الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معاذ وعمار وزيد بن ثابت
…
أبي ابن مسعود وعوف حذيفة
ومنهم أبو موسى وسلمان حبرهم
…
كذاك أبو الدرداء وهو تتمة
وأفتى بمرآة أبو بكر الرضي
…
وصدقه فيها وتلك مزية
النوع الثالث: في آداب الفتوى:
وفيه مسائل 1:
إحداها2: يلزم المفتي أن يبين الجواب بيانا يزيل الإشكال، ثم له الاقتصار على الجواب شفاها، فإن لم يعرف لسانه كفاه ترجمة ثقة واحد، وله الجواب كتابة وإن كانت على خطر، وكان القاضي أبو حامد3 كثير الهرب من الفتوى في الرقاع4.
الثانية5: أن تكون عبارته واضحة يفهمها العامة، ولا يزدريها الخاصة، وليحتزر عن القلاقة والاستهحان، وإعراب غريب أو ضعيف، وذكر غريب لغة، ونحو ذلك.
الثالثة6: إذا كان في المسألة تفصيل لا يطلق الجواب فإنه خطأ، ثم له
1 كتاب العلم للنووي ص131.
2 كتاب العلم للنووي ص131.
3 هو أحمد بن بشر بن عامر العامري المرْوَرُوذي أحد رفعاء المذهب الشافعي وعظمائه. الأعلام 1/ 104.
4 فتاوى ابن الصلاح 1/ 72، أدب المفتي والمستفتي 1/ 134.
5 كتاب العلم للنووي ص133.
6 كتاب العلم للنووي ص131.
أن يستفصل السائل إن حضر، ويعيد السؤال في رقعة أخرى إن كان السؤال في رقعة ثم يجيب، وهذا أولى وأسلم، وله أن يقتصر على أحد الأقسام إذا علم أنه الواقع للسائل، ثم يقول هذا إذا كان الأمر كذا، وله أن يذكر الأقسام في جوابه، ويذكر حكم كل قسم، لكن هذا كرهه أبو الحسن القابسي1 من أئمة المالكية وغيره وقالوا: هذا تعليم للناس الفجور، وإذا لم يجد المفتي من يسأله فصل له الأقسام، واجتهد في بيانها.
الرابعة2: إذا كان في الرقعة مسائل فالأحسن ترتيب الجواب على ترتيب السؤال، ويجوز ترك الترتيب، ويشبه معنى قوله تعالى:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} الآية [آل عمران: 106] ، وليس أدبا كون السؤال بخط المفتي، ويجوز أن يكون بإملائه، وكان الشيخ أبو إسحاق أحيانا يكتب السؤال على ورق له، ثم يكتب الجواب، وليس له أن يكتب الجواب على ما علمه من صورة الواقعة، فإن أراد خلافه قال: إن كان الأمر كذا فجوابه كذا، وليصبر المفتي على تفهم الجواب للمستفتي، فثوابه على ذلك جزيل، وليكن تأمله للرقعة شافيا3، ويعتني في آخر الكلام أشد فإن السؤال في آخرها، وقد يتقيد جميع الكلام بكلمة في آخرها ويغفل عنها، قال الصيمري: وينبغي أن يكون توقفه في المسألة السهلة كالصعبة ليعتاده، وكان محمد بن الحسن4 يفعله، وإذا وجد فيها كلمة مشتبهة
1 هو أبو الحسن ابن القابسي، علي بن محمد بن خلف المعافري القيرواني: عالم المالكية بإفريقية في عصره، كان حافظا للحديث وعلله ورجاله، فقيها أصوليا، رحل إلى المشرق وعاد إلى القيروان، وأصيب بالعمى في كبره، تولى الفتيا مكرها، وتوفي بالقيروان سنة 403هـ. وفيات الأعيان 3/ 320، والسير 17/ 158، ونكت الهميان 217.
2 كتاب العلم للنووي ص131.
3 كتاب العلم للنووي ص132.
4 هو أبو عبد الله، محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني: إمام بالفقه والأصول، وهو الذي نشر علم أبي حنيفة، ولد بواسط، ونشأ بالكوفة، فسمع من أبي حنيفة، وغلب عليه مذهبه، وعُرف به، وانتقل إلى بغداد، فولاه الرشيد القضاء بالرقة، ثم عزله، ولما خرج الرشيد إلى خراسان صحبه، فمات في الري سنة 189هـ، نعته الخطيب البغدادي بإمام أهل الرأي، له كتب كثيرة في الفقه والأصول. تاريخ بغداد 2/ 172، والنجوم الزاهرة 2/ 130.
