الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَقُولَ: مَا شَاءَ اللَّهُ، وَشَاءَ فُلَانٌ، وَمَالِي إلَّا اللَّهُ وَفُلَانٌ، وَأَطْلُبُ حَاجَتِي مِنْ اللَّهِ؛ ثُمَّ مِنْ فُلَانٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ:«لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ: وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ» صلى الله عليه وسلم «وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا شَاءَ اللَّهُ، وَشِئْت، فَقَالَ: أَجَعَلْتنِي لِلَّهِ نِدًّا؟ ، بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
[مَسْأَلَةٌ فِي الْحَلَّاجِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ هَلْ كَانَ صِدِّيقًا أَوْ زِنْدِيقًا]
753 -
107 - مَسْأَلَةٌ:
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ رضي الله عنهم فِي " الْحَلَّاجِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَنْصُورٍ " هَلْ كَانَ صِدِّيقًا؟ أَوْ زِنْدِيقًا؟ وَهَلْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ مُتَّقِيًا لَهُ؟ أَمْ كَانَ لَهُ حَالٌ رَحْمَانِيٌّ؟ أَوْ مِنْ أَهْلِ السِّحْرِ وَالْخُزَعْبَلَاتِ؟ وَهَلْ قُتِلَ عَلَى الزَّنْدَقَةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ؟ أَوْ قُتِلَ مَظْلُومًا؟ أَفْتَوْنَا مَأْجُورِينَ؟
أَجَابَ: شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْعَبَّاسِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الْحَلَّاجُ قُتِلَ عَلَى الزَّنْدَقَةِ، الَّتِي ثَبَتَتْ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ، وَبِغَيْرِ إقْرَارِهِ؛ وَالْأَمْرُ الَّذِي ثَبَتَ عَلَيْهِ لِمَا يُوجِبُ الْقَتْلَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ قُتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ إمَّا مُنَافِقٌ مُلْحِدٌ، وَإِمَّا جَاهِلٌ ضَالٌّ. وَاَلَّذِي قُتِلَ بِهِ مَا اسْتَفَاضَ عَنْهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، وَبَعْضُهُ يُوجِبُ قَتْلَهُ؛ فَضْلًا عَنْ جَمِيعِهِ. وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؛ بَلْ كَانَ لَهُ عِبَادَاتٌ وَرِيَاضَاتٌ وَمُجَاهَدَاتٌ: بَعْضُهَا شَيْطَانِيٌّ، وَبَعْضُهَا نَفْسَانِيٌّ، وَبَعْضُهَا مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. فَلَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ.
وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ إلَى بِلَادِ الْهِنْدِ، وَتَعَلَّمَ أَنْوَاعًا مِنْ السِّحْرِ، وَصَنَّفَ كِتَابًا فِي السِّحْرِ مَعْرُوفًا، وَهُوَ مَوْجُودٌ إلَى الْيَوْمِ، وَكَانَ لَهُ أَقْوَالٌ شَيْطَانِيَّةٌ، وَمَخَارِيقُ بُهْتَانِيَّةٌ.
وَقَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءُ أَخْبَارَهُ فِي كُتُبٍ كَثِيرَةٍ أَرَّخُوهَا الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِهِ، وَاَلَّذِينَ نَقَلُوا عَنْهُمْ مِثْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْحُطِّيِّ ذَكَرَهُ فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ " وَالْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ
ذَكَرَ لَهُ تَرْجَمَةً كَبِيرَةً فِي تَارِيخِ بَغْدَادَ " وَأَبُو يُوسُفَ الْقَزْوِينِيُّ صَنَّفَ مُجَلَّدًا فِي أَخْبَارِهِ، وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ لَهُ فِيهِ مُصَنَّفٌ سَمَّاهُ " رَفْعُ اللَّجَاجِ فِي أَخْبَارِ الْحَلَّاجِ ".
