الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني: آداب المعلم مع طلبته
…
القسم الأول: آداب المعلم مع طلبته 1:
فمن ذلك إذا لمح في المتعلم خيرا، وآنس فيه رشدا، ينبغي له أن يؤدبه على التدريج بالآداب السنية، والشيم المرضية، والدقائق الخفية، ويعوِّده الصيانة في جميع أموره الكامنة والجلية، فيحرضه بالأقوال والأفعال على الإخلاص والصدق وحسن النيات، ومراقبة الله تعالى في جميع اللحظات، وأن يداوم على ذلك حتى الممات، ويعرفه أن بذلك تنفتح عليه أبواب المعارف، وتنفجر من قلبه ينابيع الحكمة واللطائف، ويوفق للإصابة في قوله وفعله.
ومن ذلك أن يرغبه في العلم2، ويذكره بفضائله وفضائل العلماء، وأنهم ورثة الأنبياء، وأنهم على منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء، ونحو ذلك مما ورد في فضل3 العلم والعلماء من الآيات والأخبار، والآثار والأشعار، ويرغبه مع ذلك بتدريج على ما يعين على تحصيله من الاقتصار على الميسور، وقدر الكفاية من الدنيا، والقناعة بذلك عن شغل القلب بالتعلق بها، وتفريق الهم بسببها.
ومن ذلك أن يحب له ما يحب لنفسه4، ويكره له ما يكره لنفسه من الشر، ففي الصحيحين:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" 5
1 انظر تذكرة السامع والمتكلم، وهو الفصل الثالث فيه، وعنوانه فيه:"في أدب العالم مع طلبته مطلقا في حلقته".
2 تذكرة السامع 48.
3 انظر جامع العلم وفضله لابن عبد البر 1/ 63، 99، 133، 149.
4 تذكرة السامع 49.
5 حديث صحيح رواه البخاري 1/ 14 حديث رقم 13، ومسلم 1/ 67 و68، وابن حبان 1/ 470-471، والترمذي 4/ 667، و5/ 80، والنسائي 8/ 125 و115، وتحفة الأحوذي 6/ 62 و7/ 184 و8/ 6، وفتح الباري 1/ 138 و283، وشعب الإيمان 3/ 261، وفيض القدير 1/ 176، 2/ 362، 3/ 217 و391 و4/ 26.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أكرم الناس عليَّ جليسي الذي يتخطى الناس حتى يجلس إليَّ، لو استطعت ألا يقع الذباب عليه لفعلت1، ويعتني بمصالحه2 كاعتنائه بمصالح نفسه وولده، ويجعله كولده في الشفقة عليه، والاهتمام بمصالحه.
وربما3 وقع منه نقص وسوء أدب في بعض الأحيان، فيبسط له عذره بحسب الإمكان، وينبهه على ما صدر منه بنصح وتلطف، لا بتعنيف وتعسف، قاصدا بذلك حسن تربيته، وتحسين خُلُقه، وإصلاح طويته.
ومن ذلك أن يزجره4 عن سوء الأخلاق، وارتكاب المحرمات والمكروهات، أو ما يؤدي إلى فساد حال، أو ترك اشتغال، أو إساءة أدب، أو عشرة من لا يليق، ونحو ذلك بطريق التعريض والتلويح، لا بطريق التصريح، وبطريق الرحمة، لا بطريق التوبيخ والنقمة، فإن التصريح يرفع حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم بالخلاف، ويهيج الحرص على الإصرار، وينبهك على هذا قصة آدم وحواء عليهما السلام، وهو قوله تعالى:{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} [البقرة: 35، 36] وفي سورة طه: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121] وقد ورد: لو مُنع الناس عن فت البعر لفتوه، وقالوا: ما نهينا عنه إلا وفيه شيء5، ولبعضهم "من الكامل":
النفس تهوى من يجور ويعتدي
…
والنفس مائلة إلى الممنوع
1 تذكرة السامع 49، وبعده:"وفي رواية: إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني"، وانظر شعب الإيمان 7/ 86.