سأل المستفتي عنها ونقطها وضبطها، وإن وجد لحنا فاحشا أو خطأ يحيل المعنى أصلحه، وإن رأى بياضا في أثناء سطر أو آخره خط عليه أو شغله؛ لأنه ربما قصد المفتي بالإيذاء فيكتب في البياض بعد فتواه ما يفسدها كما يقال: إنه كتب إلى القاضي أبي حامد: ما تقول فيمن مات وخلف بنتا واحدة وابن عم؟ فأجاب: للبنت النصف والباقي لابن العم، فأُلحق بموضع البياض وأبا وغلط في الجواب، ويستحب1 أن يقرأها على حاضريه المتأهلين لذلك ويشاورهم ويباحثهم برفق وإن كانوا تلامذته للاقتداء بالسلف، ورجاء ظهور ما يخفى عليه، إلا أن يكون فيها ما يقبح إبداؤه، أو يريد السائل كتمانه، وليكتب2 الجواب بخط واضح وسط لا دقيق خاف، ولا غليظ جاف، بقلم صحيح غير جاف، واستحب بعضهم ألا تختلف أقلامه خوفا من التزوير ولئلا يشتبه خطه، وإذا كتبه أعاد نظره فيه خوفا من اختلال وقع فيه وإخلال ببعض المسئول عنه، ويختار أن يكون ذلك قبل كتابة اسمه وختم الجواب.
الخامسة3: إذا كان هو أول من يجيب على السؤال فجرت العادة قديما وحديثا بأن يكتب في حاشية الناحية اليسرى من الرقعة، ولا يكتب فوق البسملة بحال، ويستحب عند إرادة الإفتاء أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويسمي الله تعالى، ويصلي على محمد صلى الله عليه وسلم ويدعو ويقول:{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 25-28] ونحو ذلك، وجاء عن مكحول4 ومالك أنهما كانا لا يفتيان حتى يقولا: لا حول ولا
1 كتاب العلم للنووي ص133.
2 كتاب العلم للنووي ص133.
3 كتاب العلم للنووي ص133.
4 هو أبو عبد الله، مكحول بن أبي مسلم شهراب بن شاذل، الهذلي بالولاء: فقيه الشام في عصره، من حفاظ الحديث، أصله من فارس، تفقه، ورحل في طلب الحديث، ثم استقر في دمشق وتوفي بها سنة 112هـ. وفيات الأعيان 5/ 280، والسير 5/ 155.
قوة إلا بالله، وعن بعضهم أنه كان بعد الاستعاذة يقول:{سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} الآية [البقرة: 32]{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الآية [الأنبياء: 79] ويصلي ويسلم على محمد وآله وصحبه وسائر النبيين والصالحين، ويدعو: اللهم وفقني وسددني واجمع لي بين الصواب والثواب، وأعذني من الخطأ والحرمان آمين، فإن لم يأتِ بذلك عند كل فتوى فليأتِ به عند أول فتوى يفتيها في يومه مضافا إليه سورة الفاتحة وآية الكرسي وما تيسر، فمن ثابر على ذلك كان موفقا في فتاويه. انتهى.
وقال بعضهم: ويستحب أن يكتب في أول فتواه الحمد لله، أو الله الموفق، أو حسبنا الله، أو حسبي الله، أو الجواب وبالله التوفيق، ونحوه وحذفه آخرون.
قال الصيمري: لو عمل ذلك فيما طال من المسائل واشتمل على فصول وحذف في غيرها كان حسنا، قال شيخ الإسلام النووي: المختار قول ذلك مطلقا، وأحسنه الابتداء بالحمد لله لحديث: "كل أمر ذي بال
…
"1، ويقوله بلسانه ويكتبه ويختم جوابه كما قال الصيمري بقوله: والله أعلم، أو بالله التوفيق، وليكتب بعده: كتبه أو قاله فلان بن فلان الفلاني، فينتسب إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلد أو صفة أو غير ذلك ثم إلى مذهبه، فإن كان مشهورا بالاسم فلا بأس بالاقتصار عليه، وإذا تعلقت الفتوى بالسلطان يدعو له بالصلاح أو التوفيق أو التسديد ونحو ذلك، ويكره الدعاء له بطول البقاء كما قاله شيخ الإسلام النووي نقلا عن أبي جعفر النحاس2، قال بعضهم: هي تحية الزنادقة3، وفي
1 وتتمته: "لا يبدأ بالحمد لله فهو أجذم"، أي: مقطوع وناقص، رواه ابن حبان 578، وابن ماجه 1894، والبيهقي في الكبرى 3/ 209.
