المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القسم الثاني: آدابه مع شيخه وقدوته وما يجب عليه من تعظيم حرمته - العقد التليد في اختصار الدر النضيد = المعيد في أدب المفيد والمستفيد

[العلموي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مدخل

- ‌مقدمة التحقيق:

- ‌مصادر ترجمة المؤلف بدر الدين الغزي:

- ‌مصادر ترجمة صاحب المختصر عبد الباسط العلموي:

- ‌ترجمة مؤلف المختصر:

- ‌العلموي وكتابه التلخيصي:

- ‌تحليل كتاب "المعيد" للعلموي:

- ‌وصف النسخة المخطوطة:

- ‌النص المحقق:

- ‌المقدمة: في الأمر بالإخلاص والصدق وإحضار النية:

- ‌الباب الأول: في فضيلة الاشتغال بالعلم على ما تقدم في ترتيبه

- ‌الفصل الأول: في فضيلة الاشتغال بالعلم وتصنيفه وتعلمه

- ‌الفصل الثاني: في تحذير مَن أراد بعلمه غير الله تعالى

- ‌الفصل الثالث: في تحذير مَن آذى أو انتقص عالما

- ‌الفصل الأول: في أقسام العلم الشرعي وهي ثلاثة: تفسير، وحديث، وفقه

- ‌الباب الثالث: في آداب المعلم والمتعلم

- ‌النوع الأول: آدابهما في نفسهما وآدابهما في جلس الدرس

- ‌القسم الأول: آدابهما في نفسهما وآدابهما في مجلس الدرس

- ‌القسم الثاني: آدابهما في درسهما واشتغالهما

- ‌النوع الثاني: آداب يختص بها المعلم وقد يشاركه في بعضها المتعلم

- ‌القسم الأول: آدابه في نفسه وتقدم منها جملة في الآداب المشتركة

- ‌القسم الثاني: آداب المعلم مع طلبته

- ‌القسم الثالث: آدابه في درسه

- ‌النوع الثالث: آداب يختص بها المتعلم

- ‌القسم الأول: آدابه في نفسه

- ‌القسم الثاني: آدابه مع شيخه وقدوته وما يجب عليه من تعظيم حرمته

- ‌الباب الرابع: في أدب المفتي والفتوى والمستفتي

- ‌مدخل

- ‌النوع الأول: في الأمور المعتبرة في كل مفتٍ

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: في الأمور المعتبرة في كل مفتٍ:

- ‌الفصل الثاني: في تقسيم المفتين

- ‌النوع الثاني: في أحكام المفتي وآدابه

- ‌النوع الثالث: في آداب الفتوى:

- ‌النوع الرابع: آداب المستفتي وصفته وأحكامه

- ‌الباب الخامس: في شروط المناظرة وآدابها وآفاتها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: في بيان شروط المناظرة

- ‌الفصل الثاني: في آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق

- ‌مدخل

- ‌مناظرة بين الشافعي ومالك رضي الله عنهما

- ‌مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما

- ‌مناظرة بينهما أيضا وهي مشهورة

- ‌مناظرة بينهما أيضا

- ‌مناظرة بين الشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما

- ‌مناظرة جرت بحرة الشافعي رضي الله عنه

- ‌مناظرة جرت بحضرة الشافعي وأقام هو الحجة فيها:

- ‌مناظرة بين أبي العباس أحمد بن سريج وأبي بكر محمد بن داود رحمهم الله

- ‌مناظرة بينهما أيضا في الأصلح والتعليل

- ‌ في الأدب مع الكتب التي هي آله العلم

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهارس العامة:

- ‌ فهرس الآيات القرآنية:

- ‌ فهرس الأحاديث النبوية:

- ‌ فهرس الأعلام والأقوام والجماعات:

- ‌ فهرس الكتب المذكورة في متن الكتاب:

- ‌ فهرس الأشعار والأرجاز:

- ‌ فهرس المصادر والمراجع:

- ‌ فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌القسم الثاني: آدابه مع شيخه وقدوته وما يجب عليه من تعظيم حرمته

‌القسم الثاني: آدابه مع شيخه وقدوته وما يجب عليه من تعظيم حرمته

الفصل الثاني: آدابه مع شيخه وقدوته، وما يحب عليه من تعظيم حرمته 1:

فمنها: ينبغي للطالب أن يقدم النظر ويستخير الله فيمن يأخذ العلم منه، ويكتسب حسن الأخلاق والآداب منه، وليكن ممن كملت أهليته، وظهرت ديانته، وتحققت معرفته، وعرفت عفته، واشتهرت صيانته وسيادته، وظهرت مودته وحسن تعليمه، ولا يرغب الطالب فيمن زاد علمه ونقص ورعه أو دينه، فعن السلف: هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم2.

قالوا: ولا يأخذ العلم ممن كان أخذه له من بطون الكتب من غير قراءة على شيوخ أو على شيخ حاذق له معرفة تامة ولو بعلم واحد ومشاركة في بعض العلوم خوفا من التصحيف والغلط، وقال الشافعي: من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام3، وقيل: من تفقه من بطون الكتب بدل الأحكام، ومن طب من بطون الكتب قتل الأنام، وليحذر4 من أن يتقيد الطالب بالمشايخ المشهورين، وترك الأخذ عن الخاملين، فقد عد الغزالي5 ذلك من الكبر على العلم، وجعله عين الحماقة؛ لأن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث6 وجدها، ويغتنمها حيث ظفر بها، ويتقلد المنة ممن ساقها إليه، وربما يكون الخامل له بركة ونفع فيحصل به تمام النفع7.

ومنها: أن ينظر معلمه بعين الاحترام، والإجلال والإكرام، ويعتقد فيه كمال

1 انظر هذا الباب في تذكرة السامع 85 فما بعد.

2 التمهيد لابن عبد البر 1/ 46، وكشف الخفاء 1/ 302، والكفاية في علم الرواية 1/ 121.

3 تذكرة السامع 87.

4 تذكرة السامع 87.

5 تذكرة السامع 86.

6 تذكرة السامع 86.

7 تذكرة السامع 86.

ص: 141

الأهلية فإن ذلك ينفعه1، وكان بعض السلف2 إذا توجه إلى شيخه تصدق بشيء وقال: اللهم استر عيب معلمي عني، ولا تذهب بركة علمه3 مني، وقال الشافعي رضي الله عنه: كنت أصفح الورقة بين يدي مالك رحمه الله صفحا رفيقا هيبة له لئلا يسمع وقعها4، وقال الربيع: والله ما أجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلَيَّ هيبة له5، وقال حمدان بن الأصبهاني6: كنت عند شريك7 فأتاه بعض أولاد الخليفة المهدي فاستند إلى الحائط وسأله عن حديث فلم يلتفت إليه وأقبل علينا، ثم عاد فعاد شريك بمثل ذلك، فقال ابن الخليفة: أتستخف بأولاد الخلفاء؟ قال: لا ولكن العلم أجل عند الله من أن أضيعه8، فجثى على ركبتيه فقال شريك: هكذا يُطلب العلم9، روي أن يحيى بن سعيد10 القطان كان يصلي العصر ثم يستند إلى أصل منارة مسجده، فيقف بين يديه: علي بن المديني11

1 تذكرة السامع 88.

2 تذكرة السامع 88.

3 تذكرة السامع 88.

4 تذكرة السامع 88.

5 تذكرة السامع 88.

6 هو حمدان بن علي الأصبهاني.

7 هو أبو عبد الله، شريك بن عبد الله بن الحارث النخعي الكوفي: عالم بالحديث، فقيه، اشتهر بقوة ذكائه وسرعة بديهته، كان قاضيا، وكان عادلا في قضائه، مولده في بخارى، ووفاته بالكوفة سنة 177هـ. تاريخ بغداد 9/ 279، والأعلام 3/ 163.

8 أدب الإملاء والاستملاء 133.

9 أدب الإملاء والاستملاء 133، تذكرة السامع ص88، وكتاب العلم للنووي ص105، والسير 8/ 184.

10 أبو سعيد يحيى بن سعيد بن فروخ القطان التميمي: من حفاظ الحديث، ثقة حجة، من أقران مالك وشعبة، من أهل البصرة، كان يفتي بقول أبي حنيفة. قال أحمد بن حنبل:"ما رأيت بعيني مثل يحيى القطان"، توفي في سنة 198هـ. تاريخ بغداد 14/ 135، وتذكرة الحفاظ 1/ 274.

11 هو أبو الحسن، علي بن عبد الله بن جعفر، المديني، البصري: محدث مؤرخ، كان حافظ عصره، وكان أعلم من الإمام أحمد باختلاف الحديث، له نحو مائتي مصنف، ولد بالبصرة، ومات بسامراء سنة 234هـ. تذكرة الحفاظ 2/ 15، وتهذيب التهذيب 7/ 349.

ص: 142

والشاذكوني1، وعمرو بن2 علي، وأحمد بن حنبل3، ويحيى بن معين4 وغيرهم يسألونه عن الحديث وهم قيام على أرجلهم إلى أن تحين صلاة المغرب لا يقول لواحد منهم اجلس ولا يجلسون هيبة له وإعظاما، قلت: وهذا القيام بين يديه لله لا له، وإنما لما خصه الله من العلم وهيبته ومنحته، فلا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم:"من أراد أن يتمثل الناس له قياما فليتبوأ مقعده من النار" 5؛ لأنه لا يحب ذلك لنفسه؛ وإنما للسر المودع فيه من العلم، ولتهذيب أخلاق الطلبة وصونهم عن التكبر وتخلقهم بالتواضع6، والله أعلم.