2 تذكرة السامع 49، وأبجد العلوم 1/ 249، وكشف الظنون 1/ 50.
3 تذكرة السامع 49-50، وكتاب الأم 6/ 84.
4 إحياء علوم الدين 1/ 84، وتذكرة السامع 41، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2/ 257.
5 إحياء علوم الدين 1/ 84، وقال العراقي في تخريج الإحياء 1/ 75:"لم أجده"، وذكره في الأسرار المرفوعة حديث رقم 756، ونقل قول العراقي فيه.
ولكل شيء تشتهيه طلاوة
…
مدفوعة إلا عن المدفوع
وانظر إرشاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلطفه مع الأعرابي الذي بال في المسجد1، ومع معاوية بن الحكم2 لما تكلم في الصلاة3 فإن انزجر لذكائه بالإشارة فذاك، وإلا نهاه سرا، فإن لم ينته نهاه جهرا، ويغلظ القول عليه إن اقتضاه الحال لينزجر هو وغيره، ويتأدب به كل سامع، فإن لم ينته فلا بأس حينئذ بطرده والإعراض عنه إلى أن يرجع، وكذلك يتعهده بإفشاء السلام وحسن التخاطب في الكلام، وبالجملة فكما يعلمهم مصالح دينهم، لمعاملة الله يعلمهم مصالح دنياهم، لمعاملة الناس ليكمل لهم فضيلة الحالتين، وبالله التوفيق.
ومن ذلك ألا يتعاظم على المتعلمين، بل يلين لهم القول، ويتواضع لهم، قال تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215] وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله أوحى إلَيَّ أن تواضعوا" 4، والأحاديث في التواضع ولين الجانب كثيرة5، وهذا التواضع لمطلق الناس، فكيف بهؤلاء الذين كأولاده مع
1 البخاري 1/ 44، 5/ 2242 و2270، ومسلم 1/ 236، وفتح الباري 1/ 323 و359، 7/ 49، 10/ 439، 449، 525، 11/ 363، وتحفة الأحوذي 1/ 392، وشرح النووي على صحيح مسلم 3/ 190.
2 هو معاوية بن الحكم السلمي: صحابي، يعد في أهل الحجاز، سكن المدينة. الاستيعاب ترجمة 2462، وأسد الغابة ترجمة 4981، والإصابة 6/ 118.
3 أي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" انظر الخبر في الإصابة 6/ 118.
4 حديث حسن، رواه مسلم، وأبو داود، وابن ماجه، عن عياض بن حمار، انظر سلسلة الصحيحة 570، وصحيح الجامع الصغير 1725، وانظر أيضا شعب الإيمان 5/ 285 و6/ 274، وحلية الأولياء 2/ 17.
5 التذكرة الحمدونية 3/ 92، والمستطرف في كل فن مستظرف 1/ 400، ولباب الآداب 251 و252 فما بعد، ومحاضرات الأدباء 1/ 262، وتذكرة السامع والمتكلم ص64، 65.
ملازمتهم واعتمادهم عليه في طلب العلم، ومع ما هم عليه من حق الصحبة، وحرمة التردد، وشرف المحبة، وصدق التودد، وفي الخبر عنه صلى الله عليه وسلم:"علموا ولا تعنفوا؛ فإن المعلم خير من المعنف"1، وعنه صلى الله عليه وسلم:"لِينُوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه"2.
ومن ذلك أن يوقر طلبته ويعظمهم، ويحسن خُلقه معهم، ويرحب بهم إذا لقيهم، ويعاملهم بالبشاشة وطلاقة الوجه، ويحسن إليهم بعلمه وماله وجاهه بحسب التيسير، وينبغي3 أن يخاطب كلا منهم -لا سيما الفاضل للتمييز- بكنيته ونحوها من أحب الأسماء إليه، وما فيه من تعظيم وتوقير.
