المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الثالث: آدابه في درسه - العقد التليد في اختصار الدر النضيد = المعيد في أدب المفيد والمستفيد

[العلموي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مدخل

- ‌مقدمة التحقيق:

- ‌مصادر ترجمة المؤلف بدر الدين الغزي:

- ‌مصادر ترجمة صاحب المختصر عبد الباسط العلموي:

- ‌ترجمة مؤلف المختصر:

- ‌العلموي وكتابه التلخيصي:

- ‌تحليل كتاب "المعيد" للعلموي:

- ‌وصف النسخة المخطوطة:

- ‌النص المحقق:

- ‌المقدمة: في الأمر بالإخلاص والصدق وإحضار النية:

- ‌الباب الأول: في فضيلة الاشتغال بالعلم على ما تقدم في ترتيبه

- ‌الفصل الأول: في فضيلة الاشتغال بالعلم وتصنيفه وتعلمه

- ‌الفصل الثاني: في تحذير مَن أراد بعلمه غير الله تعالى

- ‌الفصل الثالث: في تحذير مَن آذى أو انتقص عالما

- ‌الفصل الأول: في أقسام العلم الشرعي وهي ثلاثة: تفسير، وحديث، وفقه

- ‌الباب الثالث: في آداب المعلم والمتعلم

- ‌النوع الأول: آدابهما في نفسهما وآدابهما في جلس الدرس

- ‌القسم الأول: آدابهما في نفسهما وآدابهما في مجلس الدرس

- ‌القسم الثاني: آدابهما في درسهما واشتغالهما

- ‌النوع الثاني: آداب يختص بها المعلم وقد يشاركه في بعضها المتعلم

- ‌القسم الأول: آدابه في نفسه وتقدم منها جملة في الآداب المشتركة

- ‌القسم الثاني: آداب المعلم مع طلبته

- ‌القسم الثالث: آدابه في درسه

- ‌النوع الثالث: آداب يختص بها المتعلم

- ‌القسم الأول: آدابه في نفسه

- ‌القسم الثاني: آدابه مع شيخه وقدوته وما يجب عليه من تعظيم حرمته

- ‌الباب الرابع: في أدب المفتي والفتوى والمستفتي

- ‌مدخل

- ‌النوع الأول: في الأمور المعتبرة في كل مفتٍ

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: في الأمور المعتبرة في كل مفتٍ:

- ‌الفصل الثاني: في تقسيم المفتين

- ‌النوع الثاني: في أحكام المفتي وآدابه

- ‌النوع الثالث: في آداب الفتوى:

- ‌النوع الرابع: آداب المستفتي وصفته وأحكامه

- ‌الباب الخامس: في شروط المناظرة وآدابها وآفاتها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: في بيان شروط المناظرة

- ‌الفصل الثاني: في آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق

- ‌مدخل

- ‌مناظرة بين الشافعي ومالك رضي الله عنهما

- ‌مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما

- ‌مناظرة بينهما أيضا وهي مشهورة

- ‌مناظرة بينهما أيضا

- ‌مناظرة بين الشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما

- ‌مناظرة جرت بحرة الشافعي رضي الله عنه

- ‌مناظرة جرت بحضرة الشافعي وأقام هو الحجة فيها:

- ‌مناظرة بين أبي العباس أحمد بن سريج وأبي بكر محمد بن داود رحمهم الله

- ‌مناظرة بينهما أيضا في الأصلح والتعليل

- ‌ في الأدب مع الكتب التي هي آله العلم

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهارس العامة:

- ‌ فهرس الآيات القرآنية:

- ‌ فهرس الأحاديث النبوية:

- ‌ فهرس الأعلام والأقوام والجماعات:

- ‌ فهرس الكتب المذكورة في متن الكتاب:

- ‌ فهرس الأشعار والأرجاز:

- ‌ فهرس المصادر والمراجع:

- ‌ فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌القسم الثالث: آدابه في درسه

‌القسم الثالث: آدابه في درسه

الفصل الثالث: آدابه في درسه 1:

فمنها: إذا عزم على التدريس أن يتطهر من الحدث والخبث، فلا يلقي الدرس إلا على الطهارة، وأن ينظف ويطيب بدنه وثوبه، ويختار له لبس البياض، ولا يعتني بفاخر الثياب، ولا يقتصر على خلق ينتسب صاحبه إلى قلة مروءة، وأن يتطيب ويسرح لحيته، ويزيل كل ما يشينه.