ومنها: أن يعرف للمعلم7 حقه، ولا ينسى له فضله ويتواضع8 له ويذل

1 هو أبو أيوب، سليمان بن داود بن بشر المنقري البصري، المعروف بالشاذكوني: الحافظ الشهير، قال عنه السيوطي: من أفراد الحافظين إلا أنه واهٍ، جالس الأئمة والحفاظ ببغداد، ثم خرج إلى أصبهان فسكنها، وانتشر حديثه بها، وكان ذا هيئة حسنة، كما كان يتهم بشرب النبيذ وغير ذلك، وكان يتهم بوضع الحديث، مات بالبصرة سنة 234هـ. طبقات الحفاظ 236، والسير 10/ 679.

2 هو أبو حفص، عمرو بن علي بن بحر السقاء الفلاس: باحث من أهل البصرة، سكن بغداد، كان من حفاظ الحديث الثقات، ففي أصحاب الحديث من يفضله على ابن المديني، مات في سر من رأي سنة 249. تهذيب التهذيب 8/ 80، والأعلام 5/ 82.

3 الإمام الكبير، صاحب المذهب، وصاحب المسند.

4 أبو زكريا، يحيى بن معين بن عوف بن زياد البغدادي: من أئمة الحديث ومؤرخي رجاله، نعته الذهبي بسيد الحفاظ، وقال العسقلاني: إمام الجرح والتعديل، وقال ابن حنبل: أعلمنا بالرجال، خلف له أبوه ثروة كبيرة، فأنفقها في طلب الحديث، عاش في بغداد، ومات بالمدينة حاجا سنة 233هـ. تاريخ بغداد 14/ 177، وتهذيب التهذيب 11/ 280.

5 رواه أبو داود رقم 5229 في الأدب، والترمذي رقم 2756 في الأدب، ومجمع الزوائد 8/ 40، وفيض القدير 6/ 41، والجامع لأخلاق الراوي 1/ 400.

6 تفسير القرطبي 9/ 266، وفتح الباري 11/ 50.

7 تذكرة السامع 90، وقد قال قرة بن خالد: كان الحسن إذا قدم عكرمة البصرة أمسك عن التفسير والفتيا ما دام عكرمة بالبصرة.

8 تذكرة السامع 90.

ص: 143

ويعلم أن ذله لشيخه عز، وخضوعه له فخر، وتعظيم حرمته مثوبة، والتشمير في خدمته شرف، قال صلى الله عليه وسلم:"تعلموا العلم، وتعملوا للعلم السكينة والوقار وتواضعوا لمن تعلمون منه"1، وأخذ ابن عباس رضي الله عنهما مع جلالته ومزيته بركاب زيد بن ثابت2 رضي الله عنه وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا3، ويقال: إن الشافعي رحمه الله عوتب على تواضعه للعلماء فقال "من الطويل":

أهين لهم نفسي فهم يكرمونها

ولن تكرم النفس التي لا تهينها4

ومنها: ألا ينكر عليه، ولا يتأمر عليه، ولا يشير عليه بخلاف رأيه فيرى أنه أعلم بالصواب منه "من الطويل":

وإن عناء أن تعلم جاهلا

فيزعم جهلا أنك منك أفهم5

بل ينقاد إليه في أموره كلها، ويلقي إليه زمام أمره، ويذعن لنصحه، ويتحرى رضاه، ولا يختار إلا اختياره، ويأتمر بأمره، ولا يخرج عن رأيه، وليدع رأيه، فخطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه، وفي قصة موسى والخضر تنبيه على ذلك6، وبالجملة فيكون معه كالمريض مع الطبيب الماهر الناصح، بل هذا أولى لتفاوت ثمرتيهما، والله أعلم.

1 جامع بيان العلم وفضله 1/ 125.

2 هو أبو خارجة، زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي: صحابي، من أكابرهم، كانت كاتب الوحي، ولد في المدينة، ونشأ في مكة، توفي في سنة 45هـ، ولما مات قال أبو هريرة: اليوم مات حبر هذه الأمة. الإصابة ترجمة رقم 2880.

3 تذكرة السامع 87، والمستدرك 3/ 423، والإصابة، وصفة الصفوة 1/ 295، وبقية الخبر: "فأخذ زيد كفه وقبلها وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا

".

4 البيت في ديوانه ص89، وانظره في آداب الشافعي ومناقبه 127، والجامع لأخلاق الراوي 1/ 552، وحلية الأولياء 9/ 148.

5 البيت لصالح بن عبد القدوس. وانظر جامع بيان العلم 1/ 447.

6 سورة الكهف، الآية 69، وانظر أيضا تذكرة السامع 88.

ص: 144

ومنها: أن يبجله في خطابه في غيبته وحضوره، ولا يخاطبه بتاء الخطاب وكافه، ولا يناديه من بُعْد، بل يقول: يا سيدي1 ويا أستاذي، أو يأيها العالم أو الحافظ، ويخاطبه بصيغة الجمع نحو ما تقولون في كذا، وما رأيكم في كذا، وقلتم رضي الله عنكم، وأجزتم رضي الله عنكم، ولا يسميه في غيبته باسمه إلا مقرونا بما يشعر بالتعظيم كقوله: قال الشيخ أو شيخنا أو سيدنا أو شيخ الإسلام أو حجة الإسلام ونحو ذلك2، فمراعاة حرمته وهديه في غيبته وبعد موته، فلا يغفل عن الدعاء له مدة حياته، ويرد غيبته ويغضب لها، فإن عجز عن ذلك قام وفارق المجلس3 الذي يُغتاب فيه شيخه، ويراعي ذريته وأقاربه بعد موته، ويتعاهد زيارة قبره والاستغفار له والترحم عليه والصدقة عنه، ويسلك مسلكه، ويراعي في الدين عادته، ويقتدي بحركاته وسكناته في عباداته وعاداته، ويتأدب بآدابه4، ويشكر الشيخ إذا نصحه في أمر نقيصة صدرت منه، وعلى فضيلة نبهه عليها وشوهدت منه، ويعد ذلك من نعم الله عليه من الشيخ باعتناء الشيخ به ونظره إليه.

ومنها: أن يصبر على هفوة تصدر من شيخه أو جفوة أو سوء خلق، ولا يصده ذلك عن ملازمته وحسن عقيدته واعتقاد كماله، ويتأول أفعاله التي ظاهرها مذموم على أحسن تأويل، فما يعجز عن ذلك إلا قليل التوفيق، ويبدأ هو عند جفوة الشيخ بالاعتذار والتوبة والاستغفار5، وينسب الموجب إليه، ويوقع العتب عليه، فإن ذلك أبقى لمودة شيخه، وأحفظ لقلبه، وأنفع في الدنيا والآخرة6، فمن صبر على ذل التعليم آل أمره إلى عز الدنيا والآخرة، ومن لم

1 تذكرة السامع 89.

2 تذكرة السامع 89.

3 تذكرة السامع 90.

4 تذكرة السامع 90.

5 تذكرة السامع 91.

6 تذكرة السامع 91.

ص: 145

يصبر بقي عمره في غاية الجهالة1، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ذللت طالبا فعززت مطلوبا2، ولبعضهم "من الكامل":

فاصبر لدآئك إن أهنت طبيبه

واصبر لجهلك إن جفوت معلما3

إن المعلم والطبيب كلاهما

لا ينصحان إذا هما لم يُكْرَما

قال الشافعي رضي الله عنه: قيل لسفيان بن عيينة: إن قوما يأتونك من أقطار الأرض تغضب عليهم يوشك أن يذهبوا ويتركوك فقال للقائل: هم حمقاء إذن إن تركوا ما ينفعهم لسوء خلقي4.

ومنها: ألا يدخل5 على الشيخ في غير المجلس العام بغير إذنه، سواء كان الشيخ وحده أو معه غيره، فإن استأذن ولم يأذن له انصرف، ولا يكرر الاستئذان، فإن لم يعلم الشيخ يكرر ثلاثا أو ثلاث طرقات للباب، وليكن طرق الباب خفيفا بقدر ما يسمع، وإن أذن وكانوا جماعة تقدم أفضلهم وأسنهم للدخول، ثم يسلم الأفضل فالأفضل.

ومنها: أن يجتهد على أن يسبق في الحضور إلى المجلس قبل حضور الشيخ ويحمل نفسه على ذلك وإن انتظره على باب داره ليخرج ويمشي معه إلى المجلس فهو أولى، ولا يتأخر بحيث يجعل الشيخ في انتظاره، فإن فعل ذلك من غير ضرورة عرض نفسه للذم، وإذا دخل6 على الشيخ فليدخل كامل الهيئة

1 تذكرة السامع 91.

2 تذكرة السامع 91.

3 تذكرة السامع 91، والتمثيل والمحاضرة 164، ومحاضرات الأدباء 1/ 53.

4 تذكرة السامع 91-92.

5 تذكرة السامع 93-94.

6 تذكرة السامع 95.