ففي الخبر عن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكني أصحابه إكراما لهم4، وجاء كثيرا مخاطبته لأبي بكر رضي الله عنه بالصديق5 فإن ذلك ونحوه أشرح لصدورهم، وأبسط لسؤالهم، وكان البويطي6 يدني القراء ويقربهم إذا طلبوا العلم، ويعرفهم فضل الشافعي، وفضل كتبه، ويقول: كان الشافعي يأمر بذلك ويقول: اصبروا للغرباء وغيرهم من التلاميذ7، وقيل: كان أبو حنيفة أكرم الناس مجالسة وأشدهم إكراما لأصحابه8، وإذا غاب أحدهم غيبة زائدة عن
1 حديث ضعيف، كما نص على ذلك الشيخ الألباني في سلسلة الضعيفة 2635، وضعيف الجامع الصغير 3731.
2 رواه أبو داود في سننه بمعناه 2/ 190. وانظر الفردوس بمأثور الخطاب 1/ 79.
3 تذكرة السامع 65.
4 تذكرة السامع 65.
5 سبل الهدى والرشاد 11/ 254.
6 هو أبو يعقوب، يوسف بن يحيى القرشي، البويطي: صاحب الإمام الشافعي، وواسطة عقد جماعته، قام مقامه في الدرس والإفتاء بعد وفاته، وهو من أهل مصر، حُمل إلى بغداد في محنة خلق القرآن محمولا على بغل، مقيدا، وسجن بسبب ذلك، ومات في سجنه ببغداد سنة 231هـ. تاريخ بغداد 14/ 299، وطبقات السبكي 2/ 162.
7 تذكرة السامع ص66.
8 تهذيب الأسماء 2/ 506.
العادة سأل عنه، فإن لم يخبر عنه أرسل إليه أو قصد منزله بنفسه وهو أفضل، وإن كان مريضا عاده، أو في غم خفض عنه، أو مسافرا تفقد أهله، وتعرض لقضاء حوائجهم ووصلهم بما أمكن.
ومن ذلك ينبغي أن يستعلم أسماء طلبته، وحاضري مجلسه وأنسابهم، ومواطنهم وأحوالهم، وأن يكون سمحا ببذل ما حصله من العلم، سهلا بإلقائه، متلطفا في إفادة طالبيه، مع إرشاد إلى المهمات، وتحريض على حفظ ما يبذله لهم من الفوائد، ولا يدخر عنهم ما يحتاجون إليه، أو يسألون عنه؛ لأن ذلك ربما يوحش صدورهم، وينفر قلوبهم، وكذلك لا يلقي لهم شيئا لم يتأهلوا له؛ لأن ذلك يبدد أذهانهم، ويفرق أفهامهم، فإن سأله الطالب من ذلك شيئا فيعرفه أن ذلك يضره، وأنه لم يمنعه شحا، بل شفقة ونصحا، ثم يرغبه في التحصيل ليتأهل لذلك، وقد روي في التفسير قوله تعالى:{وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] إنه الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره1.
ومن ذلك صد المتعلم أن يشتغل بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين، وفرض عينه: إصلاح ظاهره وباطنه.
ومن ذلك أن يكون حريصا على تعليم الطلبة، مهتما بذلك، مؤثرا ذلك على حوائجه ومصالحه، ويفهم كل واحد بحسب فهمه، ولا يبسط له الكلام بسطا لا يضبطه حفظه، ولا يقصر به عما يحتمله بلا مشقة، ويخاطب كلا على قدر درجته وفهمه وهمته، فيكتفي للحاذق بالإشارة، ويوضح لغيره بالعبارة، ويكررها لمن لا يفهمها إلا بتكرار، ويبدأ بتصوير المسألة، ثم يوضحها بالأمثلة، ويقتصر على ذلك من غير دليل ولا تعليل، فإن سهل عليه الفهم فيذكر له الدليل والتعليل، والمأخذ منه والمدرك، ويبين أسرار حكم المسألة وعللها
1 رواه البخاري 1/ 38، وتفسير القرطبي 4/ 122.
وتوجيه الأقوال، ويبين الفرق بين المسألتين، ومأخذ الحكمين، ويبين ما يتعلق بالمسألة من النكت اللطيفة، والألغاز الظريفة، والأمثال والأشعار واللغات وما يرد عليها، أو على عبارة ممليها، وينبه على غلط من غلط فيها من حكم أو تخريج فيقول مثلا: هذا هو الصواب أو الصحيح، وأما ما ذكره فلان فغلط أو ضعيف، قاصدا بذلك النصيحة لا التنقيص لمصنفه.