كان الإمام مالك رضي الله عنه إذا جاءه الناس لطلب الحديث اغتسل وتطيب ولبس ثيابا جددا ووضع رداء على رأسه، ثم يجلس على منصة، ولا يزال يبخر بالعود حتى يفرغ وقال: أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم2.

ومنها: قال ابن جماعة3: يصلى ركعتي الاستخارة وينوي نشر العلم وتعليمه وبث الفوائد الشرعية، والاجتماع على ذكر الله، وإذا خرج من بيته للدرس فيدعو بما ورد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيقول:"اللهم إني أعوذ بك أن أَضِل أو أُضَل، أو أَزِل أو أُزَل، أو أَظْلِم أو أُظْلَم، أو أَجْهَل أو يُجْهَل عليَّ، عز جارك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك" 4، ثم يقول: "باسم الله وبالله

1 انظر تذكرة السامع والمتكلم 30 فما بعده.

2 تذكرة السامع والمتكلم 31، والمِنصة بكسر الميم: الكرسي.

3 هو أبو عبد الله، بدر الدين، محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني الحموي الشافعي: قاض، من العلماء بالحديث وسائر علوم الدين، ولد في حماة، وولي الحكم والخطابة بالقدس، ثم القضاء بمصر، فقضاء الشام، ثم قضاء مصر إلى أن شاخ وعمي، وكان من خيار القضاة، وتوفي بمصر سنة 297هـ، له تصانيف منها:"تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم" وهو مطبوع مشهور. نكت الهميان 235، والنجوم الزاهرة 9/ 298.

وقول ابن جماعة في كتابه تذكرة السامع والمتكلم 31، وانظر الخبر في تذكرة السامع والمتكلم ص31.

4 مجمع الزوائد 10/ 129، سنن أبي دواد 4/ 325، المعجم الأوسط 3/ 34، المعجم الكبير 23/ 320، 24/ 9، تحفة الأحوذي 9/ 272، فيض القدير 5/ 124. وانظر تذكرة السامع والمتكلم 31.

ص: 123

حسبي الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم ثبت جناني، وأدر على الحق لساني"1، ويديم ذكر الله تعالى إلى أن يصل إلى المجلس، فإذا وصل يسلم على مَن حضر، ويصلي ركعتين "إن لم يكن وقت كراهة"2، فإذا كان مسجدا تأكدت الصلاة وإن كان وقت كراهة، ثم يجلس بوقار وسكينة وتواضع وخشوع، والأولى أن يكون مستقبل القبلة3 كيف اتفق لا مقعيا إلا قعاء4 المكروه في الصلاة ولا مستوفزا5، ولا رافعا إحدى رجليه على الأخرى، ولا مادا رجليه أو إحداهما من غير عذر، وأن يصون بدنه عن الزحف والتنقل عن مكانه، ويديه عن العبث والتشبيك بهما، وعينيه عن تفريق النظر بلا حاجة، ويتقي المزاح وكثرة الضحك؛ فإنه يقلل الهيبة ويسقط الحشمة6.

ومنها: أن يحسن خلقه مع جلسائه ويوقر فاضلهم بعلم أو سن أو صلاح أو شرف أو نحو ذلك، ويرفعهم في المجلس على حسب تقديمهم في الإمامة ويكرمهم بحسن السلام، وطلاقة الوجه، والبشاشة والابتسام وبالقيام لهم على سبيل الاحترام7، ولشيخ الإسلام محيي الدين في الترخيص في كتاب مستقل8

1 تذكرة السامع والمتكلم 32.

2 زيادة من تذكرة السامع والمتكلم 32، يقتضيها السياق.

3 تذكرة السامع والمتكلم 32.

قال سلم بن جنادة: جالست وكيعا سبع سنين فما رأيته بزق ولا مس حصاة ولا جلس مجلسه فتحرك، ولا رأيته إلا مستقبل القبلة، وما رأيته يحلف بالله. وكان وكيع بن الجراح أحد الأئمة الأعلام، وكفى بالعالم أن يقتدي بمثل هذا الإمام. انظر تذكرة الحفاظ 1/ 306.

