الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ الْأَجْسَادُ لَا تُنْقَلُ مِنْ الْقُبُورِ]
مَسْأَلَةٌ:
فِيمَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً يَنْقُلُونَ مِنْ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ إلَى مَقَابِرِ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَيَنْقُلُونَ مِنْ مَقَابِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَقْصُودُهُمْ أَنَّ مَنْ خُتِمَ لَهُ بِشَرٍّ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَقَدْ مَاتَ فِي الظَّاهِرِ مُسْلِمًا، أَوْ كَانَ كِتَابِيًّا وَخُتِمَ لَهُ بِخَيْرٍ، فَمَاتَ مُسْلِمًا فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَفِي الظَّاهِرِ مَاتَ كَافِرًا فَهَؤُلَاءِ يُنْقَلُونَ. فَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ أَمْ لَا؟ وَهَلْ لِذَلِكَ حُجَّةٌ؟ أَمْ لَا؟
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. أَمَّا الْأَجْسَادُ فَإِنَّهَا لَا تُنْقَلُ مِنْ الْقُبُورِ، لَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يَكُونُ ظَاهِرُهُ الْإِسْلَامَ، وَيَكُونُ مُنَافِقًا، إمَّا يَهُودِيًّا، أَوْ نَصْرَانِيًّا، أَوْ مُرْتَدًّا مُعَطِّلًا.
فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ نُظَرَائِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] أَيْ أَشْبَاهَهُمْ، وَنُظَرَاءَهُمْ.
وَقَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ مَنْ مَاتَ، وَظَاهِرُهُ كَافِرًا، أَنْ يَكُونَ آمَنَ بِاَللَّهِ، قَبْلَ أَنْ يُغَرْغِرَ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ، وَكَتَمَ أَهْلُهُ ذَلِكَ، إمَّا لِأَجْلِ مِيرَاثٍ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَكُونُ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ مَقْبُورًا مَعَ الْكُفَّارِ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ فِي نَقْلِ الْمَلَائِكَةِ، فَمَا سَمِعْت فِي ذَلِكَ أَثَرًا.
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى]
382 -
22 - سُئِلَ: عَنْ قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» فَهَلْ يَقْتَضِي ذَلِكَ إذَا مَاتَ لَا يَصِلُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْبِرِّ؟
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لَيْسَ فِي الْآيَةِ، وَلَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَنْتَفِعُ بِدُعَاءِ الْخَلْقِ لَهُ، وَبِمَا يُعْمَلُ عَنْهُ مِنْ الْبِرِّ بَلْ أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ مُتَّفِقُونَ عَلَى انْتِفَاعِ الْمَيِّتِ بِذَلِكَ، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ - رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر: 7 - 9] . فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمَغْفِرَةِ، وَوِقَايَةِ الْعَذَابِ، وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَدُعَاءُ الْمَلَائِكَةِ لَيْسَ عَمَلًا لِلْعَبْدِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] . وَقَالَ الْخَلِيلُ عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41] . وَقَالَ نُوحٌ عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28] . فَقَدْ ذَكَرَ اسْتِغْفَارَ الرُّسُلِ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَمْرًا بِذَلِكَ، وَإِخْبَارًا عَنْهُمْ بِذَلِكَ.
وَمِنْ السُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ الَّتِي مَنْ جَحَدَهَا كَفَرَ: صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمَيِّتِ، وَدُعَاؤُهُمْ لَهُ فِي الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ السُّنَنَ فِيهَا مُتَوَاتِرَةٌ، بَلْ لَمْ يُنْكِرْ شَفَاعَتَهُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ إلَّا أَهْلُ الْبِدَعِ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ يَشْفَعُ لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ، وَشَفَاعَتُهُ دُعَاؤُهُ، وَسُؤَالُهُ اللَّهَ تبارك وتعالى. فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَجَاحِدُ مِثْلِ ذَلِكَ كَافِرٌ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ.
وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ، مِثْلُ مَا فِي الصِّحَاحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ، أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إنَّ لِي مَخْرَفًا - أَيْ بُسْتَانًا - أُشْهِدُكُمْ أَنِّي تَصَدَّقْت بِهِ عَنْهَا» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ
نَفْسُهَا، وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إنْ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يُوصِ، أَيَنْفَعُهُ إنْ تَصَدَّقْت عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ» وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: «أَنَّ الْعَاصِ بْنَ وَائِلٍ نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَذْبَحَ مِائَةَ بَدَنَةٍ، وَأَنَّ هِشَامَ بْنَ الْعَاصِ نَحَرَ حِصَّتَهُ خَمْسِينَ، وَأَنَّ عَمْرًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَمَّا أَبُوك فَلَوْ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ فَصُمْت عَنْهُ، أَوْ تَصَدَّقْت عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ» .
وَفِي سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ: أَنَّ «رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ لِي أَبَوَانِ، وَكُنْت أَبَرُّهُمَا حَالَ حَيَاتِهِمَا. فَكَيْفَ بِالْبِرِّ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ مِنْ بَعْدِ الْبِرِّ أَنْ تُصَلِّيَ لَهُمَا مَعَ صَلَاتِك، وَأَنْ تَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِك، وَأَنْ تَصَدَّقَ لَهُمَا مَعَ صَدَقَتِك» .
وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيِّ، قَالَ: قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، الْحَدِيثَ الَّذِي جَاءَ «إنَّ الْبِرَّ بَعْدَ الْبِرِّ، أَنْ تُصَلِّيَ لِأَبَوَيْك مَعَ صَلَاتِك، وَتَصُومَ لَهُمَا مَعَ صِيَامِك» ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، عَمَّنْ هَذَا؟ قُلْت لَهُ: هَذَا مِنْ حَدِيثِ شِهَابِ بْنِ خِرَاشٍ، قَالَ: ثِقَةٌ، قُلْت: عَمَّنْ؟ قَالَ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ. فَقَالَ: ثِقَةٌ، عَمَّنْ؟ قُلْت: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا إِسْحَاقَ، إنَّ بَيْنَ الْحَجَّاجِ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَفَاوِزَ تُقْطَعُ فِيهَا أَعْنَاقُ الْمَطِيِّ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الصَّدَقَةِ اخْتِلَافٌ.
وَالْأَمْرُ كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، فَإِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُرْسَلٌ.
وَالْأَئِمَّةُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ، وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ الْمَالِيَّةُ، كَالْعِتْقِ.
وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ: كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَمَعَ هَذَا فَفِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ، صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صِيَامُ نَذْرٍ، قَالَ: أَرَأَيْت إنْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ، أَكَانَ يُؤَدَّى ذَلِكَ عَنْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّك» . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ أُخْتِي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُخْتِك دَيْنٌ أَكُنْت تَقْضِيهِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ فَحَقُّ اللَّهِ أَحَقُّ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ بْنِ حَصِيبٍ عَنْ أَبِيهِ: «أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ. أَفَيُجْزِي عَنْهَا أَنْ أَصُومَ عَنْهَا، قَالَ: نَعَمْ» .
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ يُصَامُ عَنْ الْمَيِّتِ مَا نَذَرَ، وَأَنَّهُ شَبَّهَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ.
وَالْأَئِمَّةُ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يُخَالِفْ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ مَنْ بَلَغَتْهُ، وَإِنَّمَا خَالَفَهَا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَمْرٍو بِأَنَّهُمْ إذَا صَامُوا عَنْ الْمُسْلِمِ نَفَعَهُ. وَأَمَّا الْحَجُّ فَيُجْزِي عِنْدَ عَامَّتِهِمْ، لَيْسَ فِيهِ إلَّا اخْتِلَافٌ شَاذٌّ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما «أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ فَقَالَ: حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّك دَيْنٌ، أَكُنْتِ قَاضَيْته عَنْهَا؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاَللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» . وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: «إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ «أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ، وَلَمْ تَحُجَّ، أَفَيُجْزِي - أَوْ يُقْضَى - أَنْ أَحُجَّ عَنْهَا، قَالَ: نَعَمْ» .
فَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: " أَنَّهُ أَمَرَ بِحَجِّ الْفَرْضِ عَنْ الْمَيِّتِ وَبِحَجِّ النَّذْرِ ". كَمَا أَمَرَ بِالصِّيَامِ. وَأَنَّ الْمَأْمُورَ تَارَةً يَكُونُ وَلَدًا، وَتَارَةً يَكُونُ أَخًا، وَشَبَّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ بِالدَّيْنِ، يَكُونُ عَلَى الْمَيِّتِ. وَالدَّيْنُ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْوَلَدِ. كَمَا جَاءَ مُصَرِّحًا بِهِ فِي الْأَخِ.
فَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عِلْمٌ مُفَصَّلٌ مُبَيَّنٌ. فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] . «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» ، بَلْ هَذَا حَقٌّ، وَهَذَا حَقٌّ.
أَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّهُ قَالَ: «انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» فَذَكَرَ الْوَلَدَ، وَدُعَاؤُهُ لَهُ خَاصَّيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ كَسْبِهِ، كَمَا قَالَ:{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2] . قَالُوا: إنَّهُ وَلَدُهُ. وَكَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ» . فَلَمَّا كَانَ هُوَ السَّاعِي فِي وُجُودِ الْوَلَدِ كَانَ عَمَلُهُ مِنْ كَسْبِهِ، بِخِلَافِ الْأَخِ، وَالْعَمِّ وَالْأَبِ، وَنَحْوِهِمْ. فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ أَيْضًا بِدُعَائِهِمْ، بَلْ بِدُعَاءِ الْأَجَانِبِ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِهِ.
وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ» لَمْ يَقُلْ: إنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِعَمَلِ غَيْرِهِ. فَإِذَا دَعَا لَهُ وَلَدُهُ كَانَ هَذَا مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي لَمْ يَنْقَطِعْ، وَإِذَا دَعَا لَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِهِ، لَكِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ. وَأَمَّا الْآيَةُ فَلِلنَّاسِ عَنْهَا أَجْوِبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ. كَمَا قِيلَ: إنَّهَا تَخْتَصُّ بِشَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَقِيلَ: إنَّهَا مَخْصُوصَةٌ، وَقِيلَ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَقِيلَ: إنَّهَا تَنَالُ السَّعْيَ مُبَاشَرَةً، وَسَبَبًا.
وَالْإِيمَانُ مِنْ سَعْيِهِ الَّذِي تَسَبَّبَ فِيهِ. وَلَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ ظَاهِرُ الْآيَةِ حَقٌّ لَا يُخَالِفُ بَقِيَّةَ النُّصُوصِ. فَإِنَّهُ قَالَ:{لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] . وَهَذَا حَقٌّ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ سَعْيَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُهُ وَيَسْتَحِقُّهُ. كَمَا أَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ مِنْ الْمَكَاسِبِ مَا اكْتَسَبَهُ هُوَ. وَأَمَّا سَعْيُ غَيْرِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَمِلْكٌ لِذَلِكَ الْغَيْرِ، لَا لَهُ، لَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِسَعْيِ غَيْرِهِ، كَمَا يَنْتَفِعُ الرَّجُلُ بِكَسْبِ غَيْرِهِ.
فَمَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، فَيُثَابُ الْمُصَلِّي عَلَى سَعْيِهِ الَّذِي هُوَ صَلَاتُهُ،