ومن ذلك أن يذكر لهم قواعد الفن التي لا تنخرم مطلقا، أو غالبا مع مستثنياتها أن لو كانت كقولنا: إذا اجتمع سبب ومباشرة، قدمنا المباشرة على السبب في الضمان، وإن اليمين على المدعى عليه إذا لم تكن بينة إلا في القسامة، وإذا اجتمع قولان: جديد وقديم، فالعمل بالجديد إلا في مسائل معدودة المشهور منه أربع عشرة مسألة، وأوصلها ابن الملقن1 إلى أكثر من ثلاثين ويذكرها أو ما حضره منها، وإن من قبض شيئا لغرضه لا يقبل قوله في الرد إلى المالك، ومن قبضه لغرض المالك قبل قوله في الرد إليه لا إلى غيره2، وإن الحدود تسقط بالشبهة، وإن الاعتبار في اليمين بالله تعالى أو الطلاق أو العتاق أو غيرها بنية الحالف إلا أن يكون المستحلف قاضيا فاستحلفه بالله لدعوى اقتضته فالاعتبار بنية القاضي، أو نائبه المستحلف إن كان الحالف يوافقه في الاعتقاد وإلا فوجهان، وإن كل يمين على نفي فعل الغير فهي على نفي العلم إلا من ادعي عليه أن عبده جنى فيحلف على البت على الأصح، أو بهيمته جنت فيحلف على البت قطعا، وإن السيد لا يثبت له مال في ذمة عبده
1 هو أبو حفص، عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي، سراج الدين، ابن النحوي، المعروف بابن الملقن: من أكابر العلماء بالحديث والفقه وتاريخ الرجال، أصله من وادي آش بالأندلس، وله نحو ثلاثمائة مصنف، مولده ووفاته بالقاهرة سنة 804هـ. ذيل الدرر الكامنة 121، والذيل التام 1/ 422، وذيل طبقات الحفاظ 197 و369.
2 عون المعبود 10/ 34، والمحلى 9/ 379، وشرح النووي على صحيح مسلم 12/ 2، والمغني 6/ 43 و8/ 394.
ابتداء، وفي ثبوته دواما وجهان، وكل عبادة يخرج منها بفعل منافيها ومبطلها إلا الحج والعمرة، وكل وضوء يجب فيه الترتيب إلا وضوءا تخلله غسل الجنابة1، وإن ما لا يجب التعرض له في العبادة جملة ولا تفصيلا لا يضر الخطأ فيه، وما يجب التعرض له تفصيلا أو جملة يضر الخطأ فيه:
الأول: كخطأ الإمام في تعيين تابعه لا يضر.
والثاني: كخطئه من الصوم إلى الصلاة، أو من صلاة فرض معين إلى غيره.
والثالث: كخطأ المأموم في تعيين الإمام.
وإن إشارة الأخرس2 كنطقه إلا في أربع مسائل: الشهادة في الأصح، وإبطال الصلاة، وانعقاد اليمين، وإذا حلف لا يكلم زيدا فأشار إليه، وإن إشارة الناطق القادر على العبارة لغو إلا في أربع مسائل: الأمان، وإشارة الشيخ في رواية الحديث، وقوله: أنت طالق هكذا وأشار بأصابعه، وإذا سُلم على المصلي يرد بالإشارة، نص عليه في القديم3، وأشباه ذلك.
وكذلك يبين4 له جملا مما يحتاج إليه وينضبط من أصول الفقه؛ كترتيب الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب عند من يقول به، وأنواع الأقيسة ودرجاتها، وحد الأمر والنهي والعموم والخصوص وغيرها، وأحكام ذلك وقواعده، وجملا من5 أسماء المشهورين من الصحابة فمن بعدهم من العلماء والأخيار، وتراجمهم ووفياتهم، وضبط المشكل من أنسابهم وأسمائهم والمشتبه من ذلك، والمختلف والمؤتلف، ونحو ذلك، وجملا من
1 المهذب 1/ 54، والمجموع 1/ 480، والشرح الصغير 1/ 120، والشرح الكبير 1/ 102، ومغني المحتاج 1/ 54، والدر المختار 1/ 113، وفتح القدير 1/ 23، وتذكرة السامع 57.
