المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: في تقسيم المفتين - العقد التليد في اختصار الدر النضيد = المعيد في أدب المفيد والمستفيد

[العلموي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌مدخل

- ‌مقدمة التحقيق:

- ‌مصادر ترجمة المؤلف بدر الدين الغزي:

- ‌مصادر ترجمة صاحب المختصر عبد الباسط العلموي:

- ‌ترجمة مؤلف المختصر:

- ‌العلموي وكتابه التلخيصي:

- ‌تحليل كتاب "المعيد" للعلموي:

- ‌وصف النسخة المخطوطة:

- ‌النص المحقق:

- ‌المقدمة: في الأمر بالإخلاص والصدق وإحضار النية:

- ‌الباب الأول: في فضيلة الاشتغال بالعلم على ما تقدم في ترتيبه

- ‌الفصل الأول: في فضيلة الاشتغال بالعلم وتصنيفه وتعلمه

- ‌الفصل الثاني: في تحذير مَن أراد بعلمه غير الله تعالى

- ‌الفصل الثالث: في تحذير مَن آذى أو انتقص عالما

- ‌الفصل الأول: في أقسام العلم الشرعي وهي ثلاثة: تفسير، وحديث، وفقه

- ‌الباب الثالث: في آداب المعلم والمتعلم

- ‌النوع الأول: آدابهما في نفسهما وآدابهما في جلس الدرس

- ‌القسم الأول: آدابهما في نفسهما وآدابهما في مجلس الدرس

- ‌القسم الثاني: آدابهما في درسهما واشتغالهما

- ‌النوع الثاني: آداب يختص بها المعلم وقد يشاركه في بعضها المتعلم

- ‌القسم الأول: آدابه في نفسه وتقدم منها جملة في الآداب المشتركة

- ‌القسم الثاني: آداب المعلم مع طلبته

- ‌القسم الثالث: آدابه في درسه

- ‌النوع الثالث: آداب يختص بها المتعلم

- ‌القسم الأول: آدابه في نفسه

- ‌القسم الثاني: آدابه مع شيخه وقدوته وما يجب عليه من تعظيم حرمته

- ‌الباب الرابع: في أدب المفتي والفتوى والمستفتي

- ‌مدخل

- ‌النوع الأول: في الأمور المعتبرة في كل مفتٍ

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: في الأمور المعتبرة في كل مفتٍ:

- ‌الفصل الثاني: في تقسيم المفتين

- ‌النوع الثاني: في أحكام المفتي وآدابه

- ‌النوع الثالث: في آداب الفتوى:

- ‌النوع الرابع: آداب المستفتي وصفته وأحكامه

- ‌الباب الخامس: في شروط المناظرة وآدابها وآفاتها

- ‌مدخل

- ‌الفصل الأول: في بيان شروط المناظرة

- ‌الفصل الثاني: في آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق

- ‌مدخل

- ‌مناظرة بين الشافعي ومالك رضي الله عنهما

- ‌مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما

- ‌مناظرة بينهما أيضا وهي مشهورة

- ‌مناظرة بينهما أيضا

- ‌مناظرة بين الشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما

- ‌مناظرة جرت بحرة الشافعي رضي الله عنه

- ‌مناظرة جرت بحضرة الشافعي وأقام هو الحجة فيها:

- ‌مناظرة بين أبي العباس أحمد بن سريج وأبي بكر محمد بن داود رحمهم الله

- ‌مناظرة بينهما أيضا في الأصلح والتعليل

- ‌ في الأدب مع الكتب التي هي آله العلم

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهارس العامة:

- ‌ فهرس الآيات القرآنية:

- ‌ فهرس الأحاديث النبوية:

- ‌ فهرس الأعلام والأقوام والجماعات:

- ‌ فهرس الكتب المذكورة في متن الكتاب:

- ‌ فهرس الأشعار والأرجاز:

- ‌ فهرس المصادر والمراجع:

- ‌ فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌الفصل الثاني: في تقسيم المفتين

‌الفصل الثاني: في تقسيم المفتين

قال أبو عمرو1: المفتون قسمان: مستقل وغيره.