ص: 146

فارغ القلب من الشواغل، منشرح الصدر، صافي الذهن، لا في حال نعاس أو غضب أو جوع أو عطش، متطهرا نظيفا متسوكا مزيلا روائحه الكريهة، ولا يقرأ على الشيخ عند شغل قلبه وملله ونعاسه وجوعه وعطشه واستيفازه وألمه وقائلته ونحو ذلك مما يمنعه من استيفاء الشرح، ومتى1 دخل على الشيخ في غير المجلس العام وعنده من يتحدث معه فسكتوا عن الحديث، أو دخل الشيخ ليصلي أو يقرأ أو يطالع أو يكتب ولم يبدأه بكلام فليسلم ويخرج سريعا إلا أن يأمره الشيخ بالمكث2، فإذا مكث فلا يطيل المكث خشية أن يدخل في عموم من شغل مشغولا بالله أدركه المقت في الوقت، وإذا حضر مكان الشيخ فلم يجده انتظره ولا يفوت على نفسه درسه، وإن كان نائما صبر حتى يستيقظ3، وروي أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يجلس في طلب العلم على باب زيد بن ثابت وهو نائم فيقال له: ألا نوقظه لك؟ فيقول: لا4، وكذلك كان السلف يفعلون5.

ومنها: ألا يطلب6 من الشيخ وقتا يقرأ فيه وهو عليه مشق، أو لم تجر عادته بالإقراء فيه وإن كان رئيسا؛ لما فيه من الترفع والحمق على الشيخ والطلبة، وربما استحى الشيخ منه وأقرأه وعطل غيره بسببه فلا يفلح، فإن أشار الشيخ عليه بوقت خاص فلا بأس7، وأن يجلس بين يديه8 متأدبا بسكون وإطراق رأس وخضوع وتواضع وخشوع وجلوس الافتراش أو التورك، ويحسن هنا الإقعاء المستحب على وجه في الجلوس بين السجدتين في الصلاة، وهو أن يفترش قدميه ويجلس على بطونهما، ويتعاهد تغطية أقدامه وإرخاء ثيابه9.

1 تذكر السامع 95.

2 تذكرة السامع 95

3 تذكرة السامع 96.

4 تذكرة السامع 96.

5 تذكرة السامع 96.

6 تذكرة السامع 96.

7 تذكرة السامع 97.

8 تذكرة السامع 97.

9 تذكرة السامع 99.

ص: 147

ولا يستند1 بحضرة الشيخ إلى حائط أو مخدة، ولا يعطي الشيخ جنبه ولا ظهره، ولا يجعل يديه ماسكة وراء ظهره، ولا يضع رجله أو يده أو شيئا من بدنه أو ثيابه على ثياب الشيخ أو وسادته أو سجادته، قال بعضهم: ومن تعظيم الشيخ ألا يجلس إلى جانبه ولا على مصلاه، وإن أمره شيخه بذلك فلا يفعله إلا إذا جزم عليه جزما تشق عليه مخالفته، فيمتثل أمره ثم يعود إلى ما يقتضيه الأدب2، هذا وقد تكلم الناس في أي الأمرين أولى: امتثال الأمر، أو سلوك الأدب3، وكان مذهب أبي بكر وعلي رضي الله عنهما الثاني، ومذهب عبد الرحمن4 بن عوف ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما الأول، وقصصهم مشهورة، قال شيخ الإسلام البدر بن جماعة5: والذي يترجح التفصيل، فكل على قدر مقامه، فأبو بكر وعلي مقامهما المراجعة في الأمر، وعبد الرحمن ومعاذ بن جبل مقامهما امتثال الأمر لا المراجعة، وأيضا صاحب الأدب جبره حاصل، وصاحب امتثال الأمر قد يقصد جبره وإظهار احترامه والاعتناء به.

ومنها: أن يلقى السمع وهو شهيد لما يلقيه الشيخ، بحيث لا يُحوِجه إلى إعادة الكلام6، ولا يلتفت عنه يمينا ولا شمالا وفوقا وتحتا وأماما ووراء من غير ضرورة، ولا يضطرب لصيحة يسمعها، ولا يتكلم بيديه إلى وجه الشيخ وصدره ولا يعبث بهما، ولا يضع يده على لحيته أو فمه، أو يعبث بها في أنفه، ولا يشبك أصابعه، ولا يكثر التنحنح من غير حاجة، ولا يبصق ولا يمتخط ولا

1 تذكرة السامع 98.

2 تذكرة السامع 100.

3 تذكرة السامع 100.

4 هو أبو محمد، عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف الزهري القرشي: صحابي، من أكابرهم، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكان من الأجواد العقلاء، وأحد السابقين إلى الإسلام، وتوفي في المدينة سنة 32هـ. الإصابة ترجمة رقم 5171.

5 تذكرة السامع 100.

6 تذكرة السامع 97.

ص: 148

ينخع ما أمكنه، إذا كان كذلك فليأخذها بمنديل ونحوه من فمه، ولا يتجشأ ولا يتمطى، ولا يكثر التثاؤب، وإذا تثاءب ستر فاه بعد رده جُهده، وإذا عطس خفض صوته جهده وستر وجهه بمنديل ونحوه، ويكون ساكنا مطمئنا وقورا وقرا، وذلك لا يخفى على من له أدنى أدب طبيعي.

ومن تتمات ما نحن فيه: أنه لا يسارر في مجلس شيخه ولو في مسألة، ولا يغمز أحدا، ولا يكثر كلامه بغير ضرورة، ولا يحكي ما يُضحك منه أو ما يتضمن سوء أدب، ولا يتكلم بما لم يسأله شيخه عنه، ولا يسأل شيخه ما لم يستأذنه أولا، ولا يضحك من غير عجب دون الشيخ، فإن غلبه الضحك تبسم بغير صوت، ولا يغتب أحدا في مجلسه، أو ينم له عن أحد، أو يوقع بينه وبين أحد ينقل ما يسوؤه كاستنقاص به وتكلم فيه، أو يقول له: فلان يود أن لو أقرأ عليه كالحاث له في أمره، وتركت ذلك لأجلك، ففاعل ذلك مع كونه ارتكب

مكروها أو حراما أو كبيرة مستحق للزجر والإهانة، والطرد والإبانة، وقد جاء عن علي رضي الله عنه: إن من حق العالم ألا تكثر عليه السؤال، ولا تعنته في الجواب، ولا تلح عليه إذا أعرض، ولا تأخذ بثوبه إذا كسل، ولا تشيرن إليه بيدك، ولا تغمزه بعينك ولا تغمز بعينك غيره، ولا تسار في مجلسه، ولا تطلب زلته، وإن زل فاقبل معذرته، وألا تقول: قال فلان خلاف قولك، وأن تحفظه شاهدا وغائبا، وأن تعم القوم بالسلام، وأن تخصه بالتحية، وأن تجلس بين يديه، وعليك أن توقره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقتَ القوم إلى خدمته، وألا تمل من طول صحبته، وإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها منفعة1.

ومنها: أن يحسن خطابه مع الشيخ ما أمكنه2، ولا يقول له: لِمَ؟ ولا

1 جامع بيان العلم وفضله 95، وتذكرة السامع 100.

2 تذكرة السامع 102.

ص: 149

نسلم، ولا من نقل هذا؟ ولا أين موضعه؟ ولا يقل المحظوظ والمنقول غير هذا وشبه ذلك، فإن أراد استفادة أصله أو من نقله، فيراجعه بلطف في مجلس آخر بحسن الأدب ولطف العبارة، وأذا أصر الشيخ على قول أو دليل ولم يظهر له، أو أصر الشيخ على خلاف الصواب سهوا، فلا يغير وجهه أو عينيه أو يشير إلى غيره كالمنكر لما قاله، بل يأخذه ببشر ظاهر وإن لم يكن الشيخ مصيبا لغفلة أو سهو أو قصور نظر في تلك الحال، فإن العصمة في البشر للأنبياء عليهم السلام1، وليحذر من مفاجأة الشيخ2 بصورة رد عليه مثل أن يقول له: أنت قلت فيقول: ما قلت؟ فحاصله إذا فاجأه أو أراد أن يرد عليه فليكن بألطف عبارة ولو في غير ذلك المجلس؛ كأن يقول: هل تلمحتم جوابا عن ذلك الإشكال أو على ذلك التعقب؟ وإذا سبق لسان الشيخ إلى تحريف كلمة ألا يضحك ولا يستهزئ ولا يعيدها كأنه يتنادر بها عليه، ولا يغمز غيره ولا يشير إليه بل ولا يتأمل ما صدر منه ولا يدخله قلبه، ولا يصغى إليه بسمعه، ولا يحكيه لأحد، فإن اللسان سباق والإنسان غير معصوم، وفاعل شيء مما ذكر مع شيخه معرض نفسه للحرمان، والبلاء والخسران، مستحق للزجر والتأديب، والهجر والتأنيب، والله أعلم.

ومنها3: ألا يسبق الشيخ إلى شرح مسألة أو جواب سؤال منه أو من غيره، لا سيما إلا إذا كان من غيره وتوقف الشيخ، ولا يساوقه فيه، ولا يظهر معرفة به أو إدراكه له قبل الشيخ، إلا أن يعلم من الشيخ إيثار ذلك منه، أو عرض الشيخ عليه ذلك ابتداء والتمسه منه فلا بأس به حينئذ، ولا يقطع على الشيخ كلامه ولا يسابقه، وإذا سمع الشيخ يذكر حُكْما في مسألة أو فائدة

1 تذكرة السامع 101-102.