2 المغني 4/ 148 و349.
3 انظر المغني 7/ 373، ونيل الأوطار 7/ 31 و33.
4 كتاب العلم للنووي ص96.
5 كتاب العلم للنووي ص97.
الألفاظ اللغوية والعرفية المتكررة في الفقه ضبطا لمشكلها، وخفي معانيها فيقول: هي مفتوحة، أو مضمومة، أو مكسورة، مخففة أو مشددة، مهموزة أو لا، عربية أو أعجمية أو معربة، وهي التي أصلها عجمي وتكلمت فيها العرب، مصروفة أم لا، مشتقة أو لا، مشتركة أم لا، مترادفة أم لا1.
وأن المهموز والمشدد يخففان أم لا، وأن فيها لغة أخرى أم لا، ويبين ما ينضبط من قواعد التصريف ونحو ذلك، وإذا وقعت مسألة غريبة لطيفة، أو مما يسأل عنه في المعاياة نبه عليها، وعرفهم حالها، ويكون تعليمه إياهم كل ذلك تدريجا شيئا فشيئا، فيجتمع لهم مع طول الزمان جمل كثيرة2، والله أعلم.
ومن ذلك أن يحرضهم على الاشتغال في كل وقت، ويطالبهم بإعادة محفوظاتهم، فمن وجده حافظا مراعيا لمحفوظاته ومهماته وقواعده أثنى عليه وأشاع ذلك، ومن وجده مقصرا عنفه وأعاده له ليحفظه حفظا راسخا3.
ومن ذلك ينبغي له أن يطرح على أصحابه ما يراه من مستفاد المسائل ويختبر بذلك أفامهم، ودليل ذلك ما رواه الشيخان عن ابن عمر4 رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الشجر شجرة
…
" 5 الحديث.
1 كتاب العلم للنووي ص97.
2 كتاب العلم للنووي ص97.
3 كتاب العلم للنووي ص97.
4 هو أبو عبد الرحمن، عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي: صحابي، من أعز بيوتات قريش في الجاهلية، كان جريئا جهيرا، نشأ في الإسلام، وهاجر إلى المدينة مع أبيه، وشهد فتح مكة، ومولده ووفاته فيها سنة 73. الإصابة ترجمة 4825، ونكت الهميان 183.
5 الحديث في البخاري "61 و131"، وفيه: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل الرجل المسلم، حدثوني ما هي؟ " قال عبد الله: فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، قال: فاستحييت فقالوا: يا رسول الله، ما هي؟ قال:"هي النخلة" قال عبد الله بن عمر: فحدثت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالذي وقع في نفسي، قال عمر: لأن تكون قلتها أحب إلَيَّ من أن يكون لي كذا وكذا. وانظر أيضا تفسير ابن كثير 2/ 531، ومسند أحمد 2/ 12، وفتح الباري 1/ 145، وتحفة الأحوذي 8/ 135، والفردوس بمأثور الخطاب 1/ 211.
ومن ذلك إذا فرغ من شرح درس فلا بأس بطرح1 مسائل تتعلق به على الطلبة، وإعادة ذكر ما أشكل منه؛ ليمتحن بذلك فهمهم وضبطهم لما شرحه لهم. فمن ظهر استحكام فهمه شكره، ومن لم يفهم تلطف في إعادته، والمعنى: أنه ربما استحى من قوله: لم أفهم، وسبب هذا: إما رفع كلفة الإعادة على الشيخ، أو لضيق الوقت، أو حياء من الحاضرين، أو كي لا تتأخر قراءة بعضهم بسببه؛ ولذلك قيل2: لا ينبغي للشيخ أن يقول للطالب: هل فهمت؟ إلا إذا أمن من قوله نعم قبل أن يفهم، وينبغي للشيخ3 أن يأمر الطلبة بالمرافقة في الدروس، وإعادة ما وقع من التقرير بعد فراغه ليثبت في أذهانهم، وإذا فهم الشيخ فائدة من البعض في البحث وإن كانت من صغير فينصفه بها، ويشكره عليها، فإن ذلك من بركة العلم، ولا يظهر الشيخ للطلبة تفضيل4 بعضهم على بعض لا سيما إذا تساووا في الصفات: من سن أو فضيلة، أو تحصيل أو ديانة، فترجيح بعضهم على بعض مما يوغر الصدور، فإذا ظهرت فضيلته يثني عليه في حد ذاته من غير تصريح بأن فلانا أفضل من فلان، فاعلم ذلك.