2 هو أبو جعفر النحاس، أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي، المصري: مفسر، أديب، كان من نظراء نفطويه وابن الأنباري، زار العراق واجتمع بعلمائه، مولده ووفاته بمصر سنة 338هـ. إنباه الرواة 1/ 101، والنجوم الزاهرة 3/ 300.
3 كتاب العلم للنووي ص134، والمجموع 4/ 510، وآداب الفتوى 1/ 52، وكشاف القناع 3/ 130، ومواهب الجليل 2/ 199.
صحيح مسلم في حديث أم حبيبة1 رضي الله عنها إشارة إلى أن الأولى ترك نحو هذا الدعاء بطول البقاء وأشباهه2، قال بعضهم: يكتب المفتي بالمداد دون الحبر خوفا من الحك، قال: والمستحب الحبر لا غير، قال شيخ الإسلام النووي: لا يختص واحد منهما بالاستحباب بخلاف كتب العلم، فالمستحب فيها الحبر؛ لأنها تراد للبقاء، والحبر أبقى.
السادسة3: ينبغي أن يختصر جوابه غالبا بحيث تفهمه العامة فهما جليا، قال صاحب الحاوي4: يجوز أو لا يجوز، أو حق أو باطل، وحكي عن القاضي أبي حامد أنه كان يختصر غاية ما يمكن، واستفتي في مسألة آخرها يجوز أم لا؟ فكتب لا، وبالله التوفيق5.
السابعة6: قال الصيمري والخطيب: إذا سئل عمن قال: أنا أصدق من محمد بن عبد الله، أو الصلاة لعب، وشبه ذلك أي مما يقتضي إراقة دمه فلا يبادر بقوله: هذا حلال الدم، أو عليه القتل، بل يقول: إن ثبت هذا بإقراره أو ببينة استتابه السلطان، فإن تاب قبلت توبته وإلا فعل به كذا وكذا وأشبع القول في ذلك، وإن سئل عن شيء يحتمل الكفر وعدمه قال: يسأل هذا القائل فإن قال: أردت كذا فالجواب كذا، أو كذا فالجواب كذا، وإن سئل عمن قتل أو قلع عينا أو غيرها احتاط وذكر شروط القصاص، وإن سئل عمن فعل ما يقتضي تعزيزا ذكر ما يعزر به فيقول: ضربه السلطان ما بين كذا وكذا ولا يزاد على كذا
1 هي أم المؤمنين، رملة بنت أبي سفيان الأموي، وأخت الخليفة معاوية، وهي من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، كانت من فصيحات قريش، ومن ذوات الرأي والحصافة، توفيت في المدينة سنة 44هـ. السير 2/ 218.
2 الحديث رواه مسلم 2663 عن أم حبيبة رضي الله عنها.
3 كتاب العلم للنووي ص135.
4 كتاب العلم للنووي ص135.
5 آداب الفتوى 1/ 52.
6 كتاب العلم للنووي ص135.
