الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طَلَاقٌ، وَلَوْ قَصَدَ بِذَلِكَ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ.
وَهَذَا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ حَتَّى لَوْ قَالَ: أَنْت عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَهُ، وَلَوْ قَالَ: أَنْت عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَقَصَدَ بِهِ الطَّلَاقَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الظِّهَارَ طَلَاقًا، وَالْإِيلَاءَ طَلَاقًا، فَرَفَعَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَجَعَلَ فِي الظِّهَارِ الْكَفَّارَةَ الْكُبْرَى. وَجَعَلَ الْإِيلَاءَ يَمِينًا يَتَرَبَّصُ فِيهَا الرَّجُلُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ يُسَرِّحَ بِإِحْسَانٍ. كَذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: إنَّهُ إذَا كَانَ مُزَوَّجًا فَحَرَّمَ امْرَأَتَهُ أَوْ حَرَّمَ الْحَلَالَ مُطْلَقًا كَانَ مُظَاهِرًا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَإِذَا حَلَفَ بِالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا وَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ فِي مَذْهَبِهِ، لَكِنْ قِيلَ: إنَّ الْوَاجِبَ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ وَسَوَاءٌ حَلَفَ، أَوْ أَوْقَعَ. وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَحْمَدَ. وَقِيلَ: بَلْ إنْ حَلَفَ بِهِ أَجْزَأَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَإِنْ أَوْقَعَهُ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ. وَهَذَا أَقْوَى وَأَقْيَسُ عَلَى أُصُولِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.
فَالْحَالِفُ بِالْحَرَامِ يُجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا يُجْزِئُ الْحَالِفَ بِالنَّذْرِ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ. أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ كَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالْعِتْقِ يُجْزِئُهُ كَفَّارَةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ وَكَذَلِكَ الْحَلِفُ. بِالطَّلَاقِ يُجْزِئُ فِيهِ أَيْضًا كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا أَفْتَى بِهِ [جَمَاعَةٌ] مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَالثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ لَا يُخَالِفُ ذَلِكَ؛ بَلْ مَعْنَاهُ يُوَافِقُهُ. فَكُلُّ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ فِي أَيْمَانِهِمْ فَفِيهَا كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُ الرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ أَنْ يُعْتِقَ أَوْ أَنْ يُظَاهِرَ، فَهَذَا يَلْزَمُهُ مَا أَوْقَعَهُ، سَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا. وَلَا يُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ الْإِمْسَاك بِمَعْرُوفِ أَوْ التَّسْرِيح بِإِحْسَانٍ]
542 -
5 - مَسْأَلَةٌ:
قَاعِدَةٌ نِكَاحِيَّةٌ () : فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إلَى قَوْلِهِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]
إلَى قَوْله تَعَالَى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .
فَجَعَلَ الْمُبَاحَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ. وَأَخْبَرَ أَنَّ الرِّجَالَ لَيْسُوا أَحَقَّ بِالرَّدِّ إلَّا إذَا أَرَادُوا إصْلَاحًا؛ وَجَعَلَ لَهُنَّ مِثْلَ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَالَ تَعَالَى:{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، وَقَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 232] .
وَقَوْلُهُ هُنَا: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ رَضِيَتْ بِغَيْرِ الْمَعْرُوفِ لَكَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ الْعَضْلُ، وَالْمَعْرُوفُ تَزْوِيجُ الْكُفْءِ. وَقَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ مَنْ يَقُولُ: مَهْرُ مِثْلِهَا مِنْ الْمَعْرُوفِ؛ فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُهُ أُولَئِكَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] إلَى قَوْلِهِ: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] . فَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ التَّرَاضِيَ بِالْمَعْرُوفِ. وَالْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ: التَّسْرِيحُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْمُعَاشَرَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنَّ لَهُنَّ وَعَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ:" لَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ".
فَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْوَاجِبُ الْعَدْلُ فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ مِنْ أُمُورِ النِّكَاحِ وَحُقُوقِ الزَّوْجَيْنِ؛ فَكَمَا أَنَّ مَا يَجِبُ لِلْمَرْأَةِ عَلَيْهِ مِنْ الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ هُوَ بِالْمَعْرُوفِ؛ وَهُوَ الْعُرْفُ الَّذِي يَعْرِفُهُ النَّاسُ فِي حَالِهِمَا نَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً، وَإِنْ كَانَ
ذَلِكَ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ حَالِهِمَا مِنْ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَالزَّمَانِ كَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؛ وَالْمَكَانِ فَيُطْعِمُهَا فِي كُلِّ بَلَدٍ مِمَّا هُوَ عَادَةُ أَهْلِ الْبَلَدِ وَهُوَ الْعُرْفُ بَيْنَهُمْ. وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ لَهَا عَلَيْهِ مِنْ الْمُتْعَةِ وَالْعِشْرَةِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَبِيتَ عِنْدَهَا، وَيَطَأَهَا بِالْمَعْرُوفِ. وَيَخْتَلِفَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ حَالِهَا وَحَالِهِ. وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْوَطْءِ الْوَاجِبِ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْمَعْرُوفِ؛ لَا بِتَقْدِيرٍ مِنْ الشَّرْعِ، قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالْمِثَالُ الْمَشْهُورُ هُوَ النَّفَقَةُ، فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِالْمَعْرُوفِ تَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ حَالِ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالشَّرْعِ نَوْعًا وَقَدْرًا: مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ مُدًّا وَنِصْفًا، أَوْ مُدَّيْنِ؛ قِيَاسًا عَلَى الْإِطْعَامِ الْوَاجِبِ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ.
وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ مَا عَلَيْهِ الْأُمَّةُ عِلْمًا وَعَمَلًا قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ فَإِنَّ الْقُرْآنَ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِهِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ، لَمَّا قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنَّهُ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ» . فَأَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْكِفَايَةَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَمْ يُقَدِّرْ لَهَا نَوْعًا وَلَا قَدْرًا، وَلَوْ تَقَدَّرَ ذَلِكَ بِشَرْعٍ أَوْ غَيْرِهِ لَبَيَّنَ لَهَا الْقَدْرَ وَالنَّوْعَ، كَمَا بَيَّنَ فَرَائِضَ الزَّكَاةِ وَالدِّيَاتِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي خُطْبَتِهِ الْعَظِيمَةِ بِعَرَفَاتٍ: لَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» .
وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ هُوَ الْكِفَايَةُ بِالْمَعْرُوفِ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكِفَايَةَ بِالْمَعْرُوفِ تَتَنَوَّعُ بِحَالَةِ الزَّوْجَةِ فِي حَاجَتِهَا، وَيَتَنَوَّعُ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ، وَيَتَنَوَّعُ حَالُ الزَّوْجِ فِي يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ، وَلَيْسَتْ كِسْوَةُ الْقَصِيرَةِ الضَّئِيلَةِ كَكِسْوَةِ الطَّوِيلَةِ الْجَسِيمَةِ، وَلَا كِسْوَةُ الشِّتَاءِ كَكِسْوَةِ الصَّيْفِ، وَلَا كِفَايَةُ طَعَامِهِ كَطَعَامِهِ، وَلَا طَعَامُ الْبِلَادِ الْحَارَّةِ كَالْبَارِدَةِ، وَلَا الْمَعْرُوفُ فِي بِلَادِ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، كَالْمَعْرُوفِ فِي بِلَادِ الْفَاكِهَةِ وَالْخَمِيرِ.
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد، وَابْنِ مَاجَهْ، «عَنْ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ النُّمَيْرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ،
أَنَّهُ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ زَوْجَةِ أَحَدِنَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: تُطْعِمُهَا إذَا أَكَلْت، وَتَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَيْت؛ وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ؛ وَلَا تُقَبِّحْ؛ وَلَا تَهْجُرْ إلَّا فِي الْبَيْتِ» .
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّ لِلزَّوْجَةِ مَرَّةً أَنْ تَأْخُذَ كِفَايَةَ وَلَدِهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَقَالَ فِي الْخُطْبَةِ الَّتِي خَطَبَهَا يَوْمَ أَكْمَلَ اللَّهُ الدِّينَ فِي أَكْبَرِ مَجْمَعٍ كَانَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ:«لَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» . وَقَالَ لِلسَّائِلِ الْمُسْتَفْتِي لَهُ عَنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ: «تُطْعِمُهَا إذَا أَكَلْت، وَتَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَيْت» ، لَمْ يَأْمُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ؛ لَكِنْ قَيَّدَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ تَارَةً، وَبِالْمُوَاسَاةِ بِالزَّوْجِ أُخْرَى.
وَهَكَذَا قَالَ فِي نَفَقَةِ الْمَمَالِيكِ؛ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«هُمْ إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ؛ وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ؛ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ؛ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، وَلَا يُكَلَّفُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا يُطِيقُ» .
فَفِي الزَّوْجَةِ وَالْمَمْلُوكِ أَمْرُهُ وَاحِدٌ: تَارَةً يَذْكُرُ أَنَّهُ يَجِبُ الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ. وَتَارَةً يَأْمُرُ بِمُوَاسَاتِهِمْ بِالنَّفْسِ. فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَعَلَ الْمَعْرُوفَ هُوَ الْوَاجِبُ، وَالْمُوَاسَاةُ مُسْتَحَبَّةٌ. وَقَدْ يُقَالُ أَحَدُهُمَا تَفْسِيرٌ لِلْآخَرِ. وَعَلَى هَذَا فَالْوَاجِبُ هُوَ الرِّزْقُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ فِي النَّوْعِ، وَالْقَدْرِ، وَصِفَةِ الْإِنْفَاقِ. وَإِنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ قَدْ تَنَازَعُوا فِي ذَلِكَ.