ومن ذلك أن يقدم في التعليم5 الأسبق فالأسبق إذا ازدحموا، ولا يقدمه بأكثر من درس إلا برضى الباقين، ويختار إذا كانت الدروس في كتاب واحد باتفاق منهم وهو المسمى بالتقسيم أن يبدأ في كل يوم بدرس واحد منهم، فإن الدرس الأول ربما حصل فيه من النشاط والتقرير ما لا يحصل في الباقي إلا إذا
1 تذكرة السامع والمتكلم ص53.
2 تذكرة السامع والمتكلم ص53.
3 تذكرة السامع والمتكلم ص54.
4 تذكرة السامع والمتكلم ص59.
5 كتاب العلم للنووي ص97.
علم من نفسه عدم الملالة، وبقاء النشاط، فيرتب الدروس ترتيب الكتاب، وإن رأى مع ذلك تقديم الأسبق ليحضر المتأخر على التقدم كان حسنا، ولا يقدم أحدا في نوبة غيره، ولا يؤخره عن نوبته إلا إذا رأى في ذلك مصلحة، فإن سمع بعضهم لغيره في نوبته فلا بأس، وإن جاءوا معا وتنازعوا أقرع كما سيأتي إن شاء الله في القسم الثالث من النوع الثالث.
ومن ذلك إذا سلك الطالب فوق ما يقتضيه حاله، وخاف ضجره أوصاه بالرفق بنفسه، وكذلك إذا ظهر له منه نوع سآمة أو ضجر أمره بالراحة، ولا يشير على الطالب بتعلم ما لا يحتمله فهمه أو سنه، ولا كتاب يقصر عنه ذهنه، فإن استشاره من لا يعرف حاله في قراءة فن مشكل أو كتاب مشكل لم يشر عليه بشيء حتى يجرب ذهنه، ويعلم حاله، فإن لم يحتمل الوقت التأخير أشار عليه بكتاب سهل من الفن المطلوب، فإن رأى فهمه جيدا نقله إلى كتاب يليق بذهنه؛ لأن نقل الطالب الذكي يزداد به فهمه واجتهاده وانبساطه، ونقل الطالب غير الذكي يكل فهمه ونشاطه، ولا يمكن الطالب من الاشتغال في فنين أو أكثر إذا لم يضبطهما، بل يقدم الأهم فالأهم، وإذا غلب على ظنه أنه لا يفتح عليه في ذلك الفن أشار عليه بتركه والانتقال إلى غيره مما يرجى فلاحه فيه، وإذا كان الشيخ متكفلا ببعض العلوم، فلا يقبح للطالب باقي العلوم التي لا يحسنها؛ إذ من عادة معلم اللغة تقبيح الفقه، ومعلم الفقه تقبيح علم الحديث والتفسير، بل يوسع على الطالب طريق التعلم مطلقا.
ومن ذلك ألا يتأذى ممن يقرأ عليه إذا قرأ على غيره، قال النووي: وهذه مصيبة يبتلى بها جهلة المعلمين لغباوتهم، وفساد نيتهم وإرادتهم بالتعليم غير وجه الله، وهذا إذا كان المعلم الآخر أهلا، فإن كان فاسقا أو مبتدعا أو كثير الغلط فليحذره من الاغترار به، والله يعلم المفسد من المصلح، والله تعالى أعلم.