انتهى كلامهما، قال ابن الصلاح1: ولو كتب عليه القصاص أو التعزير بشرطه فليس ذلك بإطلاق، بل تقييده بشرطه يحمل الوالي على السؤال عن شرطه والبيان أولى، وهذا يجري في كثير من المسائل المحتاجة إلى شرط، قال الصيمري وابن الصلاح2: وإذا سئل عن ميراث فليست العادة أن يقول: يشترط في الإرث عدم الرق والكفر وغيرهما من موانع الميراث، بل المطلق محمول على ذلك بخلاف ما إذا أطلق الإخوة والأخوات والأعمام وبنيهم فلا بد أن يقول في الجواب من أبوين أو أب أو أم، وإذا سئل3 عن مسألة عول كالمنبرية4 وهي زوجة وأبوان وبنتان فلا يقل: للزوجة الثمن ولا التسع؛ لأنه لم يطلقه أحد من السلف، بل يقول: له الثمن عائلا وهو ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين، أولها ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين، أو يقول ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: صار ثمنها تسعا، وإذا كان في المذكورين في رقعة الاستفتاء من لا يرث أفصح بسقوطه قال: وسقط فلان، وإن كان يسقط في حال دون حال قال: وسقط فلان في هذه الحالة أو نحو ذلك لئلا يتوهم أنه لا يرث بحال، وإذا سئل5 عن إخوة وأخوات وبنين وبنات فلا ينبغي أن يقول:{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فإن ذلك قدر يشكل على العامي بل يقول: يقتسمون التركة على كذا وكذا سهما كل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم مثلا هكذا قال الصيمري، قال الشيخ أبو إسحاق6: ونحن نجد في تعمد العدول عنه حزازة في النفس لكونه لفظ القرآن العزيز وأنه قل ما يخفى معناه على أحد7، وينبغي
1 كتاب العلم للنووي ص135.
2 كتاب العلم للنووي ص137.
3 كتاب العلم للنووي ص137.
4 فتاوى ابن الصلاح 1/ 78، وآداب الفتوى 1/ 58، وأدب المفتي والمستفتي 1/ 143.
5 كتاب العلم للنووي ص138.
6 كتاب العلم للنووي ص138.
7 فتاوى ابن الصلاح 1/ 78، وآداب الفتوى 1/ 59، وأدب المفتي والمستفتي 1/ 144.
أن يكون في جواب مسائل المناسخات شديد التحرز والتحفظ وليقل فيها: لفلان كذا وكذا بميراثه من أبيه ثم من أمه ثم من أخيه، قال الصيمري: وكان بعضهم يختار أن يقول: لفلان كذا وكذا سهما بميراثه عن أبيه كذا وعن أمه كذا وعن أخيه كذا قال: وكل هذا قريب، قال الصيمري وغيره: وحسن أن يقول: تقسم التركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دين أو وصية إن كانا1.
الثامنة2: ينبغي أن يلصق الجواب بآخر الاستفتاء ولا يدع فرجة لئلا يزيد السائل شيئا يفسدها، وإذا كان موضع الجواب ملصقا كتب على موضع الإلصاق، وإذا ضاق موضع الجواب فلا يكتبه في ورقة أخرى، بل في ظهرها أو حاشيتها وهي أولى في أرجح الوجوه، وثالثها سواء والأمر قريب، وإذا ظهر للمفتي3 أن الجواب خلاف غرض المستفتي فليقتصر على مشافهته بالجواب بلا كتابة، وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو خصمه، ووجوه الميل كثيرة لا تخفى، فمنها أن يكتب في جوابه ما هو له، ويترك ما هو عليه، وليس له أن يبدأ في مسائل الدعوى والبينات بوجوه المخالص منها، ولا يعلم أحدهما ما يدفع به حجة صاحبه كي لا يتوصل بذلك إلى إبطال حق، وله أن يسأله عن حاله فيما ادعى عليه، فإذا شرحه له عرفه بما فيه من دافع وغير دافع، قال الصيمري: وينبغي للمفتي4 إذا رأى للسائل طريقا يرشده إليه وينبهه عليه، يعني ما لم يضر غيره ضررا بغير حق، قال كمن حلف لا ينفق على زوجته شهرا يقول: أعطها من صداقها أو قرضا أو بيعا ثم تبرئها منه، وكما حكي أن رجلا قال لأبي حنيفة: حلفت أن أطأ امرأتي في نهار رمضان ولا أكفر ولا أعصي5
1 كتاب العلم للنووي ص138.
2 كتاب العلم للنووي ص135.
3 كتاب العلم للنووي ص136.
4 كتاب العلم للنووي ص136.
5 كتاب العلم للنووي ص136، وآداب الفتوى 1/ 55.
فقال: سافر بها1، قال الصيمري: إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ وتشديد وهو مما لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز ذلك زجرا وتهديدا في مواضع الحاجة حيث لا يترتب عليه مفسدة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سأله رجل عن توبة القاتل فقال: لا توبة له2، وسأله رجل آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول فرأيت في عينيه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني فجاء مستكينا قد قتل فلم أقنطه، وكذا إن سأله رجل فقال: إن قتلت عبدي هل علي قصاص؟ 3 فواسع أن يقول: إن قتلت عبدك قتلناك؛ لأن القتل له معان4، ولو سئل عن سب الصحابة هل يوجب القتل؟ فواسع أن يقول: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سب أصحابي فاقتلوه" 5 ويفعل ذلك زجرا للعامة ومن قل دينه ومروءته6.