فالمستقل شرطه مع ما ذكرناه أن يكون قيما بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل، وقد فصلت في كتب الفقه فتيسرت ولله الحمد، وأن يكون عالما بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها وبكيفية اقتباس الأحكام منها، وهذا يستفاد من أصول الفقه، عارفا من علوم القرآن والحديث والناسخ والمنسوخ والنحو والتصريف واللغة، واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن معه من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها، ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك، عالما بالفقه ضابطا لأمهات مسائله وتفاريعه حافظا لها، فمن جمع هذه الأوصاف فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدى به فرض الكفاية؛ لأنه يستقل بالأدلة بغير تقليد وتقييد بمذهب أحد2، قال ابن الصلاح3: وما شرطنا من حفظه لمسائل الفقه لم يُشترط في شيء من الكتب المشهورة لكونه ليس شرطا لمنصب الاجتهاد؛ لأن الفقه ثمرته وهي تتأخر عنه، وشرط الشيء لا يتأخر عنه، ثم لا يشترط أن يكون جميع الأحكام على ذهنه، بل يكفيه كونه حافظا للمعظم متمكنا من إدراك الباقي على قرب لما مر عن مالك وغيره4.

1 كتاب العلم للنووي ص118-119.

2 كتاب العلم للنووي ص119.

3 هو أبو عمرو، عثمان بن عبد الرحمن "صلاح الدين" النصري الشهرزوري الكردي الشرخاني، المعروف بابن الصلاح: أحد الفضلاء المقدمين في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال، ولد في شرخان قرب شهرزور، وانتقل إلى الموصل، ثم إلى خراسان، واستقر في دمشق، وتوفي فيها سنة 641هـ. السير 23/ 140، وطبقات الحفاظ 528.

4 كتاب العلم ص119.

ص: 181

تنبيه: هل يشترط في المفتي أن يعرف من الحساب ما يصحح به المسائل الحسابية الفقهية؟ فيه خلاف والأصح اشتراطه1.

تنبيه آخر: إنما يشترط اجتماع العلوم2 المذكورة فيما مر في مفتٍ مطلق في جميع أبواب الشرع، فأما مفت في باب خاص كالمناسك والفرائض فيكفيه معرفة ذلك الباب، كذا قطع به الغزالي وصاحبه ابن برهان3 وغيرهما، ومنهم من منعه مطلقا، وأجازه ابن الصباغ4 في الفرائض خاصة، والأصح جوازه مطلقا.

القسم الثاني: المفتي الذي ليس بمستقل ومن دهر طويل عُدم المفتي المستقل، وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة، والآن قد اقتصروا على الأربعة المذاهب في هذه البلاد، وللمفتي المنتسب أربعة أحوال:

الحالة الأولى: ألا يكون مقلدا لإمامه لا في المذهب ولا في دليله لاتصافه بصفة المستقل، وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد، وادعى الأستاذ أبو إسحاق هذه الصفة لأصحابنا، فحكي أن أصحاب مالك وأحمد وداود5، وأكثر الحنفية أنهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليدا، قال: والصحيح

1 كتاب العلم للنووي ص119-120.

2 كتاب العلم ص120.

3 هو أبو الفتح، أحمد بن علي بن برهان: فقيه بغدادي، غلب عليه علم الأصول، كان يضرب به المثل في حل الإشكال، ودرس بالنظامية شهرا واحدا وعزل، ثم تولاها ثانيا يوما واحدا وعزل أيضا، مولده ووفاته ببغداد سنة 518هـ. وفيات الأعيان 1/ 99، والأعلام 1/ 173.

4 هو أبو نصر، عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد، ابن الصباغ: فقيه شافعي، من أهل بغداد، كانت الرحلة إليه في عصره، وتولى التدريس بالمدرسة النظامية أول ما فتحت، وعمي في آخر عمره، توفي في بغداد 477هـ. نكت الهميان 193، والأعلام 4/ 10.