2 تذكرة السامع 102.

3 تذكرة السامع 106-107.

ص: 150

مستغربة أو يحكي حكاية أو ينشد شعرا وهو يحفظ ذلك أن يصغي إليه إصغاء متسفيد متعطش إليه فرح به كأنه لم يسمعه1 قط، قال عطاء2: إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه فأريه من نفسي أني لا أحسن منه شيئا3، وعنه قال: إن الشاب ليتحدث بحديث فأستمع له كأني لم أسمعه، ولقد سمعته قبل أن يولد4، فإن5 سأله الشيخ عند الشروع في ذلك عن حفظه للحديث أو للمسألة فلا يجيب بلا لما فيه من الكذب، ولا يجيب بنعم لما فيه من الاستغناء عن الشيخ، بل يقول: أحب أن أستفيده، أو عهدي به بعيد، فإن علم من حال الشيخ أنه يسره ألا يراد امتحانا لضبطه وحفظه وتحصيله فلا بأس بذلك6، ولا ينبغي أن يكرر ما يعلمه، ولا استفهام ما يفهمه، فإنه يضيع الزمان، وربما أضجر الشيخ، قال الزهري7: إعادة الحديث أشد من نقل الصخر8 ولا ينبغي أن يقصر في الإصغاء والتفهم، أو يشغل ذهنه بفكر أو حديث ثم يستعيد الشيخ ما قاله؛ لأن ذلك إساءة أدب، بل يكون مصغيا لكلامه حاضر الذهن لما يسمعه من أول مرة، وكان بعض المشايخ لا يعيد لمثل هذا إذا استعاده، ويَزبُره عقوبة له، أما إذا لم يسمع كلام الشيخ لبعده أو لم يفهمه

1 تذكرة السامع 104-105.

ويحكى أن جالينوس كان يقرر يوما في مسألة مشكلة والطلبة به محدقون، فقال لهم: فهمتم، قالوا: نعم، قال: لا، لو فهمتم لظهر السرور على وجوهكم.

2 هو ابن أبي رباح، عطاء بن أسلم بن صفوان: تابعي، من أجلاء الفقهاء كان عبدا أسود، ولد في جند باليمن، ونشأ بمكة فكان مفتي أهلها ومحدثهم، قال أبو حنيفة: ما رأيت أحدا أفضل من عطاء، توفي في مكة سنة 114هـ. تذكرة الحفاظ 1/ 92، وتهذيب التهذيب 7/ 199، ونكت الهميان 199.

3 تذكرة السامع 105.

4 تذكرة السامع 105.

5 تذكرة السامع 105.

6 تذكرة السامع 106.

7 هو ابن شهاب الزهري، محمد بن مسلم بن عبد الله، أبو بكر، وهو من أعلم الحفاظ.

8 انظر قوله في تذكرة السامع 106.

ص: 151

مع الإصغاء إليه والإقبال عليه، فله أن يسأل الشيخ إعادته أو تفهيمه بعد بيان عذره بسؤال لطيف1.

ومنها: ألا يسأل عن شيء2 في غير موضعه، ففاعل ذلك لا يستحق جوابا، إلا أن يعلم من حال الشيخ أنه لا يكره ذلك، ويغتنم سؤاله عند طيب نفسه وفراغه، ويتلطف في سؤاله ليحسن في جوابه، قال صلى الله عليه وسلم:"الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم"3.

ومنها: ألا يستحي4 من السؤال عما أشكل عليه، بل يستوضحه أكمل استيضاح، فمن رق وجهه رق علمه، ومن رق وجهه عند السؤال، ظهر نقصه عند اجتماع الرجال، وقال ابن شهاب: العلم خزائن ومفتاحه المسألة5، وإذا قال له الشيخ: أفهمت؟ فلا يقل نعم قبل أن يتضح له المقصود من المسألة إيضاحا جليا؛ لئلا يكذب ولا يستحي من قوله لم أفهم6؛ لأن استثباته يحصل له مصالح عاجلة وآجلة7، فمن العاجلة: حفظ المسألة وسلامته من الكذب وإظهار فهم ما لم يكن فهمه، واعتقاد الشيخ اعتناءه بالعلم ورغبته وكمال عقله وورعه ونصحه لنفسه، ومن الآجلة ثبوت الصواب في قلبه دائما، وعن الخليل ابن أحمد: منزلة الجهل بين الحياء والأنفة8.

ومنها: أن يكون ذهنه حاضرا مع الشيخ9، فإن أمره بشيء بادر إليه ولم يعاوده فيه، وإذا ناوله شيئا تناوله التلميذ باليمين، وإذا تناول هو شيئا تناوله

1 تذكرة السامع 106.

2 تذكرة السامع 157.

3 المعجم الأوسط 7/ 56 و57، وشعب الإيمان 5/ 254، وفيض القدير 3/ 181، وتهذيب الكمال 29/ 230، وكشف الخفاء 1/ 179، ومجمع الزوائد 1/ 16، وصفوة الصفوة 1/ 212.

4 تذكرة السامع 156.

5 سنن الدارمي 1/ 458، حديث رقم 566.

6 تذكرة السامع 157.

7 تذكرة السامع 157.

8 تذكرة السامع 157.

9 تذكرة السامع 108-109.

ص: 152

باليمين، وإذا ناول هو شيخه شيئا ناوله باليمين، وإن كان ورقة كفُتيا أو قصة مثلا نشرها ثم دفعها إليه، ولا يدفعها مطوية إلا إذا علم أو ظن إيثار الشيخ لذلك. وإذا أخذ من الشيخ ورقة بادر إلى أخذها منشورة قبل أن يطويها ويتربها ثم يطويها، وإذا ناول الشيخ كتابا ناوله إياه مهيأ لفتحة من غير احتياج إلى إدارته، وكذا إن كانت مطالعته في موضع معين يهيئه له ولو بالتقريب، ولا يحذف إليه الشيء، ولا يمد يده إلى حاجة إذا كان بعيدا عنها كأن يتكئ لجنبه ليأخذ ذلك الشيء، بل يقوم إليه ولا يزحف زحفا، وإذا وضع بين يديه دواة فليضعها مفتوحة، وإذا ناوله سكينا1 فلا يصوب إليه رأس نصلها ولا نصابها، بل يناوله إياها عرضا؛ لأنه إن ناوله نصلها فقلة أدب من حيث إنه أشار إليه بنصل السكين، وإن ناوله نصابها يخشى على يد المناول من انفتال الحد إلى أصبعه، فالأولى العرض، وليكن الحد في العرض إلى جهته قابضا على طرف النصاب، مما يلي النصل ليأخذ هو بأول النصاب، وإن ناوله سجادة2 ليصلي عليها نشرها أولا، والأدب أن يفرشها عند قصد ذلك، قال ابن جماعة: وإذا فرشها ثنى مؤخر طرفها الأيسر كعادة الصوفية3، فإن كانت مثنية جعل طرفها إلى يسار المصلي، وإن كان فيها صورة محراب تحرى به القبلة إن أمكن4، ولا يجلس بحضرة الشيخ على سجادة، ولا يصلي عليها إذا كان المكان طاهرا5، وإذا قام بادر القوم إلى أخذ السجادة وإلى الأخذ بيده أو عضده إن احتاج6، وإلى تقديم نعله إن لم يشق ذلك على الشيخ، ويقصد بذلك كله

1 تذكرة السامع 109.

2 تذكرة السامع 109.

3 تذكرة السامع 109.

4 تذكرة السامع 109.

5 تذكرة السامع 109.

6 تذكرة السامع 109.

ص: 153

التقرب إلى الله تعالى وإلى قلب الشيخ1، وقيل: أربعة لا يأنف الشريف منهن وأن كان أميرا: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم الذي يتعلم منه، والسؤال عما لا يعلم، وخدمته للضيف2.

ومنها: أن يقوم بقيام الشيخ ولا يجلس وهو قائم، ولا يضطجع وهو قائم أو قاعد، بل ولا يضطجع بحضرته مطلقا إلا أن يكون وقت نوم ويأذن له، ويقوم له كلما ورد عليه ولو تكرر لزيادة التوقير والإعظام والاحترام، وقد تقدم أن شيخ الإسلام النووي ألف كتابا في مسألة القيام3.

ومنها: إذا مشى مع شيخه ليلا فليكن أمامه4، أو نهارا فليكن وراءه إلا أن يقتضي الحال خلاف ذلك لزحمة أو غيرها5، وليتبع في ذلك عادة أهل البلد، فمتى خالف نسب لقلة الأدب، ومما ينسب لشيخ الإسلام البرهان6 بن جماعة ما لفظه: فائدة من عادة الفقراء المشي خلف الشيخ، ومن عادة الفقهاء المشي بين يدي الشيخ، وقد ورد في الحديث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يمشون بين يديه ولا يدع أحدا يمشي خلفه ويقول:"دعوا ظهري للملائكة"7.

قلت: ولهذا ترى الدولة يكون رئيسهم وكبيرهم وراء القوم، وهذا أصله.

ومن فعل عكس ذلك من الأكابر فمراده ألا يتشبه بمن هو أكبر منه؛ ولكن

1 تذكرة السامع 109-110.

2 تذكرة السامع 110.

3 انظر ما سبق 124 الحاشية الثامنة.

4 تذكرة السامع والمتكلم ص110.