التاسعة7: يجب على المفتي أن يقدم الأسبق من رقاع الفتوى، كما يفعله القاضي في الخصوم، فإن جاءوا دفعة أو جهل السابق أقرع لم يحصل إيثار ومهايأة، والصحيح تقديم امرأة ومسافر شد رحله ويتضرر بتخلفه عن الرفقة ونحوهما وإذا رأى المفتي خط غيره في فتوى ممن هو من أهلها وإن كان دونه ووافق ما عنده كتب تحت خطه: الجواب صحيح أو جوابي كجوابه ونحو
1 قوله: سافر بها، مشكل؛ لأنه إن سافر بها بنية الوطء المذكور، فهو عاص بسفره، وكيف يترخص بالوطء، والرخص لا تناط الرخص بالمعاصي، أما إذا سافر بها الأمر آخر يدخل هذا في ضمنه فلا بأس.
2 كتاب العلم للنووي ص136، وآداب الفتوى 1/ 56، وجواهر العقود 2/ 205، وتلخيص الحبير 4/ 187، وتحفة الأحوذي 8/ 305.
3 كتاب العلم للنووي ص136.
4 كتاب العلم للنووي ص136-137.
5 رواه أبو داود 4515، والترمذي 1414، والنسائي 8/ 20، وابن ماجه 2663، وأحمد 5/ 10، 11، والبغوي 2533، والحاكم 4/ 367، والبيهقي في السنن 8/ 35.
6 كتاب العلم للنووي ص137.
7 كتاب العلم للنووي ص137-138.
ذلك، وله أن يذكر الحكم بعبارة أخصر وأرشق، وأما إذا رأى فيها خط من ليس أهلا للفتوى1 فقال الصيمري: لا يفتي معه؛ لأن في ذلك تقريرا لمنكر، بل له أن يضرب عليه وإن لم يأذن صاحب الرقعة2، وله انتهار السائل وزجره وتعريفه قبح ما فعله، ولا يحبس الرقعة عنده، وإن رأى فيها اسم من لا يعرفه سأل عنه، فإن لم يعرفه فله الامتناع، والأولى أن يشار على صاحبها بإبدالها، فإن أبى أجابه شفاها3، قال ابن الصلاح: وإذا خاف4 فتنة من الضرب على فتيا العادم الأهلية ولم تكن خطأ عدل إلى الامتناع من الفتيا معه، فإن غلبت فتاويه على فتاويه لتغلبه بجاه أو تلبيس بحيث صار امتناع المتأهل من الفتيا معه مضرا المستفتين فليفت معه، فإن ذلك أهون الضررين، أما إذا وجد فتيا من هو أهل في مذهبه وهي خطأ فلا يجوز له الامتناع من الإفتاء، وليقطع الرقعة بإذن صاحبها، أو يكتب صواب جوابه عند ذلك، قال صاحب الحاوي: لا يسوغ لمفتٍ إذا استفتى أن يتعرض لجواب غيره برد ولا تخطئة، ويجيب بما عنده من موافقة أو مخالفة5.
العاشرة6: إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلا، ولم يحضر صاحب الواقعة، فقال الخطيب: ينبغي له أن يرشد المستفتي إلى مفتٍ آخر إن كان، وإلا فيمسك حتى يعلم الجواب، وإذا كان في رقعة الاستفتاء مسائل فهم بعضها دون بعض أجاب عما فهم وسكت عن الباقي، وإذا فهم من السؤال صورة وهو يحتمل
1 كتاب العلم للنووي ص138.
2 كتاب العلم للنووي ص138.
3 كتاب العلم للنووي ص138-139.
4 كتاب العلم للنووي ص139.
5 كتاب العلم للنووي ص139، وفي هامشة عن الأذرعي ما نصه:"قلت: لعل مراده ما إذا كان الجواب محتملا، أما إذا كان غلطا فالوجه التنبيه عليه لئلا يعمل به، وكذا لو كان مما يقتضي لمثله الحكم، وقد كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يصنع هذا".
6 كتاب العلم للنووي ص139.