5 هو أبو سليمان، داود بن علي بن خلف الأصبهاني، الملقب بالظاهري: أحد الأئمة المجتهدين في الإسلام، تنسب إليه الطائفة الظاهرية، وسميت بذلك لأخذها بظاهر الكتاب والسنة وإعراضها عن التأويل والرأي والقياس، وكان داود أول من جهر بهذا القول، ولد في الكوفة، وسكن بغداد، وانتهت إليه رياسة العلم فيها، توفي في سنة 270هـ. تاريخ بغداد 8/ 369، والأعلام 2/ 333.

ص: 182

الذي ذهب إليه المحققون أن أصحابنا إنما صاروا إلى مذهب الشافعي لما وجدوا طرقه في الاجتهاد والقياس أسد الطرق ولم يكن لهم بد من الاجتهاد سلكوا طريقه فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشافعي لا أنهم قلدوه، وذكر أبو علي السنجي1 نحو هذا فقال: اتبعنا الشافعي دون غيره؛ لأنا وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها لا أنا قلدناه2، قال شيخ الإسلام النووي3: وهذا الذي ذكراه موافق لما أمرهم به الشافعي ثم المزني في أول مختصره وغيره بقوله مع إعلامهم نهيه عن تقليده وتقليد غيره، قال ابن الصلاح4: ودعوى انتقاء التقليد عنهم مطلقا لا يستقيم ولا يلائم العلوم من حالهم أو حال أكثرهم، وحكى بعض أصحاب الأصول منا أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل، ثم فتوى المفتي في هذه الحالة كفتوى المستقل في العمل بها والاعتداد بها في الإجماع والخلاف5.

تنبيه: إذا كان رجل مجتهد في مذهب إمام كما ذكر ولم يكن مستقلا بالفتيا عن نفسه، فهل له أن يفتي بقول ذلك الإمام؟ وجهان:

أحدهما: نعم، ويكون متبعه مقلدا للميت لا له.

والثاني: لا؛ لأنه مقلد له لا الميت، والسائل إنما أراد الاستفتاء على قول الميت.

والأول أصح وعليه ما نقل عن القفال في فتاويه أنه قال في مسألة بيع صاع من صبرة مجهولة الصيعان: نص الشافعي على الجواز وعندي لا يجوز، فقيل:

1 هو أبو علي، الحسين بن شعيب بن محمد السنجي: فقيه مرو في عصره، كان شافعيا، نسبته إلى سنج، من قرى مرو، توفي في سنة 427هـ. وفيات الأعيان 2/ 135، والأعلام 2/ 239.

2 كتاب العلم للنووي ص121.

3 كتاب العلم ص121.

4 كتاب العلم للنووي ص21.

5 كتاب العلم ص121.

ص: 183

كيف كان يفتي هذه المسألة؟ فقال: على مذهب الشافعي فإن من يسألني إنما يسأل عن مذهب الشافعي لا عن مذهبي1.

الحالة الثانية: أن يكون مجتهدا مقيدا في مذهب إمامه2، مستقلا بتقرير أصوله بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده وشرطه، عالما بالفقه وأصوله وأدلة الأحكام تفصيلا، بصيرا بمسالك الأقيسة والمعاني، تام الارتياض في التخريج والاستنباط، قيما بإلحاق ما ليس منصوصا عليه لإمامه بأصوله، ولا يعرى عن شوب تقليد له لإخلاله ببعض أدوات المستقل بأن يخل بالحديث أو العربية، وكثيرا ما أخل بهما المقيد، ثم يتخذ أصول إمامه أصولا يستنبط منها كفعل المستقل بنصوص الشرع، وربما اكتفى في الحكم بدليل إمامه، ولا يبحث عن معارض كفعل المستقل في النصوص، وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه، وعليها كان الأئمة من أصحابنا أو أكثرهم، والعامل بفتوى هذه مقلد لإمامه لا له؛ لأن معوله على صحة إضافة ما يقول إلى إمامه لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إلى الشارع بلا واسطة إمامه، قال بعضهم: والظاهر اشتراطه معرفته بما يتعلق بذلك من حديث ونحو ولغة3. انتهى.