5 خرج القاضي ابن سريج، وابن داود الظاهري، ونفطويه إلى وليمة دعوا لها، فأفضى بهم الطريق إلى مكان ضيق، فأراد كل واحد منهم صاحبه أن يتقدم عليه، فقال ابن سريج: ضيق الطريق يورث سوء الأدب، وقال ابن داود: لكنه يعرف مقادير الرجال، فقال نفطويه: إذا استحكمت المودة بطلت التكاليف.

6 هو صاحب كتاب تذكرة السامع والمتكلم، ولم نجد هذا القول في كتابه.

7 مجمع الزوائد 4/ 136، ومسند أحمد 3/ 397، وحلية الأولياء 7/ 117، وسنن الدارمي 1/ 37، والبيان والتعريف 1/ 170، ومصباح الزجاجة 1/ 36، وشرح سنن ابن ماجه 1/ 22.

ص: 154

تفوته السنة، ولا يخفى الفرق بين صدر الصحابة ورئيسهم، ولا بين من تأخر عنهم خصوصا في زماننا؛ لأن الصحابة ورئيسهم صلى الله عليه وسلم كان كأحدهم لا يتميز من بينهم بزيادة ثوب فاخر ولا فرس مسومة، ولا تقدم القوم عليه بمسافة ليمشي وحده مما يُفعل في زماننا من ذلك من تقدم الفرسان ثم المشاة ثم السعادة، ثم الانفراد، وهذا عين الجبروت، فأصله سنة ولكن انقلب ذلك إلى طريق البدعة، اللهم إلا أن يقصد بذلك رهبة العصاة والطغاة والغادرين فلا بأس وهو أعلم بالنيات، والمطلع على الطويات.

ويتعين تقدم التلميذ على الشيخ ليلا ونهارا في المواضع المجهولة1 الحال كالوحل والوجَل والحوض والمواضع الخطرة، ولا يمشي2 إلى جانبه إلا لحاجة أو إشارة منه، ويعرفه بمن يقصده وهو ماشٍ من الأعيان إن لم يعلم به، ويؤثره بجهة الظل في مشيه في الصيف، وفي الشتاء بجهة الشمس، ولا يمشي بين الشيخ3 وبين من يحدثه الشيخ، ويتأخر عنهما أو يتقدم ولا يتسمع، فإن أدخلاه في حديثهما فليدخل من الجانب الآخر عن يمينه أو يساره ليكون الشيخ وسطا، وإذا مشى مع الشيخ اثنان فليكن الأسن عن يمينه، وإذا صادف الشيخ في الطريق بدأه بالسلام، ويقصده إن كان بعيدا ولا يناديه، وإذا رافقه لا يشير ابتداء بالأخذ في طريق حتى يستشيره4، والله أعلم.

1 تذكرة السامع 110.

2 تذكرة السامع 111.

3 عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما" الأدب المفرد 165.

4 تذكرة السامع 111-112.

ص: 155

القسم الثالث: في آداب درسه وقراءته وما يعتمده مع شيخه ورفقته 1 حينئذ:

فمنها: أن يبتدئ أولا من وفقه الله تعالى بحفظ كتاب الله العزيز حفظا2 متقنا فهو أصل العلوم وأهمها، وكان السلف لا يُعلِّمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن، وإذا حفظه فليحذر من الاشتغال عنه بغيره من العلوم كالحديث والفقه اشتغالا يؤدي إلى نسيان شيء منه أو تعريضه للنسيان، بل يتعهد دراسته وملازمة ورد منه كل يوم أو أيام أو جمعة دائما أبدا كما تقدم3، وقال ابن جماعة4: ويجتهد بعد حفظه على إتقان تفسيره وسائر علومه5. انتهى.

ثم يحفظ في كل فن مختصرا6 يجمع فيه بين طرفيه، ويقدم الأهم فالأهم، ومن أهمها الفقه والنحو والتصريف، ثم الحديث وعلومه والأصول، ثم الباقي على ما تيسر، ثم يشتغل باستشراح محفوظاته على المشايخ7، وليحذر من الاعتماد على الكتب ابتداء، بل يعتمد من الشيوخ في كل فن أكثرهم تحقيقا فيه وتحصيلا منه وأحسنهم8 تعليما، فإن أمكن شرح دروس في كل يوم فعل وإلا اقتصر على الممكن من درسين وثلاثة، وإذا اعتمد شيخا وكان لا يتأذى بقراءة ذلك الفن على غيره فليقرأ على ثان وأكثر ما لم يتأذوا،

1 انظر هذا القسم، وهو الفصل الثالث من تذكرة السامع 112، فما بعد.

2 تذكرة السامع 112، ومن حفظ الزهري أنه حفظ القرآن في ثمانين ليلة، تذكرة الحفاظ 1/ 104.

وقال ابن أبي حاتم: لم يدعني أبي أطلب الحديث حتى قرأت القرآن على ابن شاذان، وكان ابن أبي حاتم بحرا في العلوم، ومعرفة الرجال، وقد توفي سنة 327هـ. تذكرة الحفاظ 3/ 428.

وقال ابن خلكان: ولما بلغ الرئيس الحكيم أبو علي ابن سينا عشر سنين من عمره كان قد أتقن علم القرآن العزيز.

3 تذكرة السامع 113.

4 تذكرة السامع 113.

5 تذكرة السامع 113.

6 تذكرة السامع 113.

7 تذكرة السامع 113.

8 تذكرة السامع 113-114.

ص: 156

فإن تأذى المعتمد عليه اقتصر الطالب عليه وراعى قلبه فهو أقرب إلى انتفاعه، ولا يقرأ في كتب لا يحتملها عقله ولا تصوره، والمطالعة في التصانيف المتفرقة يضيع الزمان ويفرق الذهن، بل يعطي الكتاب الذي يقرأه والفن الذي يأخذه كليته حتى يتقنه1.

ومنها: أن يعتني بتصحيح درسه الذي يتحفظه قبل حفظه تصحيحا متقنا2 على شيخه أو على غيره ممن يكون أهلا لذلك، ثم يكرر عليه بعد حفظه تكرارا جيدا، ثم يعين له أوقاتا للمواضي ليرسخ رسوخا تاما، ولا يحفظ ابتداء من الكتب؛ لأنه ربما يقع في التحريف والتصحيف، ويحضر معه الدواة والسكين للتصحيح، ويضبط ذلك لغة وإعرابا، وإذا رد عليه الشيخ لفظه وظن أو علم أن رده خلاف الصواب راجعه برفق لاحتمال سهوه، أو في مجلس آخر لاحتمال أن يكون الصواب مع الشيخ، وهذا لا يفوت على التلميذ بخلاف ما يفوت كأن يكتب الشيخ على رقعة فتوى على خلاف الصواب، وكون السائل غريبا أو بعيد الدار أو مشنعا تعين تنبيه الشيخ في الحال بإشارة أو تصريح، فإن تركه ذلك خيانة للشيخ، فيجب نصحه بلطف، وإذا وقف على مكان في الكتاب المحفوظ منه كتب قبالته بلغ العرض أو التصحيح3، ويبدأ بالدرس الأهم بالأهم من العلوم.

ومنها: أن يذاكر بمحفوظاته ويديم الفكر فيها ويعتني بما يحصل فيها من الفوائد، ويقسم أوقات ليله ونهاره4، ويغتنم ما بقي من عمره5، وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الإبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة

1 تذكرة السامع 117-118.

2 تذكرة السامع 121.

3 تذكرة السامع 126.

4، 5 تذكرة السامع 72، وقال الشيخ فخر الدين الرازي: والله إنني أتأسف في الفوات عن الاشتغال بالعلم في وقت الأكل، فإن الوقت والزمان عزيز.

ص: 157

والمذاكرة الليل1، وقال الخطيب2: أجود أوقات الحفظ الأسحار3، ثم وسط النهار، ثم الغداة، وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع4، وأجود أماكن الحفظ الغرف وكل موضع بعيد عن الملهيات، قال: وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات والخضرة والأزهار وقوارع الطرق وضجيج الأصوات؛ لأنها تمنع من خلو القلب5 غالبا.

ومنها: أن يبكر بدرسه لخبر: "بورك لأمتي في بكورها" 6، ولخبر:"اغدوا في طلب العلم فإني سألت ربي أن يبارك لأمتي في بكورها، ويجعل ذلك يوم الخميس"7 رواه الطبراني بسند ضعيف8، وفي رواية:"بورك لأمتي في بكورها يوم سبتها وخميسها"9، وجاء في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم قال:"اطلبوا العلم يوم الإثنين فإنه ييسر لطالبيه"10، وروى بعضهم في يوم الأربعاء خبر: "ما من شيء

1 قال علي بن الحسن بن شقيق: قمت مع ابن المبارك ليلة باردة ليخرج من المسجد، فذاكرني عند الباب بحديث، فذاكرته، فما زال يذاكرني حتى جاء المؤذن، وأذن الفجر.

2 تذكرة السامع 73.

3 قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: أصفى ما يكون ذهن الإنسان في وقت الفجر.

4 تذكرة السامع 73.

5 تذكرة السامع 73.

6 مجمع الزوائد 4/ 61، والفردوس بمأثور الخطاب 2/ 30، وفتح الباري 6/ 114، وتحفة الأحوذي 4/ 338، وفيض القدير 3/ 208، وكشف الخفاء 1/ 214، ومسند أبي يعلى 9/ 281، والترغيب والترهيب 2/ 336.