وَبَسَطَ ذِكْرَهُ فِي تَارِيخِهِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي " طَبَقَاتِ الصُّوفِيَّةِ " أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَشَايِخِ ذَمُّوهُ وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعُدُّوهُ مِنْ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ؛ وَأَكْثَرُهُمْ حَطَّ عَلَيْهِ. وَمِمَّنْ ذَمَّهُ وَحَطَّ عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ؛ وَلَمْ يُقْتَلْ فِي حَيَاةِ الْجُنَيْدِ؛ بَلْ قُتِلَ بَعْدَ مَوْتِ الْجُنَيْدِ؛ فَإِنَّ الْجُنَيْدَ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ وَمِئَتَيْنِ.
وَالْحَلَّاجُ قُتِلَ سَنَةَ بِضْعٍ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَقَدِمُوا بِهِ إلَى بَغْدَادَ رَاكِبًا عَلَى جَمَلٍ يُنَادَى عَلَيْهِ: هَذَا دَاعِي الْقَرَامِطَةِ، وَأَقَامَ فِي الْحَبْسِ مُدَّةً حَتَّى وُجِدَ مِنْ كَلَامِهِ الْكُفْرُ وَالزَّنْدَقَةُ، وَاعْتَرَفَ بِهِ: مِثْلُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي كِتَابٍ لَهُ: مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يَبْنِي فِي دَارِهِ بَيْتًا وَيَطُوفُ بِهِ، كَمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَيَتَصَدَّقُ عَلَى ثَلَاثِينَ يَتِيمًا بِصَدَقَةٍ ذَكَرَهَا، وَقَدْ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ عَنْ الْحَجِّ. فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ قُلْت هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالُوا لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا؟ قَالَ ذَكَرَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي " كِتَابِ الصَّلَاةِ " فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو عُمَرَ: تَكْذِبُ يَا زِنْدِيقُ، أَنَا قَرَأْت هَذَا الْكِتَابَ وَلَيْسَ هَذَا فِيهِ، فَطَلَبَ مِنْهُمْ الْوَزِيرُ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا سَمِعُوهُ، وَيُفْتُوا بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهِ.
لَكِنَّ الْعُلَمَاءَ لَهُمْ قَوْلَانِ فِي الزِّنْدِيقِ إذَا أَظْهَرَ التَّوْبَةَ، هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ فَلَا يُقْتَلُ؟ أَمْ يُقْتَلُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ؛ فَإِنَّهُ مَا زَالَ يُظْهِرُ ذَلِكَ؟ فَأَفْتَى طَائِفَةٌ بِأَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَلَا يُقْتَلُ، وَأَفْتَى الْأَكْثَرُونَ بِأَنَّهُ يُقْتَلُ وَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فِي تَوْبَتِهِ نَفَعَهُ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَقُتِلَ فِي الدُّنْيَا؛ وَكَانَ الْحَدُّ تَطْهِيرًا لَهُ، كَمَا لَوْ تَابَ الزَّانِي وَالسَّارِقُ وَنَحْوُهُمَا بَعْدَ أَنْ يُرْفَعُوا إلَى الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ: فَإِنَّهُمْ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ كَانَ قَتْلُهُمْ كَفَّارَةً لَهُمْ، وَمَنْ كَانَ كَاذِبًا فِي التَّوْبَةِ كَانَ قَتْلُهُ عُقُوبَةً لَهُ.
فَإِنْ كَانَ الْحَلَّاجُ وَقْتَ قَتْلِهِ تَابَ فِي الْبَاطِنِ فَإِنَّ اللَّهَ يَنْفَعُهُ بِتِلْكَ التَّوْبَةِ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَإِنَّهُ قُتِلَ كَافِرًا.
