الواحد الأحد، الحق المبين لا شريك له وكفرت بما سواه. انتهى.

1 هو أبو علي المحتسب، سُنيد، اسمه: الحسين بن داود المصيصي: الإمام الحافظ، محدث الثغر، صاحب التفسير الكبير، قال ابن ناصر الدين:"أحد أوعية العلم والأثر، تكلم فيه أحمد وغيره، ووثقه ابن حبان والخطيب البغدادي". توفي في سنة 226هـ. السير 10/ 627، تهذيب التهذيب 4/ 244، وطبقات الحفاظ 224.

2 وتقدم إذا قرأ كل يوم سبعا من القرآن لم ينسه أبدا، وذكر ابن الحاج في مدخله: أن من قرأ ما يحفظه في صلاته لم ينسه أبدا.

ص: 103