7 الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 36، والعلل المتناهية 1/ 313، 1/ 323.

8 المعجم الأوسط للطبراني 5/ 256 و113.

والطبراني هو: أبو القاسم، سليمان بن أحمد بن أيوب، اللخمي الشامي: من كبار المحدثين، أصله من طبرية بالشام، وإليها نسبته، ولد بعكا، ورحل إلى الحجاز وكثير غيرها، وتوفي بأصبهان سنة 360هـ. وفيات الأعيان 2/ 407، والسير 16/ 119، وطبقات الحفاظ 388.

9 كشف الخفاء 1/ 214 و342، وفيض القدير 3/ 208، وميزان الاعتدال في نقد الرجال 1/ 293، 5/ 363، 6/ 353.

10 الفردوس بمأثور الخطاب 2/ 30، وتحفة الأحوذي 4/ 338، ومسند الشهاب 2/ 342، وفيض القدير 1/ 543، والمجروحين 1/ 155، ومجمع الزوائد 4/ 61-62، والمعجم الصغير 1/ 60، والعلل المتناهية 1/ 323.

ص: 158

بدئ يوم الأربعاء إلا وقد تم"1، ونقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان يوقف بداية الاشتغال على يوم الأربعاء2، ورأيت كثيرا من مشايخنا يتحرون الابتداء يوم الأحد، فينبغي مزيد الاعتناء بهذه الأيام وهذه الأوقات إلا أن تجري عادة الشيخ بغير ما ذكر، فلا يعترض عليه3.

ومنها: أن يبكر4 بسماع الحديث ولا يهمل الاشتغال به وبعلومه، والنظر في إسناده ورجاله ومعانيه وأحكامه وفوائده ولغته وتواريخه، ويعتني أولا5 بصحيحي البخاري ومسلم، ثم ببقية الكتب الأعلام الأصول المعتمدة في هذا الشأن كموطأ مالك6 وسنن أبي داود7 والنسائي8 وابن ماجه9 وجامع الترمذي10 ومسند الشافعي11، ويعتني بالدراية عن الرواية12، قال الشافعي رضي الله عنه: من نظر الحديث قويت حجته، ولأن الدراية هي المقصود بنقل الحديث وتبليغه13.

ومنها: أن يعتني برواية كتبه التي قرأها أو طالعها لا سيما محفوظاته، فإن الأسانيد أنساب الكتب، وأن يحترص على كلمة يحفظها من شيخه أو شعر

1 فيض القدير 1/ 46.

2 انظر تعليم المتعلم للزرنوجي 68-69.

3 أدب الإملاء والاستملاء 23-24.

4 تذكرة السامع 126.

5 تذكرة السامع 127.

6، 10 هذه الكتب هي دواوين الأحاديث النبوية، والكتب الأعلام، وهي الأصول المعتمدة في معرفة الأحاديث النبوية، ونعم المعين للمتعلم أيضا كتاب السنن الكبير لأبي بكر البيهقي، وصحيح ابن حيان البستي، ومن ذلك المسانيد، وكمسند الإمام أحمد، وابن حميد، والطيالسي، والبزار، ومعاجم الطبراني الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير، وغير ذلك كثير

11 وهو مطبوع مشهور.

12 في تذكرة السامع 131: "بل يعتني بالدراية أشد من اعتنائه بالرواية" والدراية: علم يبحث فيه عن المعنى المفهوم من ألفاظ الحديث، وعن المعنى المراد منها مبنيا على قواعد العربية، وضوابط الشريعة، مطابقا لأحوال النبي صلى الله عليه وسلم.

13 تذكرة السامع 133.

ص: 159

ينشده أو ينشيه أو مؤلَّف يؤلفه ليروى ذلك عنه، ويجتهد على روايات الأمور المهمة كالفقه والفوائد النفسية والمسائل الرقيقة، والفروع الغريبة وحل المشكلات والفروق في الأحكام المتشابهات من جميع الأنواع ويعلق ذلك بالكتابة، قال صلى الله عليه وسلم:"قيدوا العلم"، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: وما تقييده؟ قال: "كتابته"1، وكان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسمع منه الحديث فيعجبه ولا يحفظه، فشكى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم:"استعن بيمينك" وأومأ بيده2 أي: خط، وعن عمر رضي الله عنه: قيدوا العلم بالكتاب3، وعن معاوية بن قرة4 قال: كان يقال: من لم يكتب علمه لم يعد علمه علما، وروي عن الحسن بن علي5 رضي الله عنهما أنه دعا بنيه وأخيه فقال: إنكم صغار قوم ويوشك أن تكونوا كبار قوم آخرين فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يحفظه فليكتبه وليضعه في بيته6.

وينبغي بل يتعين7 أن تكون همته في طلب العلم عالية، فلا يكتفي بقليل العلم مع إمكان كثيره، ولا يقنع من إرث الأنبياء بيسيره، ولا يؤخر تحصيل فائدة تمكن منها، ولا يشغله الأمل والتسويف عنها، فإن للتأخير آفات، ولأنه

1 المعجم الكبير 1/ 246، ومعجم الزوائد 1/ 152، ومسند الشهاب 1/ 370.

2 فيض القدير 1/ 628، وكشف الخفاء 1/ 129.

3 مجمع الزوائد 1/ 152، والطبقات الكبرى 7/ 22، وفيض القدير 4/ 693.

4 هو أبو إياس المزني البصري والد القاضي إياس، ابن إياس بن هلال بن رئاب: محدث ثقة من كبار التابعين، لقي كثيرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم توفي سنة 113هـ. السير 5/ 153، تهذيب التهذيب 10/ 216.

5 هو أبو محمد، الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي: خامس الخلفاء الراشدين، وثاني الأئمة الاثني عشر عند الإمامية، وأمه فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أكبر أولادها وأولهم، ولد في المدينة المنورة، وتوفي مسموما بها سنة 50هـ.

6 سنن الدارمي 1/ 443، حديث رقم 528.

7 تذكرة السامع 133.

ص: 160

إذا حصَّلها في الزمن الحاضر نفعته في الزمان الآت1، ويغتنم وقت2 الفراغ والنشاط، ويجتهد في الاستنتاج والاستنباط، قبل عوارض البطالة، وموانع الرئاسة والملالة، وليحذر كل الحذر من نظر نفسه بعين الكمال، والاستغناء عن المشايخ؛ فإن ذلك من فعل الجهال3، ويلازم حلقة شيخه في التدريس والإقراء، فإنه لا يزيده التحصيل إلا خيرا، كما قال علي رضي الله عنه وقد سلف: ولا تشبع4 من طول صحبته؛ فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها منفعة، ولا يقتصر5 على سماع درسه فقط فإن ذلك من قصور الهمة، بل يعتني بسائر الدروس شرحا وتعليقا ونقلا إن احتمل ذهنه حتى كأن كل درس منها له.

وأما دروس التقسيم فشأنها كدرس واحد، فمن لم يطق ضبطها لا يصلح لدخوله فيها، وإذا حضر6 مجلس الشيخ فيسلم على الحاضرين بصوت يسمعهم ويخص الشيخ بمزيد تحية، وكذا يسلم إذا انصرف، قال ابن جماعة: وعد بعضهم حلق العلم في حال أخذهم العلم من المواضع التي لا يسلم فيها، وهذا عليه العمل لكن محله في شخص واحد مشتغل بحفظ درسه، وإذا سلم7 فلا يتخطى رقاب الحاضرين إلى قرب الشيخ إن لم تكن منزلته، بل

1 تذكرة السامع 134.

2 تذكرة السامع 134.

3 تذكرة السامع 134-135.

4 تذكرة السامع 142.

5 تذكرة السامع 142.

قال الإمام الذهبي: إن الشيخ محيي الدين "النووي" ذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثني عشر درسا على مشايخه شرحا وتصحيحا، درسين في الوسيط، ودرسا في المهذب، ودرسا في الجمع بين الصحيحين، ودرسا في صحيح مسلم، ودرسا في اللمع لابن جني، ودرسا في إصلاح المنطق، ودرسا في التصريف، ودرسا في أصول الفقه، ودرسا في أسماء الرجال، ودرسا في أصول الدين، وقال النووي: وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل، ووضوح عبارة، وضبط لغة، وبارك الله في وقتي. تذكرة الحفاظ 4/ 251.

6 تذكرة السامع 146.

7 تذكرة السامع 146.

ص: 161

يجلس حيث انتهى به المجلس كما ورد في الحديث1، فإن قدمه الشيخ والحاضرون فليتقدم لانتفاع الحاضرين بمذاكرته مع الشيخ أو لكبر سنه أو لصلاح2.

ومنها: أن يحرص على قربه من الشيخ ليفهم منه بلا مشقة بشرط ألا يرتفع على أفضل منه3، ولا يؤثر بقربه من الشيخ إلا من هو أولى منه، ولا يقرب من يتسبب فيه إلى قلة أدب، وإذا سبق التلميذ إلى مكان في مجلس الدرس وألفه كان أحق به، فليس لغيره أن يقيمه منه، ولا يبطل حقه بانقطاعه يوما أو يومين مثلا لضرورة إذا حضر، والكلام فيه كالكلام في محترف إذا ألف مكانا من شارع، والمسألة مشروحة في محلها من كتب الفقه، واعلم أنه إذا كان الشيخ في صدر المكان فأفضل الجماعة أحق بما على يمينه ثم شماله، وقد جرت العادة4 في مجالس التدريس بجلوس المتميزين قبالة وجه المدرس والمبجلين من معيد5 وزائر عن يمينه يساره6، وينبغي أن يتأدب7 مع رفقته

1 عن جابر بن سمرة قال: كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث انتهى. الأدب المفرد 164.