ثم ظاهر كلام الأصحاب4 أن من هذا حاله لا يتأدى به فرض الكفاية، قال ابن الصلاح: ويظهر5 تأدي الفرض به في الفتوى، وإن لم يتأد في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى؛ لأنه قام فيها مقام إمامه المستقل فهو يؤدي إليه ما كان يتأدى به الفرض حين كان حيا قائما بالفرض منها، وهذا مفرع على الصحيح وهو جواز تقليد الميت، ثم قد يستقل المقيد في مسألة أو باب خاص كما

1 كتاب العلم للنووي ص172.

2 كتاب العلم للنووي ص121.

3 نفس السابق.

4، 5 نفس السابق.

ص: 184

تقدم، وله أن يفتي بما لا نص فيه لإمامه بما يخرجه على أصوله، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل، وإليه منزع المفتين من مدد طويلة، ثم إذا أفتى بتخريجه فالمستفتي مقلد لإمامه لا له، هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثي1، قال ابن الصلاح2: وينبغي أن يخرج هذا على خلاف، حكاه الشيخ أبو إسحاق وغيره أن ما يخرجه أصحابنا هل يجوز نسبته إلى الشافعي؟ والأصح أنه لا ينسب إليه، ثم تارة يخرج من نص معين لإمامه، وتارة لا يجده فيخرج على أصوله بأن يجد دليلا على شرط ما يحتج به إمامه فيفتي بموجبه، فإن نص إمامه في مسألة على شيء ونص في مسألة تشبهها على خلافه فخرج من أحدهما إلى الآخر سمى قولا مخرجا، وشرط هذا التخريج ألا يجد بين نصيه فرقا، فإن وجده وجب تقريرهما على ظاهرهما، ويختلفون كثيرا في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق، قال شيخ الإسلام النووي: وأكثر ذلك يمكن فيه الفرق وقد ذكروه3. انتهى. وقد بسطت الكلام على القول المخرج في غير هذا الكتاب.

الحالة الثالثة: ألا يبلغ رتبة أصحاب4 الوجوه لكنه فقيه النفس، حافظ مذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، ويصور ويحرر ويقرر ويمهد ويزيف ويرجح، لكنه قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب والارتياض في

1 كتاب العلم للنووي ص122.

ولإمام الحرمين كتابان بهذا الاسم:

1-

غياث الخلق في اتباع الأحق، وقد حرض فيه على الأخذ بمذهب الشافعي دون غيره.

2-

غياث الأمم "في الإمامة"، وقد صنفه للوزير غياث الدين نظام الملك وسماه:"الغياثي"، سلك فيه غالبا مسلك الأحكام السلطانية.

انظر كشف الظنون 2/ 1213.

2 كتاب العلم للنووي ص122.

3 كتاب العلم للنووي ص122.

4 كتاب العلم للنووي ص122.

ص: 185

الاستنباط أو معرفة الأصول ونحوها من أدواتهم، وهذه صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه وصنفوا فيه تصانيف فيها معظم اشتغال الناس اليوم ولم يلحقوا الذين قبلهم في التخريج، أما فتاويهم فكانوا يتبسطون فيها تبسط أولئك أو قريبا منه، ويقيسون غير المنقول عليه غير مقتصرين على القياس الجلي، وربما تطرق بعضهم إلى تخريج قول واستنباط وجه أو احتمال، وفتاويهم مقبولة، ومنهم من جمعت فتاويه، ولا تبلغ في التحاقها بالمذهب مبلغ فتاوى أصحاب الوجوه1.

الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب2 ونقله وفهمه في الموضحات والمشكلات ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته، وتحرير أقيسته، فهذا يعتمد نقله وفتواه فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من نصوص إمامه، وتفريع المجتهدين في مذهبه وتخريجهم، وله فيما لا يجده منقولا إذا وجد في المنقول ما هو في معناه بحيث يدرك بغير كبير فكر وتأمل أنه لا فرق بينهما [جاز] 3 أن يلحقه به ويفتي به، وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابط ممهد في المذهب، وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى فيه، ومثل هذا يقع نادرا في حق المذكور؛ إذ يبعد -كما قال إمام الحرمين- أن تقع مسألة لم ينص عليها في المذهب ولا هي في معنى المنصوص ولا مندرجة تحت شيء من ضوابط المذهب، وشرطه كونه فقيه النفس إذا حفظ وافر الفقه، قال ابن الصلاح4: وينبغي أن يكتفي في حفظ المذهب في هذه الحالة والتي قبلها بكون المعظم على ذهنه، فيتمكن لدربته من الوقوف على الباقي على قرب5. انتهى.

1 كتاب العلم للنووي ص122.

2 كتاب العلم لنووي ص122-123.

3 زيادة من كتاب العلم للنووي يقتضيها السياق.

4 كتاب العلم للنووي ص123.

5 نفس السابق.

ص: 186

فصل 1:

هذه أصناف المفتين وهي خمسة2، وكل صنف منها يشترط فيه حفظ المذهب، وفقه النفس، فمن تصدى للفتيا وليس بهذه الصفة فقد باء بأمر عظيم، ولقد قطع إمام الحرمين وغيره بأن الأصولي الماهر التصرف في الفقه لا يحل له الفتوى لمجرد ذلك، ولو وقعت له واقعة لزمه أن يسأل عنها، ويلتحق به المتصرف النظار البحاث من أئمة الخلاف وفحول المناظرين؛ لأنه ليس أهلا لإدارك حكم الواقعة استقلالا لقصور آلته، ولا من مذهب إمام لعدم حفظه له على الوجه المعتبر.

فإن قيل: من حفظ كتابا أو أكثر في المذهب وهو قاصر لم يتصف بصفة أحد ممن سبق ولم يجد العامي في بلده غيره هل له الرجوع إلى قوله؟

فالجواب: إن كان في غير بلده مفتٍ يجد السبيل إليه وجب التوصل إليه بحسب إمكانه، فإن تعذر ذكر مسألته للقاضي، فإن وجدها بعينها في كتاب موثوق بصحته وهو ممن يقبل خبره نقل له حكمها بنصه، وكان العامي فيها مقلدا صاحب المذهب، قال ابن الصلاح3: هذا وجدته في ضمن كلام بعضهم والدليل يعضده، وإن لم يجدها مسطورة بعينها لم يقسها على مسطورة عنده وإن اعتقد أن لا فارق بينهما؛ لأنه قد يتوهم ذلك في غير موضعه.

فإن قيل: هل لمقلد أن يفتي بما هو مقلد فيه؟

1 هذا العنوان والفصل نفسه من كتاب العلم للنووي ص123.

2 كتاب العلم للنووي ص123.

3 كتاب العلم للنووي ص123.

ص: 187

قلنا: قطع أبو عبد الله الحليمي1 وأبو محمد الجويني2 وأبو المحاسن الروياني3 وغيرهم بتحريمه4، وقال القفال المرزوي: يجوز.

قال أبو عمرو ابن الصلاح5: وقول من منعه معناه لا يذكره على صورة من يقوله عند نفسه، بل يضيفه إلى إمامه الذي قلده، فعلى هذا: من عددناه من المفتين المقلدين ليسوا مفتين حقيقة، لكن لما قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم وسبيلهم أن يقولوا مثلا: مذهب الشافعي كذا ونحو ذلك، ومن ترك منهم الإضافة فهو اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح به، ولا بأس بذلك إذن، وذكر الماوردي6 فيما إذا عرف حكم حادثة بنَى على دليلها ثلاثة أوجه:

أحدها: يجوز أن يفتي ويجوز تقليده؛ لأنه وصل إلى علمه كوصول العالم.

والثاني: يجوز إن كان دليلها كتابا أو سنة، ولا يجوز إن كان غيرهما.