وَلَمَّا قُتِلَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَقْتَ الْقَتْلِ شَيْءٌ مِنْ الْكَرَامَاتِ؛ وَكُلُّ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ دَمَهُ كَتَبَ عَلَى الْأَرْضِ، اسْمَ اللَّهِ، وَأَنَّ رِجْلَهُ انْقَطَعَ مَاؤُهَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ كَاذِبٌ.
وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا يَحْكِيهَا إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُنَافِقٌ، وَإِنَّمَا وَضَعَهَا الزَّنَادِقَةُ وَأَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ، حَتَّى يَقُولَ قَائِلُهُمْ: إنَّ شَرْعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَقْتُلُ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، حَتَّى يَسْمَعُوا أَمْثَالَ هَذِهِ
الْهَذَيَانَاتِ؛ وَإِلَّا فَقَدْ قُتِلَ أَنْبِيَاءٌ كَثِيرُونَ، وَقُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَأَصْحَابِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّالِحِينَ مَنْ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ، قُتِلُوا بِسُيُوفِ الْفُجَّارِ وَالْكُفَّارِ وَالظَّلَمَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَكْتُبْ دَمُ أَحَدِهِمْ اسْمَ اللَّهِ. وَالدَّمُ أَيْضًا نَجِسٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ بِهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى. فَهَلْ الْحَلَّاجُ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَدَمُهُ أَطْهَرُ مِنْ دِمَائِهِمْ؟ ،، وَقَدْ جَزِعَ وَقْتَ الْقَتْلِ؛ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَالسُّنَّةَ فَلَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ. وَلَوْ عَاشَ اُفْتُتِنَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الْجُهَّالِ، لِأَنَّهُ كَانَ صَاحِبُ خُزَعْبَلَاتِ بُهْتَانِيَّةٍ، وَأَحْوَالٍ شَيْطَانِيَّةٍ.
وَلِهَذَا إنَّمَا يُعَظِّمُهُ مَنْ يُعَظِّمُ الْأَحْوَالَ الشَّيْطَانِيَّةَ، وَالنَّفْسَانِيَّةَ، والبهتانية. وَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الْعَالِمُونَ بِحَالِ الْحَلَّاجِ فَلَيْسَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ يُعَظِّمُهُ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْقُشَيْرِيُّ فِي مَشَايِخِ رِسَالَتِهِ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ مِنْ كَلَامِهِ كَلِمَاتٍ اسْتَحْسَنَهَا. وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ قَدْ زَوَّجَهُ بِابْنَتِهِ، فَلَمَّا اطَّلَعَ عَلَى زَنْدَقَتِهِ نَزَعَهَا مِنْهُ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ يَذْكُرُ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَيَقُولُ: كُنْت مَعَهُ فَسَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقَالَ: أَقْدِرُ أَنْ أُصَنِّفَ مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ. أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ. كَانَ يُظْهِرُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ مَا يَسْتَجْلِبُهُمْ بِهِ إلَى تَعْظِيمِهِ؛ فَيُظْهِرُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ سُنِّيٌّ، وَعِنْدَ أَهْلِ الشِّيعَةِ أَنَّهُ شِيعِيٌّ، وَيَلْبَسُ لِبَاسَ الزُّهَّادِ تَارَةً، وَلِبَاسَ الْأَجْنَادِ تَارَةً.