2 تذكرة السامع 147.

3 تذكرة السامع 147.

4 تذكرة السامع 149.

5 المبجلون: هم المعظمون ممن حضر من العلماء، والمتميزون من الطلبة عن الشيخ علما وفضلا، والمعيد: هو الذي يعيد الدرس بعد إلقاء الشيخ الخطبة على الطلبة، كأنه معين الشيخ على نشر علمه وتثبيت خطباته وإملائه في أذهان الطلاب شرحا وبسطا، ومعاون للطلبة في إعادة المحفوظات والمراجعة في المذكرات، فهو دون الشيخ وأعظم درجة من عامة الطلبة، وفي تاج العروس: وقال شمر: المعيد من الرجال: العالم بالأمور الذي ليس بغمر، والحاذق المجرب.

6 قال الحافظ جعفر بن محمد: ما رأيت في المحدثين أهيب من محمد بن رافع كان يستند إلى شجرة الصنوبر في داره، فيجلس العلماء بين يديه على مراتبهم، وأولاد الظاهرية ومعهم الخدم، كأن على رءوسهم الطير. تذكرة الحفاظ 2/ 58.

وذكر ابن بطوطة في رحلته 167، والمدرسة المستنصرية ببغداد. فقال: يقعد المدرس وعلى يمينه ويساره معيدان يعيدان كل ما يمليه. وانظر تذكرة السامع 150.

7 تذكرة السامع 152.

ص: 162

وحاضري مجلس شيخه، فإن تأدبه معهم تأدب مع الشيخ واحترام له، ولا يقيم أحدا من مجلسه ولا يزاحمه ولا يقبل من يؤثره بمجلسه، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا1، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قام له الرجل من مجلسه لم يقعد فيه، ولا يجلس وسط الحلقة ولا قدام أحد بلا ضرورة2، وينبغي أن يكون حراما شديدا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة3.

ومنها: ألا يجلس بين أخوين أو أب وابن أو قريبين أو متصاحبين إلا برضاهما معا، قال ابن عمر رضي الله عنهما: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل بين الرجلين إلا بإذنهما4، وإذا جاء قادم أن يرحبوا له ويوسعوا له ويتفسحوا لأجله ويكرموه بما يكرم به مثله5، ولا يخرج عن بنية الحلقة بتقدم أو تأخر، ولا يتكلم أثناء درس غيره أو درسه بما لا يتعلق به أو يقطع عليه بحثه، ولا يشارك أحد من الجماعة أحدا في حديثه6، قال بعض الحكماء: من الأدب ألا يشارك الرجل في حديثه وإن كان أعلم به منه7، وأنشد الخطيب في هذا المحل8 "من الرجز":

ولا تشارك في الحديث أهله

1 رواه البخاري 5/ 2313، وسنن الترمذي 5/ 88، وتحفة الأحوذي 8/ 20، وتفسير القرطبي 17/ 298.

2 الأدب المفرد 1/ 395.

3 السنن الكبرى للبيهقي 3/ 234، 235، وسنن أبي داود 4/ 258، والجامع لأخلاق الراوي 1/ 176، وكشف الخفاء 1/ 394.

4 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجلس بين رجلين إلا بإذنهما" أبو داود 2/ 186.

5 تذكرة السامع 153.

6 تذكرة السامع 153.

7 تذكرة السامع 156، والجامع لأخلاق الراوي 1/ 304.

8 في كتابه: الجامع لأخلاق الراوي 1/ 304، وانظر أيضا تذكرة السامع 156.

ص: 163

وإن عرفت فرعه وأصله1

ومنها: إذا أساء بعض الطلبة أدبا على غيره لم ينتهزه غير الشيخ إلا بإشارته2، وإن أساء أحد أدبا على الشيخ تعين على الجماعة انتهاره ورده والانتصار للشيخ بقدر الإمكان وفاء لحقه3، وإذا أراد القراءة على الشيخ يراعي نوبته4 تقديما وتأخيرا.

روي أن أنصاريا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله، وجاء رجل من ثقيف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أخا ثقيف، إن الأنصاري قد سبقك بالمسألة فاجلس كيما نبدأ بحاجة الأنصاري قبل حاجتك"5 ولا يؤثر بنوبته غيره، فإن الإيثار بالقرب مكروه6، وقال الخطيب: يستحب للسابق أن يقدم على نفسه من كان غريبا للتأكد حرمته7، وكذلك8 إذا كان للمتقدم حاجة ضرورية وعلمها المتقدم يستحب له تقديمه عليه، وتحصيل النوبة بتقديم الحضور، ولا يسقط حقه بذهابه إلى ما يضطر إليه من قضاء حاجة وتجديد وضوء إذا عاد بعده، وإذا تساويا وتنازعا أقرع بينهما، ومعيد المدرسة إذا شرط عليه إقراء أهلها فيها في وقت، فلا يقدم عليهم الغرباء بغير إذنهم، ويكون جلوسه9 بأدب مع شيخه، ويحمل كتابه بنفسه ولا يضعه حال القراءة مفتوحا، بل يحمله بنفسه بيديه، ويقرأ منه بعد الاستعاذة والبسملة والصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- ثم يدعو للشيخ10 ولوالديه ومشايخه وللعلماء ولنفسه ولسائر المسلمين، وكذلك يفعل كلما شرع في قراءة

1 والبيت بلا نسبة في الجامع لأخلاق الراوي 1/ 304، ومثله في تذكرة السامع 156.

2 تذكرة السامع 154.

3 تذكرة السامع 154.

4 تذكرة السامع 158.

5 تذكرة السامع 159.

6 تذكرة السامع 159.

7 تذكرة السامع 159.

8 تذكرة السامع 159.

9 تذكرة السامع 160.

10 تذكرة السامع 162.

ص: 164

درس أو مطالعة أو مقابلة في حضور الشيخ أو غيبته، ويترحم1 على صاحب الكتاب عند قراءته، وإذا فرغ من الدرس دعا للشيخ أيضا، فإن ترك الطالب الاستفتاح بما ذكرنا جهلا أو نسيانا ذكره الشيخ أو علمه إياه، فإنه من أهم الآداب، وقد ورد الحديث الحسن في ابتداء الأمور المهمة:"باسم الله وبحمده"2.

ومنها: أن يذاكر من يرافقه من مواظبي مجلس الشيخ بما وقع فيه من الآداب والفوائد والضوابط والقواعد وغير ذلك، ويعيدوا كلام الشيخ فيما بينهم3، وينبغي الإسراع بها بعد القيام من المجلس قبل تفرق الأذهان وتشتت الخواطر4، قال بعض الحكماء: من أكثر المذاكرة بالعلم لم ينسَ ما علمه5، وقال الشاعر "من الطويل":

إذا لم يذاكر ذو العلوم بعلمه

ولم يستفد علما نسي ما تعلما6

فكم جامع للكتب في كل مذهب

يزيد مع الأيام في جمعه عمى

وأجود الأوقات للمذاكرة الليل كما قال بعضهم7، وكان جماعة يبتدئون من العشاء فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح8، فإن لم يجد الطالب من يذاكره ذاكر نفسه بنفسه ليعلق ذلك بخاطره إذا كرره، فإن تكرار المعنى على القلب كتكرار اللفظ على اللسان، فإذا امتثل ذلك وتكاملت أهليته، واشتهرت

1 تذكرة السامع 162.

2 انظر الجامع لأخلاق الراوي 1/ 407، وضعيف الجامع الصغير 343، وفيض القدير 3/ 191-192، وقال عنه الألباني: ضعيف جدا.

3 تذكرة السامع 143.

4 تذكرة السامع 143.

5 فيض القدير 2/ 541.

6 البيتان بلا نسبة في جامع بيان العلم 1/ 430 و1/ 443.

7، 8 تذكرة السامع 144-145.

ص: 165

فضيلته اشتغل بالتصنيف، والجمع والترصيف، لاكتسابه من النهاية حلة التشريف1.

فصل: في التصنيف 2

ينبغي لمن كملت أهليته، وتمت فضيلته أن يعتني بالتصنيف، ويجد في الجمع والتأليف، محققا مسائله، مثبتا نقوله واستنباطه، متحريا إيضاح العبارة وإيجازها، ولا يوضح إيضاحا ينتهي إلى الركة، ولا يوجز إيجازا ينتهي إلى المحق والاستغلاق، ولا يطول تطويلا يؤدي إلى الملالة، ويجتنب الأدلة الضعيفة، والتعليلات الواهية، ويبين المشكلات، ويجيب عن التعقبات ويفك العضلات، ويستوعب معظم أحكام ذلك الفن، ويستعمل القواعد والنوادر، فبذلك يظهر له حقائق العلم ودقائقه ويثبت عنده العلم ويرسخ إن أكثر التفتيش والمطالعة، والتنقيب والمراجعة، والاختلاف من كلام الأئمة ومتفقه وواضحه ومشكله وصحيحه وضعيفه وراجحه، إلى غير ذلك، من سلوك هذه المسالك، فبذلك يتصف المحقق بصفة المجتهدين، ويرتفع عن درجة الجمود والتقليد، وينخرط في سلك الأئمة المحقين، قال الخطيب البغدادي: التصنيف يثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويجيد اللسان، ويكسب جميل الذكر، وجزيل الأجر، ولا يشرع في تصنيف ما لم يتأهل له؛ فإن ذلك يضره في دينه وعلمه وعرضه، وليحذر من إخراج تصنيفه من يده إلا بعد تهذيبه وترداد نظره فيه، وينبغي أن يكون اعتناؤه من التصنيف بما لم يسبق إليه أكثر، والمراد أن لا يكون هناك مصنف يغني عن مصنفه في جميع أساليبه، فإن أغنى عن بعضها فليصنف من جنسه ما يزيد زيادات يختلف بها مع ضم ما فاته من الأساليب، وليكن تصنيفه

1 تذكرة السامع 144-145.