أَمَّا النَّوْعُ، فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يُعْطِيَهَا مَكِيلًا كَالْبُرِّ، وَلَا مَوْزُونًا كَالْخُبْزِ، وَلَا ثَمَنَ ذَلِكَ كَالدَّرَاهِمِ؛ بَلْ يُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ. فَإِذَا أَعْطَاهَا كِفَايَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عَادَتُهُمْ أَكْلَ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ فَيُعْطِيهَا ذَلِكَ.
أَوْ يَكُونَ أَكْلَ الْخُبْزِ وَالْإِدَامِ فَيُعْطِيهَا ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ عَادَتُهُمْ أَنْ يُعْطِيَهَا حَبًّا فَتَطْحَنَهُ فِي الْبَيْتِ فَعَلَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ يَطْحَنُ فِي الطَّاحُونِ وَيَخْبِزُ فِي الْبَيْتِ فَعَلَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ يَخْبِزُ فِي الْبَيْتِ فَعَلَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ يَشْتَرِي خُبْزًا مِنْ السُّوقِ فَعَلَ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الطَّبِيخُ وَنَحْوُهُ فَعَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ، فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ، وَلَا حَبَّاتٌ أَصْلًا؛ لَا بِشَرْعٍ، وَلَا بِفَرْضٍ؛ فَإِنْ تَعَيَّنَ ذَلِكَ دَائِمًا مِنْ الْمُنْكَرِ لَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ مُضِرٌّ بِهِ تَارَةً وَبِهَا أُخْرَى.
وَكَذَلِكَ الْقَدْرُ، لَا يَتَعَيَّنُ مِقْدَارٌ مُطَّرِدٌ؛ بَلْ تَتَنَوَّعُ الْمَقَادِيرُ بِتَنَوُّعِ الْأَوْقَاتِ.
وَأَمَّا الْإِنْفَاقُ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْوَاجِبَ تَمْلِيكُهَا النَّفَقَةَ، وَالْكِسْوَةَ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ التَّمْلِيكُ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ الْمَعْرُوفُ؛ بَلْ عُرْفُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ يَأْتِي بِالطَّعَامِ إلَى مَنْزِلِهِ، فَيَأْكُلَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَمَمْلُوكُهُ: تَارَةً جَمِيعًا، وَتَارَةً أَفْرَادًا. وَيَفْضُلُ مِنْهُ فَضْلٌ تَارَةً فَيَدَّخِرُونَهُ، وَلَا يَعْرِفُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ يُمَلِّكُهَا كُلَّ يَوْمٍ دَرَاهِمَ تَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمَالِكِ؛ بَلْ مَنْ عَاشَرَ امْرَأَةً بِمِثْلِ هَذَا الْفَرْضِ كَانَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَعَاشَرَا بِغَيْرِ الْمَعْرُوفِ وَتَضَارَّا فِي الْعِشْرَةِ؛ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ بِصَاحِبِهِ عِنْدَ الضَّرَرِ؛ لَا عِنْدَ الْعِشْرَةِ بِالْمَعْرُوفِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ فِي الزَّوْجَةِ مِثْلَ مَا أَوْجَبَ فِي الْمَمْلُوكِ. تَارَةً قَالَ: «لَهُنَّ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» ، كَمَا قَالَ فِي الْمَمْلُوكِ. وَتَارَةً قَالَ:«تُطْعِمُهَا إذَا أَكَلْت وَتَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَيْت» . كَمَا قَالَ فِي الْمَمْلُوكِ.
وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ تَمْلِيكُ الْمَمْلُوكِ نَفَقَتَهُ، فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَقْتَضِي إيجَابَ التَّمْلِيكِ. وَإِذَا تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فَمَتَى اعْتَرَفَتْ الزَّوْجَةُ أَنَّهُ يُطْعِمُهَا إذَا أَكَلَ وَيَكْسُوهَا إذَا اكْتَسَى وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ لِمِثْلِهَا فِي بَلَدِهَا فَلَا حَقَّ لَهَا سِوَى ذَلِكَ. وَإِنْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ أَنْ يُنْفِقَ بِالْمَعْرُوفِ؛ بَلْ وَلَا لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بِدَرَاهِمَ مُقَدَّرَةٍ مُطْلَقًا، أَوْ حَبِّ مِقْدَارٍ مُطْلَقٍ؛ لَكِنْ يَذْكُرُ الْمَعْرُوفَ الَّذِي يَلِيقُ بِهِمَا.