4 شرح النووي على صحيح مسلم 4/ 215.

5 يقال: استوفز في قعدته: انتصب فيها غير مطمئن، أو وضع ركبتيه ورفع إلييه، أو استقل على رجليه.

6 تذكرة السامع والمتكلم 32.

7 تذكرة السامع والمتكلم 33.

8 هو كتاب "الترخيص في الإكرام بالقيام لذوي الفضل والمزية من أهل الإسلام". انظر كشف الظنون 1/ 398.

ص: 124

شفى فيه الغليل، وأتى فيه بواضح الدليل، وأجاب عما يوهم كراهته، نفع الله ببركاته.

ومنها: أن يقدم تلاوة القرآن العظيم في البحث والتدريس، ثم إن كان في مدرسة اتبع شرطها، ويدعو عقيب القراءة لنفسه وللحاضرين وسائر المسلمين1 بعد أن يدعو للعلماء الماضين، ومشايخه ووالديه والحاضرين ولواقف المكان، وكان بعضهم يؤخر ذكر نفسه في الدعاء عن الحاضرين تأدبا والكل حسن، وقد عمل قوم بالأول، وقوم بالثاني2. انتهى.

ويستحب لهم إذا اجتمعوا للعلم قراءة سورة، وكان الحافظ الشهاب ابن حجر3 يستفتح مجلس إملائه بسورة الأعلى، وسُئل عن الحكمة في قراءتها فقال: تبعت في ذلك شيخنا العراقي4 ومناسبتها: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] وقوله: {فَذَكِّرْ} [الأعلى: 9] وقوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [الأعلى: 18] . ويستحب إذا اجتمع صاحبان أن يقرآ قبل التفرق سورة العصر، ولمن رأى ما يحب أن يقول: الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، أو يكره: الحمد لله

1 تذكرة السامع والمتكلم 34.

2 تذكرة السامع والمتكلم 35.

3 هو أبو الفضل، أحمد بن علي بن محمد الكناني العسقلاني، شهاب الدين، ابن حجر: من أئمة العلم والتاريخ، ولع بالأدب والشعر، ثم أقبل على الحديث، ورحل إلى اليمن والحجاز وغيرهما لسماع الشيوخ، وعلت شهرته، فقصده الناس للأخذ عنه، وأصبح حافظ الإسلام في عصره، وكان فصيح اللسان، راوية للشعر، عارفا بأيام المتقدمين، وأخبار المتأخرين، وولي قضاء مصر مرات ثم اعتزل، أما تصانيفه فهي كثيرة جليلة، عظيمة الفائدة، مولده ووفاته بالقاهرة سنة 852هـ. الضوء اللامع 2/ 36، والأعلام 1/ 178.

4 هو أبو الفضل، عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن، زين الدين، المعروف بالحافظ العراقي: بحاثة، من كبار حفاظ الحديث، أصله من الكرد، ومولده في رازنان "من أعمال إربل" تحول صغيرا مع أبيه إلى مصر، فتعلم ونبغ فيها، وقام برحلة إلى الحجاز والشام وفلسطين، وعاد إلى مصر، فتوفي في القاهرة سنة 806هـ، وتصانيفه كثيرة مفيدة. إنباء الغمر 2/ 275، والضوء اللامع 4/ 171، والأعلام 3/ 344.

ص: 125

على كل حال، أو أعجبه شيء: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ولمن أتاه خبر صالح: اللهم لك الحمد شكرا، ولك المن فضلا، ولمن غضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولمن قام من مجلسه: سبحان الله وبحمده، وفي رواية: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وفي رواية: اللهم تب علي واغفر لي ثلاثا، وفي رواية: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين1.

ومنها: إذا تعددت الدروس2 أن يقدم أشرف العلوم وأهمها، فيقدم التفسير ثم الحديث ثم الفقه، ثم الأصول أصول الدين ثم أصول الفقه ثم المذهب ثم الخلاف أو النحو أو الجدل، وبعضهم أخَّر الجدل عن الخلاف، وكان بعضهم يختم درسه3 برقائق تفيد تطهير الباطن، فإن كان في مدرسة لواقفها في الدروس شرط اتبعه ولا يخل بما هو أهم ما بنيت له تلك البنية ووقفت لأجله.