وَكَانَ مِنْ مَخَارِيقِهِ أَنَّهُ بَعَثَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ إلَى مَكَان فِي الْبَرِّيَّةِ يُخَبِّئُ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْفَاكِهَةِ وَالْحَلْوَى، ثُمَّ يَجِيءُ بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا إلَى قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ، فَيَقُولُ لَهُمْ: مَا تَشْتَهُونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْبَرِّيَّةِ فَيَشْتَهِي أَحَدُهُمْ فَاكِهَةً، أَوْ حَلَاوَةً، فَيَقُولُ: اُمْكُثُوا؛ ثُمَّ يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَيَأْتِي بِمَا خَبَّأَ أَوْ بِبَعْضِهِ، فَيَظُنُّ الْحَاضِرُونَ أَنَّ هَذِهِ كَرَامَةٌ لَهُ،، وَكَانَ صَاحِبُ سِيمَا وَشَيَاطِينَ تَخْدُمُهُ أَحْيَانَا، كَانُوا مَعَهُ عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ، فَطَلَبُوا مِنْهُ حَلَاوَةً، فَذَهَبَ إلَى مَكَان قَرِيبٍ مِنْهُمْ وَجَاءَ بِصَحْنِ حَلْوَى، فَكَشَفُوا الْأَمْرَ فَوَجَدُوا ذَلِكَ قَدْ سُرِقَ مِنْ دُكَّانِ حَلَاوِيٍّ بِالْيَمَنِ، حَمَلَهُ شَيْطَانٌ مِنْ تِلْكَ الْبُقْعَةِ.
وَمِثْلُ هَذَا يَحْصُلُ كَثِيرًا لِغَيْرِ الْحَلَّاجِ مِمَّنْ لَهُ حَالٌ شَيْطَانِيٌّ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ فِي زَمَانِنَا وَغَيْرِ زَمَانِنَا: مِثْلُ شَخْصٍ هُوَ الْآنَ بِدِمَشْقَ كَانَ الشَّيْطَانُ يَحْمِلُهُ مِنْ جَبَلِ الصَّالِحِيَّةِ إلَى قَرْيَةٍ حَوْلَ دِمَشْقَ، فَيَجِيءُ مِنْ الْهَوَى إلَى طَاعَةِ الْبَيْتِ الَّذِي فِيهِ
النَّاسُ، فَيَدْخُلُ وَهُمْ يَرَوْنَهُ. وَيَجِيءُ بِاللَّيْلِ إلَى بَابِ الصَّغِيرِ فَيَعْبُرُ مِنْهُ هُوَ وَرُفْقَتُهُ، وَهُوَ مِنْ أَفْجَرِ النَّاسِ.
وَآخَرُ كَانَ بِالشُّوَيْكِ، فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا:" الشَّاهِدَةُ " يَطِيرُ فِي الْهَوَى إلَى رَأْسِ الْجَبَلِ وَالنَّاسُ يَرَوْنَهُ، وَكَانَ شَيْطَانٌ يَحْمِلُهُ، كَانَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ. وَأَكْثَرُهُمْ شُيُوخُ الشَّرِّ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ " البوي " أَيْ الْمُخْبَثُ، يَنْصِبُونَ لَهُ حَرَكَاتٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَيَصْنَعُونَ خُبْزًا عَلَى سَبِيلِ الْقُرُبَاتِ، فَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، وَلَا يَكُونُ عِنْدَهُمْ مَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ، وَلَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ؛ ثُمَّ يَصْعَدُ ذَلِكَ البوي فِي الْهَوَى، وَهُمْ يَرَوْنَهُ، وَيَسْمَعُونَ خِطَابَهُ لِلشَّيْطَانِ، وَخِطَابَ الشَّيْطَانِ لَهُ، وَمَنْ ضَحِكَ أَوْ شَرِقَ بِالْخُبْزِ ضَرَبَهُ بِالدُّفِّ. وَلَا يَرَوْنَ مَنْ يَضْرِبُ بِهِ. ثُمَّ إنَّ الشَّيْطَانَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ مَا يَسْأَلُونَهُ عَنْهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُقَرِّبُوا لَهُ بَقَرًا وَخَيْلًا وَغَيْرَ ذَلِكَ وَأَنْ يَخْنُقُوهَا خَنْقًا وَلَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا، فَإِذَا فَعَلُوا قَضَى حَاجَتَهُمْ.