والثالث: لا يجوز مطلقا وهو الأصح، والله أعلم.

1 هو أبو عبد الله، الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الجرجاني: فقيه شافعي، قاض، كان رئيس أهل الحديث في ما وراء النهر، مولده في جرجان، ووفاته في بخارى سنة 403هـ. الأعلام 2/ 234.

2 هو أبو محمد، عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيويه الجويني: من علماء التفسير واللغة والفقه، ولد في جوين، من نواحي نيسابور، وتوفي بها سنة 438هـ، وهو والد إمام الحرمين الجويني. وفيات الأعيان 3/ 47، والأعلام 4/ 146.

3 هو أبو المحاسن الروياني، عبد الواحد بن إسماعيل بن أحمد، فخر الإسلام: فقيه شافعي، من أهل رويان، بنواحي طبرستان، وتنقل في البلاد، وبنى بآمل طبرستان مدرسة، فتعصب عليه جماعة فقتلوه سنة 502هـ، وبلغ من تمكنه في الفقه أن قال: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من حفظي. السير 19/ 260، والأعلام 4/ 175.

4 كتاب العلم للنووي ص124.

5، 6 نفس السابق.

ص: 188

فصول 1:

لا يجوز لمجتهد أن يقلد مجتهدا ليعمل أو يفتي أو يقضي به لتمكنه من الاجتهاد الذي هو أصل التقليد، ولا يجوز العدول عن الأصل الممكن إلى بدله كما في الوضوء والتيمم، وقيل: يجوز له التقليد فيه لعدم علمه به الآن، وقيل: يجوز للقاضي لحاجته إلى فصل الخصومة المطلوب نجازه بخلاف غيره، وقيل: يجوز تقليد من هو أعلم منه، وقيل: يجوز عند ضيق الوقت وخوف الفوت لما يسأل عنه، وقيل: يجوز فيما يخصه دون ما يفتي به غيره.

والأصح جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم ووقوعه؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67]{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] عوتب على استبقاء أسرى بدر بالفداء2، وعلى الإذن لمن ظهر نفاقهم في التخلف عن غزوة تبوك3، والعتاب لا يكون فيما صدر عن وحي، فيكون عن اجتهاد، والأصح أن اجتهاده لا يخطئ، وليس العتاب المار في الآيتين لكونه صدر عن خطأ، بل للتنبيه على ترك الأولى إذ ذاك، والأصح أن الاجتهاد جائز في عصره صلى الله عليه وسلم وأنه وقع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حكَّم سعد بن معاذ4 في بني قريظة فقال: تقتل مقاتلهم وتسبي ذراريهم5، فقال صلى الله عليه وسلم:"لقد حكمت بحكم الله"

1 انظر هذه الفصول في كتاب العلم للنووي ص126-130.

2 تفسير الطبري 10/ 48، تاريخ الطبري 2/ 47.

3 تفسير الطبري 10/ 142، والطبقات الكبرى 2/ 165.

4 هو سعد بن معاذ بن النعمان الأوسي الأنصاري: صحابي، من الأبطال، كانت له سيادة الأوس بالمدينة، وحمل لواءهم يوم بدر، وشهد أحدا، فكان ممن ثبت فيها، ورمي بسهم يوم الخندق، فمات شهيدا سنة 5هـ، وحزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

5 صحيح البخاري 3/ 1384، والسنن الكبرى للبيهقي 9/ 63، ومسند أبي يعلى 2/ 405، والمعجم الكبير 6/ 6، الطبقات الكبرى 2/ 75.

6 صحيح البخاري 3/ 1384، وتفسير ابن كثير 3/ 479، وسنن البيهقي الكبرى 9/ 63، ومسند أبي يعلى 2/ 405، ومسند أبي عوانة 4/ 264، والمعجم الكبير 6/ 6، وشرح النووي على صحيح مسلم 12/ 94، والطبقات الكبرى 2/ 75، وتهذيب الأسماء 3/ 117، والأحكام للآمدي 4/ 182.

ص: 189