غيرها فلينص عليها في أول جوابه فيقول: إن كان قد قال كذا أو فعل كذا وما أشبه ذلك فالأمر كذا وكذا، وإلا فكذا وكذا، وليس1 بمنكر أن يذكر المفتي في فتواه حجة مختصرة قريبة من آية أو حديث، ومنعه بعضهم2 فرقا بين الفتيا والتصنيف3، وفصَّل الصيمري فقال: لا يذكر الحجة إن أفتى عاميا ويذكرها إن أفتى فقيها4، قال شيخ الإسلام النووي5: وهذا التفصيل أولى فقد يحتاج المفتي إلى أن يشدد ويبالغ فيقول: هذا إجماع المسلمين، أو لا أعلم في هذا خلافا، أو من خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصواب أو الإجماع، أو فقد أثم أو فسق وعلى ولي الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر على حسب ما تقتضيه المصلحة ويوجبه الحال.
قال ابن الصلاح6: وليس للمفتي إذا استُفتي في شيء من المسائل الكلامية أن يفتي بالتفصيل، بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك أو في شيء منه وإن قل، ويأمرهم بأن يقتصروا على الإيمان جملة من غير تفصيل ويقولوا فيها وفي كل ما ورد من آيات الصفات وأخبارها المتشابهة: إن الثابت فيها في نفس الأمر هو اللائق فيها بجلال الله، ونَكِلُ علم تفصيله إلى الله، فهذا ونحوه هو الصواب من أئمة الفتوى، وهو سبيل السلف، وهو أصون وأسلم للعامة، وإذا عزر ولي الأمر من حاد عن هذه الطريقة فقد تأسى7 بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في تعزير صَبِيغ8
1 كتاب العلم للنووي ص140.
2 هو صاحب الحاوي كما في كتاب العلم للنووي ص140.
3 كتاب العلم للنووي ص140.
4 كتاب العلم للنووي ص140.
5 في كتابه العلم وآداب العالم والمتعلم ص140، 140.
6 قوله هذا في كتاب العلم ص141.
7 كتاب العلم للنووي ص141.
8 هو صبيغ بن عسل الحنظلي، له إدراك، قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر، فأعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيع، قال: وأنا عبد الله عمر، فضربه حتى دمي رأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي. انظر الإصابة 2/ 198، والسير 10/ 29.
الذي كان يسأل عن المتشابهات على ذلك، والمتكلمون من أصحابنا معترفون بصحة هذه الطريقة وأنها أسلم لمن سلمت له، واستُفتي الغزالي في كلام الله فكان من جوابه1: وأما الخوض في أن كلام الله حرف وصوت أو ليس كذلك فهو بدعة، وكل من يدعو العوام إلى الخوض في ذلك فليس من أئمة الدين، وإنما هو من المضلين، وقال في رسالة له: الصواب للخلق كلهم إلا الشاذ النادر سلوك مسلك السلف في الإيمان المرسل، والتصديق المجمل بكل ما أنزله الله وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير بحث وتفتيش، والاشتغال بالتقوى ففيه شغل شاغل، وإذا سئل فقيه عن مسألة في تفسير القرآن فإن كانت تتعلق بالأحكام أجاب عنها وكتب خطه بذلك، كمن يسأل عن الصلاة الوسطى والقرء ومن بيده عقدة النكاح، وإن كانت ليست من مسائل الأحكام كالسؤال عن "الرقيم"2 والنقير3 والتقطمير4 والغسلين5 رده إلى أهله، ووكله إلى من نصب نفسه له من أهل التفسير، ولو أجابه شفاها لم يستقبح، قال شيخ الإسلام النووي رحمه الله: ولو قيل إنه يحسن كتابته للفقيه العارف لكان حسنا، وأي فرق بينه وبين مسائل الأحكام، والله تعالى أعلم6.
1 كتاب العلم للنوي ص141.
2 زيادة من كتاب العلم للنووي ص143، والرقيم: قيل: هو الكتاب أو اللوح، أو اسم قرية، أو اسم واد.
3 النقير: جزء بسيط من ظهر النواة.
4 القطمير: القشرة الرقيقة التي على النواة كاللفافة لها.
5 الغسلين: قيل: هو طعام أهل النار، أو شجر في النار، أو ما يسيل من حديد من أجسام أهل النار.
6 كتاب العلم للنووي ص143.