وَشَيْخٌ آخَرُ أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ يَزْنِي بِالنِّسَاءِ، وَيَلُوطُ بِالصِّبْيَانِ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ " الْحِوَارَاتُ " وَكَانَ يَقُولُ: يَأْتِينِي كَلْبٌ أَسْوَدُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ نُكْتَتَانِ بَيْضَاوَانِ، فَيَقُولُ لِي: فُلَانٌ، إنَّ فُلَانًا نَذَرَ لَك نَذْرًا، وَغَدًا يَأْتِيك بِهِ، وَأَنَا قَضَيْت حَاجَتَهُ لِأَجْلِك، فَيُصْبِحُ ذَلِكَ الشَّخْصُ يَأْتِيهِ بِذَلِكَ النَّذْرِ؛ وَيُكَاشِفُهُ هَذَا الشَّيْخُ الْكَافِرُ. قَالَ: وَكُنْت إذَا طَلَبَ مِنِّي تَغْيِيرَ مِثْلِ اللَّاذَنِ أَقُولُ حَتَّى أَغِيبَ عَنْ عَقْلِي؛ وَإِذْ بِاللَّاذَنِ فِي يَدَيَّ، أَوْ فِي فَمِي وَأَنَا لَا أَدْرِي مَنْ وَضَعَهُ،، قَالَ: وَكُنْت أَمْشِي وَبَيْنَ يَدَيَّ عَمُودٌ أَسْوَدُ عَلَيْهِ نُورٌ. فَلَمَّا تَابَ هَذَا الشَّيْخُ، وَصَارَ يُصَلِّي، وَيَصُومُ وَيَجْتَنِبُ الْمَحَارِمَ، ذَهَبَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَذَهَبَ التَّغْيِيرُ؛ فَلَا يُؤْتَى بِلَاذَنٍ وَلَا غَيْرِهِ.
وَشَيْخٌ آخَرُ كَانَ لَهُ شَيَاطِينُ يُرْسِلُهُمْ يَصْرَعُونَ بَعْضَ النَّاسِ، فَيَأْتِي أَهْلُ ذَلِكَ الْمَصْرُوعِ إلَى الشَّيْخِ يَطْلُبُونَ مِنْهُ إبْرَاءَهُ، فَيُرْسِلُ إلَى أَتْبَاعِهِ فَيُفَارِقُونَ ذَلِكَ الْمَصْرُوعَ، وَيُعْطُونَ ذَلِكَ الشَّيْخَ دَرَاهِمَ كَثِيرَةً. وَكَانَ أَحْيَانًا تَأْتِيهِ الْجِنُّ بِدَرَاهِمَ وَطَعَامٍ تَسْرِقُهُ مِنْ النَّاسِ، حَتَّى إنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ لَهُ تِينٌ فِي كِوَارَةٍ، فَيَطْلُبُ الشَّيْخُ مِنْ شَيَاطِينِهِ تِينًا، فَيُحْضِرُونَهُ لَهُ، فَطَلَبَ أَصْحَابُ الْكِوَارَةِ التِّينَ فَوَجَدُوهُ قَدْ ذَهَبَ.
وَآخَرُ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْعِلْمِ وَالْقِرَاءَةِ، فَجَاءَتْهُ الشَّيَاطِينُ أَغْرَتْهُ، وَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ
نُسْقِطُ عَنْك الصَّلَاةَ، وَنُحْضِرُ لَك مَا تُرِيدُ. فَكَانُوا يَأْتُونَهُ بِالْحَلْوَى وَالْفَاكِهَةِ، حَتَّى حَضَرَ عِنْدَ بَعْضِ الشُّيُوخِ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ فَاسْتَتَابَهُ وَأَعْطَى أَهْلَ الْحَلَاوَةِ ثَمَنَ حَلَاوَتِهِمْ الَّتِي أَكَلَهَا ذَلِكَ الْمَفْتُونُ بِالشَّيْطَانِ.
فَكُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَانَ لَهُ حَالٌ مِنْ مُكَاشَفَةٍ أَوْ تَأْثِيرٍ، فَإِنَّهُ صَاحِبُ حَالٍ نَفْسَانِيٍّ؛ أَوْ شَيْطَانِيٍّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَالٌ بَلْ هُوَ يَتَشَبَّهُ بِأَصْحَابِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ صَاحِبُ حَالٍ بُهْتَانِيٍّ. وَعَامَّةُ أَصْحَابِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْحَالِ الشَّيْطَانِيِّ، وَالْحَالِ الْبُهْتَانِيِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ - تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222] وَالْحَلَّاجُ " كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ هَؤُلَاءِ أَهْلِ الْحَالِ الشَّيْطَانِيِّ، وَالْحَالِ الْبُهْتَانِيِّ وَهَؤُلَاءِ طَوَائِفُ كَثِيرَةٌ.
فَأَئِمَّةُ هَؤُلَاءِ هُمْ شُيُوخُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ مِثْلُ الْكُهَّانِ، وَالسَّحَرَةِ الَّذِينَ كَانُوا لِلْعَرَبِ الْمُشْرِكِينَ، وَمِثْلُ الْكُهَّانِ الَّذِينَ هُمْ بِأَرْضِ الْهِنْدِ وَالتُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ يَجِيءُ بَعْدَ الْمَوْتِ؛ فَيُكَلِّمُهُمْ وَيَقْضِي دُيُونَهُ، وَيَرُدُّ وَدَائِعَهُ وَيُوصِيهِمْ بِوَصَايَا. فَإِنَّهُمْ تَأْتِيهِمْ تِلْكَ الصُّورَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ، وَهُوَ شَيْطَانٌ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ؛ فَيَظُنُّونَهُ إيَّاهُ.
وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَسْتَغِيثُ بِالْمَشَايِخِ فَيَقُولُ: يَا سَيِّدِي فُلَانٌ، أَوْ يَا شَيْخُ فُلَانٌ، اقْضِ حَاجَتِي. فَيَرَى صُورَةَ ذَلِكَ الشَّيْخِ تُخَاطِبُهُ، وَيَقُولُ: أَنَا أَقْضِي حَاجَتَك وَأُطَيِّبُ قَلْبَك فَيَقْضِي حَاجَتَهُ، أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ عَدُوَّهُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ شَيْطَانًا تَمَثَّلَ فِي صُورَتِهِ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَدَعَا غَيْرَهُ.
وَأَنَا أَعْرِفُ مِنْ هَذَا وَقَائِعَ مُتَعَدِّدَةً؛ حَتَّى إنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِي ذَكَرُوا أَنَّهُمْ اسْتَغَاثُوا بِي فِي شَدَائِدَ أَصَابَتْهُمْ. أَحَدُهُمْ كَانَ خَائِفًا مِنْ الْأَرْمَنِ، وَالْآخَرُ كَانَ خَائِفًا مِنْ التَّتَرِ، فَذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَغَاثَ بِي رَآنِي فِي الْهَوَى وَقَدْ رَفَعْت عَنْهُ عَدُوَّهُ.
فَأَخْبَرْتهمْ أَنِّي لَمْ أَشْعُرْ بِهَذَا، وَلَا دَفَعْت عَنْكُمْ شَيْئًا؛ وَإِنَّمَا هَذَا الشَّيْطَانُ تَمَثَّلَ لِأَحَدِهِمْ
فَأَغْوَاهُ لَمَّا أَشْرَكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى.