2 تذكرة السامع ص136، وكتاب العلم للنووي ص91.

ص: 166

فيما يعم الانتفاع به ويكثر الاحتياج إليه، وليعتنِ بعلم المذهب فإنه من أعظم الأنواع نفعا، وبه يتسلط المتمكن على المعظم من باقي العلوم، قال صاحب الأحوذي: ولا ينبغي لمصنف يتصدى إلى تصنيف أن يعدل إلى غير صنفين: إما أن يخترع معنى، أو يبتدع وضعا ومبنى، وما سوى هذين الوجهين فهو تسويد للورق والتحلي بحلية السرق، وهذا لا ينافي ما ذكره بعضهم من أن رتب التأليف سبعة: استخراج ما لم يسبق إلى استخراجه، وناقص في الوضع يتمم نقصه، وخطأ يصحح الحكم فيه، ومستغلق بإجحاف الاختصار يشرح أو يتمم بما يوضح استغلاقه، وطويل يبدد الذهن طوله يختصر من غير إغلاق ولا حذف لما يخل حذفه بغرض المصنف الأول، ومتفرق يجمع أشتات تبدده على أسلوب صحيح قريب، ومنثور غير مرتب يرتب ترتيبا يشهد صحيح النظر أنه أولى في تقريب العلم للمتعلمين من الذي تقدم في حسن وضعه وترتيبه وتبويبه، فهذا كالشرح لما ذكره صاحب الأحوذي والله أعلم، قال العلامة الشيخ بدر الدين بن جماعة: ومن الناس من ينكر التصنيف والتأليف في هذا الزمان على من ظهرت أهليته ولا وجه لإنكار إلا التنافس، وإلا فمن تصرف في ورقة ومداده بكتابة ما شاء من أشعار وحكايات مباحة أو غير ذلك لا ينكر عليه، فلم إذا تصرف بتسويد ما ينتفع به من علوم الشريعة ينكر ويستهجن؟ أما من لا يتأهل لذلك فالإنكار عليه متجه.

ومما نقل عن فعل الأئمة من آداب التصنيف أنه كان المزني1 إذا فرغ من مسألة من المختصر صلى ركعتين، وكان أبو إسحاق الشيرازي2 شيخ أبي

1 هو أبو إبراهيم المزني، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل: صاحب الإمام الشافعي، من أهل مصر، كان زاهدا عالما مجتهدا قوي الحجة، وهو إمام الشافعيين، قال الشافعي: المزني ناصر مذهبي، وقال في قوة حجته: لو ناظر الشيطان لغلبه، توفي في سنة 264هـ. وفيات الأعيان 1/ 217 والأعلام 1/ 329.

2 هو أبو إسحاق، إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي الشيرازي: العلامة، المناظر، ظهر نبوغه في علوم الشريعة الإسلامية، فكان مرجع الطلاب، ومفتي الأمة في عصره، واشتهر بقوة الحجة في الجدل والمناظرة، عاش فقيرا صابرا، ينظم الشعر، وله تصانيف كثيرة، توفي في سنة 476هـ. طبقات السبكي 4/ 215، والأعلام 1/ 51.

ص: 167

الوفاء بن عقيل1 لا يخرج إلى فقير إلا إذا أحضر النية، ولا يتكلم في مسألة إلا إذا قدم الاستعانة بالله تعالى، ولا صنف مسالة إلا بعد أن صلى ركعات، وما روي عن الشيخ أبي إسحاق أيضا أنه قال لبعض من يخدمه: جعلت على نفسي أنني كلما صنفت مسألة في المذهب أو المهذب قرأت مائة مرة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم سألت الله أن يعيد بركتها على تلك المسألة ورغبت إليه في الانتفاع بها، وكان الشيخ أبو إسحاق يصلي ركعتين عند فراغ كل فصل من المهذب2، وكان ابن الأرغياني3 من كبار أئمتنا ما يعلق شيئا من المذهب إلا على طهارة4، وكان الإمام محمد بن إسماعيل البخاري لا يضع حديثا في كتاب الصحيح إلا اغتسل وصلى ركعتين5.

وقد جرت عادة أئمتنا بعقد مجلس أو عمل وليمة عند ختم كتاب معتبر يؤلفونه أو يحفظونه، وأصل ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعلم البقرة في بضع عشرة سنة6، وفي رواية: اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزورا شكرا

1 هو أبو الوفاء البغدادي، علي بن عقيل بن محمد الطفوي: عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد في وقته، كان قوي الحجة، اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته، توفي في سنة 513هـ. الأعلام 4/ 313.

2 انظر أقوال الشيرازي في طبقات الشافعية الكبرى 4/ 217.

3 هو سهل بن أحمد بن علي، الحاكم أبو الفتح الأرغياني: فقيه شافعي، كان إماما فاضلا، حسن السيرة، تولى القضاء فترة، ثم ترك القضاء وانزوى بعدما حج، واشتغل بالعبادة، وتوفي في قريته "بان" سنة 499، وأرغيان: اسم لناحية من نواحي نيسابور، بها عدة من القرى، منها قرية "بان" ولذلك يقال له: الباني، والأرغياني. وفيات الأعيان 2/ 433، وطبقات الشافعية 4/ 391.

4 طبقات الشافعية الكبرى 4/ 391، وانظر أيضا مثل هذا الخبر في تعليم المتعلم 51.

5 فتح الباري "المقدمة" 513، وسير أعلام النبلاء 12/ 404.

6 القرطبي 1/ 40.

ص: 168

لله تعالى1، وقد اتفق ذلك للحبر شيخ الإسلام ضياء الدين عبد الملك إمام الحرمين عند ختم كتابه الحفيل الجليل المسمى بنهاية المطلب2، فإنه عقد مجلسا لتتمته حضره الأئمة والكبار، وختم الكتاب على رأس الإملاء والاستملاء وتبجح الحاضرون، لذلك وضع وليمة لحاضري مجلسه، حكاه جماعة منهم ابن السبكي3 في طبقاته4، ولما فرغ شيخ الإسلام ابن حجر شرحه على البخاري المسمى بفتح الباري5 عمل وليمة حافلة بالمكان الذي بناه المؤيد6 خارج القاهرة بين كوم الريش ومنية الشيرج، ويسمى بالتاج والسبع وجوه في يوم السبت 8 شعبان سنة 842، وكان المصروف في الوليمة على ذلك نحو خمسمائة دينار7، سئل الإمام أبو عبد الله التلمساني8 عن كثرة تصانيف هذه الأمة واشتغالها بالتصنيف فقال: هذا من فوائد تحريم الخمر عليها وهو قول بديع، ومما يلحق بذلك ختم إقراء الكتب أيضا، وهي سنة كثير من العلماء المعتبرين الورعين، وفي ذلك مصالح وحكم لطيفة تنوف عن الحصر والضبط، والله يعلم المفسد من المصلح.

1 القرطبي 1/ 40.

2 هو كتابه: "نهاية المطلب في دراية المذهب" انظر الخبر في طبقات الشافعية الكبرى 5/ 177، 178.

3 هو أبو نصر، عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي: قاضي القضاة، المؤرخ الباحث، ولد في القاهرة، وانتقل إلى دمشق مع والده فسكنها وتوفي بها بالطاعون سنة 771هـ، قال ابن كثير: جرى عليه من المحن والشدائد ما لم يجرِ على قاضٍ مثله. الدرر الكامنة 3/ 39، والأعلام 4/ 184.

4 طبقات الشافعية الكبرى 5/ 177-178.

5 بشرح صحيح البخاري، وقد طبع في 14 مجلدا، وهو من أهم الشروح، وليس بعده شرح.

6 هو الملك المؤيد شيخ بن عبد الله المحمودي الظاهري، أبو النصر، من ملوك الجراكسة بمصر والشام، المتوفى سنة 824هـ. الأعلام 3/ 182، وخطط المقريزي 1/ 481.

7 انظر نزهة النفوس والأبدان 4/ 61-64، والذيل على رفع الإصر ص80.

8 هو أبو عبد الله، محمد بن أحمد بن علي الإدريسي الحسيني العلويني، المعروف بالشريف التلمساني: باحث من أعلام المالكية، انتهت إليه إمامتهم بالمغرب، نشأ بتلمسان، ورحل إلى فاس، وبقي يدرس فيها إلى أن توفي فيها سنة 771هـ. الأعلام 5/ 327.

ص: 169