ومنها: ألا يطيل4 مجلسه تطويلا يملهم أو يمنعهم فهم الدرس وضبطه؛ لأن المقصود إفادتهم وضبطهم، فإذا صاروا إلى هذه الحالة فات المقصود، ولا يقصره تقصيرا يخل، فيراعي المصلحة في التطويل والتقصير.

ومنها: ألا يدرس5 وبه ما يزعجه ويذهب استحضاره؛ كمرض أو جوع أو عطش6 أو مدافعة حدث أو شدة فرح أو غم أو غضب أو نعاس أو قلق، ولا

1 هذه الآيات آخر سورة الصافات "الآيات: 180 و181 و182" انظر تفسير الطبري 10/ 542-543، والقرطبي 15/ 140 و141.

2 تذكرة السامع والمتكلم 35.

3 تذكرة السامع والمتكلم 37.

4 تذكرة السامع والمتكلم 38.

5 تذكرة السامع والمتكلم 33.

6 قلت: هذا من أعظم الأمور التي لوحظت في الدرس من القرون السالفة إلى هذا العصر، وقد حكي أن أبا يوسف -رحمه الله تعالى- كان يذاكر الفقه مع الفقهاء بقوة ونشاط، وكان صهره عنده يتعجب في أمره ويقول: أنا أعلم أنه جائع منذ خمسة أيام ومع ذلك يناظر بقوة ونشاط، وانظر تعليم المتعلم للزرنوجي 21.

ص: 126

في حال برده المؤلم، وحره المزعج، فربما أجاب أو أفتى بغير الصواب، ولأنه لا يتمكن مع ذلك من استيفاء النظر، ولا يكون في مجلسه ما يؤذي الحاضرين؛ بل يكون واسعا مصونا من الحر والبرد والريح والغبار والدخان ونحو ذلك.

ومنها: ينبغي مراعاة1 مصلحة الجماعة في تقديم وقت الحضور وتأخيره في النهار، وأفتى بعض أكابر العلماء أن المدرس إذا درس قبل طلوع الشمس أو أخره إلى بعد الظهر لم يستحق معلوم التدريس إلا أن يقتضيه شرط الواقف لمخالفته العرف المعتاد، ولا يرفع صوته زيادة على الحاجة، ولا يخفضه خفضا يمنعهم من كمال الفهم2، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله يحب الصوت الخفيض ويبغض الصوت الرفيع"3، قال أبو عثمان محمد4 بن الإمام الشافعي رضي الله عنهما: ما سمعت أبي يناظر أحدا قط فرفع صوته5؛ أي: لم يرفع فوق العادة6، فإن حضر فيهم ثقيل السمع، فلا بأس بعلو صوته بقدر ما يسمعه7.

ومنها: أن يصون مجلسه من اللغط، وعن رفع الأصوات، وسوء الأدب في المباحثة واختلاف جهات البحث8، قال الربيع9: كان الشافعي إذا ناظره أحد

1 تذكرة السامع والمتكلم 44.

2 تذكرة السامع والمتكلم 39.

3 الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/ 412، وانظر أيضا تذكرة السامع والمتكلم 39.

4 وهو أكبر أولاد الشافعي، ولما توفي والده كان بالغا مقيما بمكة، ولي القضاء بالجزيرة وأعمالها، وولي أيضا القضاء بمدينة حلب، وبقي بها سنين كثيرة، توفي في الجزيرة بعد سنة 240هـ. طبقات الشافعية الكبرى 2/ 71.

5 تذكرة السامع والمتكلم 39.

6 في تذكرة السامع والمتكلم 39 قال البيهقي: "أراد -والله أعلم- فوق عادته".

7 تذكرة السامع والمتكلم 39.

8 تذكرة السامع والمتكلم 40.

9 هو أبو محمد، الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي، بالولاء، المصري: صاحب الإمام الشافعي، وراوي كتبه، وأول من أملى الحديث بجامع ابن طولون، كان مؤذنا، وفيه سلامة وغفلة، مولده ووفاته في مصر سنة 270هـ. السير 12/ 587، وطبقات السبكي 2/ 132.

