الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَيُرَقِّقُ الْقَلْبَ، وَيُدْمِعُ الْعَيْنَ، هَكَذَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا فُتِحَ لَهَا هَذَا الْبَابُ أَخْرَجَهَا إلَى الْجَزَعِ وَالنَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ الضَّعْفِ، وَكَثْرَةِ الْجَزَعِ، وَقِلَّةِ الصَّبْرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِتَأَذِّي الْمَيِّتِ بِبُكَائِهَا، وَلِافْتِتَانِ الرِّجَالِ بِصَوْتِهَا، وَصُورَتِهَا.
كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «فَإِنَّكُنَّ تَفْتُنَّ الْحَيَّ، وَتُؤْذِينَ الْمَيِّتَ» وَإِذَا كَانَتْ زِيَارَةُ النِّسَاءِ مَظِنَّةً وَسَبَبًا لِلْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ فِي حَقِّهِنَّ، وَحَقِّ الرِّجَالِ، وَالْحِكْمَةُ هُنَا غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَدَّ الْمِقْدَارُ الَّذِي لَا يُفْضِي إلَى ذَلِكَ، وَلَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ.
وَمِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْحِكْمَةَ إذَا كَانَتْ خَفِيَّةً، أَوْ غَيْرَ مُنْتَشِرَةٍ عُلِّقَ الْحُكْمُ بِمَظِنَّتِهَا، فَيَحْرُمُ هَذَا الْبَابُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، كَمَا حَرُمَ النَّظَرُ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْفِتْنَةِ، وَكَمَا حَرُمَ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النَّظَرِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ مَا يُعَارِضُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا دُعَاؤُهَا لِلْمَيِّتِ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ فِي بَيْتِهَا. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إذَا عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ نَفْسِهَا أَنَّهَا إذَا زَارَتْ الْمَقْبَرَةَ بَدَا مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، لَمْ تَجُزْ لَهَا الزِّيَارَةُ بِلَا نِزَاعٍ.
[فَصْل زِيَارَة قَبْرِ النَّبِيِّ]
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ ضَعِيفٌ، وَلَيْسَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَدِيثٌ حَسَنٌ وَلَا صَحِيحٌ، وَلَا رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ، كَسُنَنِ أَبِي دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَلَا أَهْلُ الْمَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ، كَمُسْنَدِ أَحْمَدَ، وَنَحْوِهِ، وَلَا أَهْلُ الْمُصَنَّفَاتِ كَمُوَطَّأِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. بَلْ عَامَّةُ مَا يُرْوَى فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ مَكْذُوبَةٌ مَوْضُوعَةٌ. كَمَا يُرْوَى عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي إبْرَاهِيمَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ» وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ، كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَكَذَلِكَ مَا يُرْوَى أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي، فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي، وَمَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَمَاتِي ضَمِنْت لَهُ عَلَى اللَّهِ الْجَنَّةَ» لَيْسَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَصْلٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى بَعْضَ ذَلِكَ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، فَمَدَارُ ذَلِكَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ. أَوْ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ، مِمَّنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِرِوَايَتِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ.
وَإِنَّمَا اعْتَمَدَ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي، حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام» وَكَمَا فِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِقَبْرِي مَلَائِكَةً تُبَلِّغُنِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ» فَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، فَلِهَذَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَالِكًا رحمه الله كَرِهَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَمَالِكٌ قَدْ أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ عِنْدَهُمْ أَلْفَاظُ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِهَذَا كَرِهَ مَنْ كَرِهَ مِنْ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقَبْرِ يَدْعُو: بَلْ وَكَرِهَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنْ يَقُومَ لِلدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ هُنَاكَ، وَذَكَرَ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَنَّهُ لَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا.
وَقَدْ ذَكَرُوا فِي أَسْبَابِ كَرَاهَتِهِ، أَنْ يَقُولَ: زُرْت قَبْرَ النَّبِيِّ، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُرِيدُ بِهِ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ، وَهِيَ قَصْدُ الْمَيِّتِ لِسُؤَالِهِ، وَدُعَائِهِ، وَالرَّغْبَةُ إلَيْهِ فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَهُمْ يَعْنُونَ بِلَفْظِ الزِّيَارَةِ مِثْلَ هَذَا، وَهَذَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ، فَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى فَاسِدٍ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالسَّلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ.
أَمَّا لَفْظُ الزِّيَارَةِ فِي عُمُومِ الْقُبُورِ فَقَدْ لَا يُفْهَمُ مِنْهُمَا مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ: «فَزُورُوا الْقُبُورَ. فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» مَعَ زِيَارَتِهِ لِقَبْرِ أُمِّهِ، فَإِنَّ هَذَا يَتَنَاوَلُ زِيَارَةَ قُبُورِ الْكُفَّارِ، فَلَا يُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ زِيَارَةُ الْمَيِّتِ لِدُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ بِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الشِّرْكِ وَالْبِدَعِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَزُورُ مُعَظَّمًا فِي الدِّينِ: كَالْأَنْبِيَاءِ، وَالصَّالِحِينَ. فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَعْنِي بِزِيَارَةِ قُبُورِهِمْ هَذِهِ الزِّيَارَةَ الْبِدْعِيَّةَ وَالشِّرْكِيَّةَ، فَلِهَذَا كَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذَا. وَإِنْ لَمْ يَكْرَهْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ.
فَلَا يُمْكِنُ أَحَدًا أَنْ يَرْوِيَ بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْئًا فِي
زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلْ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ يُنَاقِضُ الْمَعْنَى الْفَاسِدَ الَّذِي تَرْوِيهِ الْجُهَّالُ بِهَذَا اللَّفْظِ. كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ» .
وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا. وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ» . وَأَشْبَاهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي الصِّحَاحِ، وَالسُّنَنِ، وَالْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَةِ.
فَكَيْفَ يَعْدِلُ مَنْ لَهُ عِلْمٌ وَإِيمَانٌ عَنْ مُوجِبِ هَذِهِ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، إلَى مَا يُنَاقِضُ مَعْنَاهَا مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَمْ يُثْبِتْ مِنْهَا شَيْئًا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
392 -
32 - سُئِلَ: عَنْ زِيَارَةِ النِّسَاءِ الْقُبُورَ: هَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَمْ لَا؟
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ:«لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ: أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ. وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ نَهَى زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمْ الْآخِرَةَ» .