وَهَكَذَا جَرَى لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمَشَايِخِ مَعَ أَصْحَابِهِمْ؛ يَسْتَغِيثُ أَحَدُهُمْ بِالشَّيْخِ، فَيَرَى الشَّيْخَ قَدْ جَاءَ وَقَضَى حَاجَتَهُ، وَيَقُولُ ذَلِكَ الشَّيْخُ: إنِّي لَمْ أَعْلَمْ بِهَذَا، فَيَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ شَيْطَانًا. وَقَدْ قُلْت لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا لَمَّا ذَكَرَ لِي أَنَّهُ اسْتَغَاثَ بِهِمَا كَانَ يَعْتَقِدُهُمَا، وَأَنَّهُمَا أَتَيَاهُ فِي الْهَوَى؛ وَقَالَا لَهُ طَيِّبْ قَلْبَك، نَحْنُ نَدْفَعُ عَنْك هَؤُلَاءِ، وَنَفْعَلُ، وَنَصْنَعُ. قُلْت لَهُ: فَهَلْ كَانَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ؟ فَقَالَ: لَا فَكَانَ هَذَا مِمَّا دَلَّهُ عَلَى أَنَّهُمَا شَيْطَانَانِ؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ وَإِنْ كَانُوا يُخْبِرُونَ الْإِنْسَانَ بِقَضِيَّةٍ أَوْ قِصَّةٍ فِيهَا صِدْقٌ، فَإِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ أَضْعَافَ ذَلِكَ، كَمَا كَانَتْ الْجِنُّ يُخْبِرُونَ الْكُهَّانَ.
وَلِهَذَا مَنْ اعْتَمَدَ عَلَى مُكَاشَفَتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَخْبَارِ الْجِنِّ كَانَ كَذِبُهُ أَكْبَرَ مِنْ صِدْقِهِ، كَشَيْخٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ:" الشَّيَّاحُ " تَوَّبْنَاهُ، وَجَدَّدْنَا إسْلَامَهُ كَانَ لَهُ قَرِينٌ مِنْ الْجِنِّ يُقَالُ لَهُ: عَنْتَرٌ " يُخْبِرُهُ بِأَشْيَاءَ، فَيَصْدُقُ تَارَةً، وَيَكْذِبُ تَارَةً، فَلَمَّا ذَكَرْت لَهُ أَنَّك تَعْبُدُ شَيْطَانًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ: يَا عَنْتَرُ، لَا سُبْحَانَك؛ إنَّك إلَهٌ قَذِرٌ، وَتَابَ مِنْ ذَلِكَ، فِي قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ.
وَقَدْ قَتَلَ سَيْفُ الشَّرْعِ مَنْ قَتَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ مِثْلُ الشَّخْصِ الَّذِي قَتَلْنَاهُ سَنَةَ خَمْسَ عَشْرَةَ وَكَانَ لَهُ قَرِينٌ يَأْتِيهِ وَيُكَاشِفُهُ فَيَصْدُقُ تَارَةً، وَيَكْذِبُ تَارَةً، وَقَدْ انْقَادَ لَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالرِّئَاسَةِ، فَيُكَاشِفُهُمْ حَتَّى كَشَفَ اللَّهُ لَهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ الْقَرِينَ كَانَ تَارَةً يَقُولُ لَهُ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ. وَيَذْكُرُ أَشْيَاءَ تُنَافِي حَالَ الرَّسُولِ، فَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الرَّسُولَ يَأْتِينِي، وَيَقُولُ لِي كَذَا وَكَذَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَكْفُرُ مَنْ أَضَافَهَا إلَى الرَّسُولِ؛ فَذَكَرْت لِوُلَاةِ الْأُمُورِ أَنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ الْكُهَّانِ؛ وَأَنَّ الَّذِي يَرَاهُ شَيْطَانًا؛ وَلِهَذَا لَا يَأْتِيهِ فِي الصُّورَةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلنَّبِيِّ.
بَلْ يَأْتِيهِ فِي صُورَةٍ مُنْكَرَةٍ، وَيَذْكَرُ عَنْهُ أَنَّهُ يَشْكِي لَهُ؛ وَيُبِيحُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمُسْكِرَ وَأُمُورًا أُخْرَى. وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الرُّؤْيَةِ؛ وَلَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي أَنَّهُ رَأَى تِلْكَ الصُّورَةَ؛ لَكِنْ كَانَ كَافِرًا فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ.
وَلِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تَنَزُّلَاتٌ شَيْطَانِيَّةٌ بِحَسَبِ مَا فَعَلُوهُ مِنْ مُرَادِ الشَّيْطَانِ؛ فَكُلَّمَا بَعُدُوا عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَطَرِيقِ الْمُؤْمِنِينَ قَرُبُوا مِنْ الشَّيْطَانِ، فَيَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ؛ وَالشَّيْطَانُ طَارَ بِهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْرَعُ الْحَاضِرِينَ، وَشَيَاطِينُهُ صَرَعَتْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ
يُحْضِرُ طَعَامًا وَإِدَامًا وَمَلَأَ الْإِبْرِيقَ مَاءً مِنْ الْهَوَى، وَالشَّيَاطِينُ فَعَلَتْ ذَلِكَ. فَيَحْسِبُ الْجَاهِلُونَ أَنَّ هَذِهِ كَرَامَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ؛ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ جِنْسِ أَحْوَالِ السَّحَرَةِ وَالْكَهَنَةِ وَأَمْثَالِهِمْ.
وَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْأَحْوَالِ الرَّحْمَانِيَّةِ وَالنَّفْسَانِيَّةِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَمَنْ لَمْ يُنَوِّرْ اللَّهُ قَلْبَهُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَاتِّبَاعِ الْقُرْآنِ لَمْ يَعْرِفْ طَرِيقَ الْمُحِقِّ مِنْ الْمُبْطِلِ؛ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالْحَالُ، كَمَا الْتَبَسَ عَلَى النَّاسِ حَالُ مُسَيْلِمَةَ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَذَّابِينَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ أَنْبِيَاءٌ؛ وَإِنَّمَا هُمْ كَذَّابُونَ، وَقَدْ قَالَ:
وَأَعْظَمُ الدَّجَاجِلَةِ فِتْنَةً " الدَّجَّالُ الْكَبِيرُ " الَّذِي يَقْتُلُهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ: فَإِنَّهُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَتِهِ، وَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِيذُوا مِنْ فِتْنَتِهِ فِي صَلَاتِهِمْ، وَقَدْ ثَبَتَ «أَنَّهُ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ: أَمْطِرِي: فَتُمْطِرُ؛ وَلِلْأَرْضِ أَنْبِتِي، فَتُنْبِتُ» «وَأَنَّهُ يَقْتُلُ رَجُلًا مُؤْمِنًا؛ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ قُمْ فَيَقُومُ؛ فَيَقُولُ أَنَا رَبُّك؛ فَيَقُولُ لَهُ كَذَبْت؛ بَلْ أَنْتَ الْأَعْوَرُ الْكَذَّابُ الَّذِي أَخْبَرَنَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَاَللَّهِ مَا ازْدَدْت فِيك إلَّا بَصِيرَةً فَيَقْتُلُهُ مَرَّتَيْنِ، فَيُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَلَا يُسَلِّطُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ» وَهُوَ يَدَّعِي الْإِلَهِيَّةَ. وَقَدْ بَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ
ثَلَاثَ عَلَامَاتٍ تُنَافِي مَا يَدَّعِيهِ: أَحَدُهَا: «أَنَّهُ أَعْوَرُ؛ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ» .
وَالثَّانِي: «أَنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ مِنْ قَارِئٍ وَغَيْرِ قَارِئٍ» . وَالثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ» .
فَهَذَا هُوَ الدَّجَّالُ الْكَبِيرُ وَدُونَهُ دَجَاجِلَةٌ مِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكْذِبُ بِغَيْرِ ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ؛ كَمَا قَالَ:
فَالْحَلَّاجُ كَانَ مِنْ الدَّجَاجِلَةِ بِلَا رَيْبٍ؛ وَلَكِنْ إذَا قِيلَ: هَلْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ، أَمْ