ص: 127

في مسألة فغدا إلى غيرها يقول: نفرغ من هذه المسألة ثم نعود إلى ما تريد1، والقصد من البحث ظهور الحق، وحصول الفائدة، واستفادة البعض من البعض لا القيام مع النفوس والجدل والمماراة، فإن ذلك مذموم شرعا، فلا يليق بأهل العلم تعاطي المناقشة بالمنافسة والشحناء؛ لأن ذلك يورث العداوة والبغضاء، بل يجب الاجتماع على الحق، عملا بقول الله تعالى:{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 8] وليزجر من تعدى في بحثه، وظهر منه سوء أدب، أو لدد2، أو ترك إنصاف بعد ظهور الحق، أو أكثر الصياح بغير فائدة، أو أساء أدبه على غيره من الحاضرين أو الغائبين، أو ترفع في المجلس على من هو أولى منه، أو نام، أو تحدث مع غيره، أو ضحك، أو استهزأ بأحد3، وينبغي أن يكون له نقيب فطن كيس درب يرتب الحاضرين ومن يدخل عليه على قدر منازلهم، ويوقظ النائم، وينبه الغافل، ويأمر بسماع الدروس والإنصات لها4.

ومنها: أن يلازم5 الإنصاف في بحثه وخطابه، ويسمع السؤال من مورده على وجهه، وإذا عجز السائل عن تقرير ما أورده لحياء ونحوه عبَّر الشيخ عن مراده، وبين وجه إيراده، ثم يجيبه عن ذلك السؤال، ويفهمه إياه على أحسن منوال، وينبغي أن تيودد لغريب حضر عنده لينشرح صدره، فإن للقادم دهشة6.

1 تذكرة السامع والمتكلم 40.

2 لدَّه يَلُدُّه لدًّا: خصمه، فهو لاد ولدود، تاج العروس 9/ 138.

3 تذكرة السامع والمتكلم 41، وانظر ما قاله أبو حازم الأعرج، وكان من العلماء الأبرار: "رأيتنا في مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيها أدنى خصلة فينا التواسي بما في أيدينا، وما رأيت فيه متمارين ولا متنازعين في حديث لا ينفعنا

". انظر تذكرة الحفاظ 1/ 124.

4 تذكرة السامع والمتكلم 41، والحق أن بالمذاكرة يثبت المحفوظ، وأن مذاكرة حاذق في الفن ساعة أنفع من المذاكرة والمطالعة والحفظ ساعات بل أيام.

5 تذكرة السامع والمتكلم 41.

6 تذكرة السامع والمتكلم 43، وهناك أمثلة كثيرة تدل على مثل هذه الشفقة على المتعلم، وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: قلت لسعد بن مالك: إني أريد أن أسألك عن شيء، وإني أهابك، فقال: لا تهبني يابن أخي، إذا علمت أن عندي علما فسلني عنه.

ص: 128

ومنها: إذا أقبل بعض الفضلاء وقد شرع في مسألة أمسك عنها حتى يجلس وإن جاء في أثناء بحثها أعادها له1.

ومنها: إذا سُئل عن شيء لا يعرفه، أو عرض في الدرس ما لا يعرفه فليقل: لا أعرفه، أو لا أتحققه، أو لا أدري2، ولا يستنكف عن ذلك، فمن علم العالم أن يقول فيما لا يعلم: لا أعلم والله أعلم، قال ابن مسعود رضي الله عنه: يأيها الناس، من علم شيئا فليقل به، ومن لا يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] وقال عمر رضي الله عنه: نهينا عن التكلف، وقال علي رضي الله عنه: إذا سئلتم عما لا تعلمون فاهربوا، قالوا: كيف الهرب؟ قال: تقولون الله أعلم، وقال ابن عباس: إذا ترك العالم لا أدري أُصيبت مقاتله3، وقد نظمه الإمام أبو بكر4 بن دريد فقال "من الطويل":

1 تذكرة السامع والمتكلم 44.

2 تذكرة السامع والمتكلم 42، وقد قال العلماء: كلمة "لا أدري" نصف العلم، لنا أمثلة عالية في هذا التعليم، وذلك عن الإمام الجليل، إمام الكوفيين في اللغة والنحو؛ حيث قال أبو عمر الزاهد وهو غلام ثعلب: كنت في مجلس أبي العباس ثعلب فسأله سائل عن شيء، فقال: لا أدري، فقال له: أتقول لا أدري وإليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد؟! فقال له أبو العباس ثعلب: لو كان لأمك بعدد ما لا أدري بعر لاستغنت.

وقيل: ينبغي للعالم أن يورث أصحابه لا أدري لكثرة ما يقولها، واعلم أن قول المسئول لا أدري لا يضع من قدره كما يظنه بعض الناس الجهلة بل يرفعه؛ لأنه دليل عظيم على عظم محله وقوة دينه، وتقوى ربه، وطهارة قلبه، وكمال معرفته، وحسن تثبته. تذكرة السامع والمتكلم 42-43.

3 تذكرة السامع والمتكلم 42.

4 هو أبو بكر، محمد بن الحسن بن دريد الأزدي: من أئمة اللغة والأدب، ولد في البصرة، وانتقل إلى عمان، وعاد إلى البصرة، ثم رحل إلى نواحي فارس، فقلده "آل ميكال" ديوان فارس، ثم رجع إلى بغداد، وأقام بها حتى وفاته، كانوا يقولون: ابن دريد أشعر العلماء وأعلم الشعراء، وهو صاحب المقصورة الدريدية الشهيرة، وله ديوان شعري مطبوع، توفي في سنة 321هـ. تاريخ بغداد 2/ 195، ووفيات الأعيان 4/ 323.

ص: 129

ومن كان يهوى أن يُرى متصدرا

ويكره لا أدري أصيبت مقاتله1

وقال ابن عمر رضي الله عنه وقد سئل عن شيء: لا أدري، ثم أتبعها فقال: أتريدون أن تجعلوا ظهورنا لكم جسورا في جهنم أن تقولوا: أفتانا بهذا ابن عمر2، وقال ابن عمر أيضا: العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة ماضية، ولا أدري3، وقال بعضهم: تعلم لا أدري فإنك إن قلت لا أدري علموك حتى تدري، وإن قلت أدري سألوك حتى لا تدري، قال شيخ الإسلام النووي كغيره: واعلم أن معتقد المحققين أن قول العالم لا أدري لا يضع منزلته بل هو دليل على عظم محله وتقواه وكمال معرفته؛ لأن المتمكن لا يضره عدم معرفته مسائل معدودة بل يستدل بقول لا أدري على تقواه، وأنه لا يجازف في فتواه، وإنما يمتنع من لا أدري من قل علمه وقصرت معرفته وضعف تقواه؛ لأنه يخاف لقصوره أن يسقط من أعين الحاضرين، وهذه جهالة منه؛ فإنه بإقدامه على الجواب فيما لا يعلمه يبوء بالإثم العظيم، وهو مجازف لجهله وقلة دينه، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال:"المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" 4، وقد أدب الله تعالى العلماء بقصة موسى والخضر عليهما السلام حين لم يرد موسى العلم إلى الله تعالى لما سُئل: هل أحد في الأرض أعلم منك؟ 5

1 ديوان ابن دريد 105، وقبله:

جهلت فعاديت العلوم وأهلها

كذاك يعادي العلم من هو جاهله

2 الزهد لابن المبارك 1/ 18.

3 المعجم الأوسط 1/ 299، والتمهيد 4/ 266، وفيض القدير 4/ 387.

4 سنن أبي داود 4/ 299، والبيان والتعريف 2/ 238، والديباج 5/ 167، وصفوة الصفوة 1/ 208، والجامع لمعمر بن راشد 11/ 248.

5 تذكرة السامع والمتكلم 43، ولنا في ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، عن جبير بن مطعم عن أبيه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي البلاء شر؟ قال:"لا أدري"، فلما أتى جبريل محمدا صلى الله عليه وسلم قال:"يا جبريل، أي البلاد شر؟ " قال: لا أدري حتى أسأل ربي، فانطلق جبريل فمكث ما شاء الله له أن يمكث، ثم جاء، فقال: يا محمد سألتني: أي البلاد شر؟ وإني قلت: لا أدري، وإني سألت ربي: أي البلاد شر؟ فقال: أسواقها. المستدرك 1/ 90.

ص: 130