الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْمَرْأَة إذَا وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ]
سُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَيْضًا عَمَّنْ يَقُولُ: إنَّ الْمَرْأَةَ إذَا وَقَعَ بِهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ تُبَاحُ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ لِلَّذِي طَلَّقَهَا ثَلَاثًا: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ وَمَنْ اسْتَحَلَّهَا بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ مَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ وَمَا صِفَةُ النِّكَاحِ الثَّانِي الَّذِي يُبِيحُهَا لِلْأَوَّلِ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ مُثَابِينَ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ.
فَأَجَابَ: رضي الله عنه الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. إذَا وَقَعَ بِالْمَرْأَةِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ: إنَّهَا تُبَاحُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِدُونِ زَوْجٍ ثَانٍ، وَمَنْ نَقَلَ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَقَدْ كَذَبَ.
وَمَنْ قَالَ ذَلِكَ أَوْ اسْتَحَلَّ وَطْأَهَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحِ زَوْجٍ ثَانٍ، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا يُعْذَرُ بِجَهْلِهِ - مِثْلُ أَنْ يَكُونَ نَشَأَ بِمَكَانِ قَوْمٍ لَا يَعْرِفُونَ فِيهِ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، أَوْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ - فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ دِينَ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا تُبَاحُ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِدُونِ نِكَاحٍ ثَانٍ أَوْ عَلَى اسْتِحْلَالِ هَذَا الْفِعْلِ: فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، كَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ وُجُوبَ الْوَاجِبَاتِ، وَتَحْرِيمَ الْمُحَرَّمَاتِ، وَحِلَّ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي عُلِمَ أَنَّهَا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَثَبَتَ ذَلِكَ بِنَقْلِ الْأُمَّةِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْ نَبِيِّهَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ.
وَظَهَرَ ذَلِكَ بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، كَمَنْ يَجْحَدُ وُجُوبَ " مَبَانِي الْإِسْلَامِ " مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، أَوْ جَحَدَ " تَحْرِيمَ الظُّلْمِ، وَأَنْوَاعِهِ " كَالرِّبَا وَالْمَيْسِرِ، أَوْ تَحْرِيمَ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَمَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَحْرِيمِ " نِكَاحِ الْأَقَارِبِ " سِوَى بَنَاتِ الْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَةِ، وَتَحْرِيمَ " الْمُحَرَّمَاتِ بِالْمُصَاهَرَةِ " وَهُنَّ أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ وَبَنَاتُهُنَّ وَحَلَائِلُ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ حِلَّ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ، وَالنِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ؛ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عُلِمَتْ إبَاحَتُهُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ: فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ مِمَّا لَمْ يَتَنَازَعْ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ، لَا سُنِّيُّهُمْ وَلَا بِدْعِيُّهُمْ.
وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ " مَسَائِلِ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ " وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ؛ كَتَنَازُعِ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ فِي " الْحَرَامِ " هَلْ هُوَ طَلَاقٌ، أَوْ يَمِينٌ،
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي " الْكِنَايَاتِ الظَّاهِرَةِ " كَالْخَلِيَّةِ، وَالْبَرِيَّةِ، وَالْبَتَّةِ: هَلْ يَقَعُ بِهَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ، أَوْ بَائِنٌ، أَوْ ثَلَاثٌ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ؟ وَكَتَنَازُعِهِمْ فِي " الْمُولِي ": هَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يَفِ فِيهَا؟ أَمْ يُوقَفُ بَعْدَ انْقِضَائِهَا حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقَ؟ وَكَتَنَازُعِ الْعُلَمَاءِ فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ، وَالْمُكْرَهِ، وَفِي الطَّلَاقِ بِالْخَطِّ، وَطَلَاقِ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ، وَطَلَاقِ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ. وَطَلَاقِ الْحَكَمِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الزَّوْجِ بِدُونِ تَوْكِيلِهِ. كَمَا تَنَازَعُوا فِي بَذْلِ أَجْرِ الْعِوَضِ بِدُونِ تَوْكِيلِهَا. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْعُلَمَاءُ.
وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي مَسَائِلِ " تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالشَّرْطِ " وَمَسَائِلِ " الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ وَالظِّهَارِ، وَالْحَرَامِ، وَالنَّذْرِ " كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ أَوْ الصَّدَقَةُ بِأَلْفٍ. وَتَنَازَعُوا أَيْضًا فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ " الْأَيْمَانِ " مُطْلَقًا فِي مُوجِبِ الْيَمِينِ.
وَهَذَا كَتَنَازُعِهِمْ فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالنِّكَاحِ: هَلْ يَقَعُ أَوْ لَا يَقَعُ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ؟ أَوْ بَيْنَ مَا يَكُونُ فِيهِ مَقْصُودٌ شَرْعِيٌّ وَبَيْنَ أَنْ يَقَعَ فِي نَوْعِ مِلْكٍ أَوْ غَيْرِ مِلْكٍ؟ وَتَنَازَعُوا فِي الطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ بَعْدَ النِّكَاحِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. فَقِيلَ: يَقَعُ مُطْلَقًا. وَقِيلَ: لَا يَقَعُ وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُقْصَدُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ كَوْنِهِ، وَبَيْنَ الشَّرْطِ الَّذِي يُقْصَدُ عَدَمُهُ. وَعَدَمُ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ. " فَالْأَوَّلُ " كَقَوْلِهِ: إنْ أَعْطَيْتنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ. " وَالثَّانِي " كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، وَنِسَائِي طَوَالِقُ، وَعَلَيَّ الْحَجُّ.
وَأَمَّا النَّذْرُ الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ، فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي، أَوْ سَلَّمَ مَالِي الْغَائِبَ فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ، أَوْ الصَّدَقَةُ بِمِائَةٍ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ. وَتَنَازَعُوا فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ وُجُودَ الشَّرْطِ؛ بَلْ مَقْصُودُهُ عَدَمُ الشَّرْطِ، وَهُوَ حَالِفٌ بِالنَّذْرِ، كَمَا إذَا قَالَ: لَا أُسَافِرُ، وَإِنْ سَافَرْت فَعَلَيَّ الصَّوْمُ، أَوْ الْحَجُّ، أَوْ الصَّدَقَةُ، أَوْ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَالصَّحَابَةُ وَجُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ آخِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ: كَابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ أَبِي الْغُمْرِ، وَغَيْرِهِمَا. وَهَلْ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ، أَمْ يُجْزِيهِ الْوَفَاءُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.
وَقِيلَ: عَلَيْهِ الْوَفَاءُ، كَقَوْلِ مَالِكٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَحَكَاهُ بَعْضُ
الْمُتَأَخِّرِينَ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ؛ وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِهِ. وَقِيلَ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِحَالٍ، كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد، وَابْنِ حَزْمٍ.
وَهَكَذَا تَنَازَعُوا عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِيمَنْ حَلَفَ بِالْعَتَاقِ أَوْ الطَّلَاقِ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ، أَوْ امْرَأَتِي طَالِقٌ. هَلْ يَقَعُ ذَلِكَ إذَا حَنِثَ، أَوْ يُجْزِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، أَوْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أُطَلِّقَ امْرَأَتِي لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؛ بَلْ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَكُنْ قُرْبَةٌ؛ وَلَكِنْ هَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. " أَحَدُهُمَا " يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْخَطَّابِيُّ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الَّذِي وَصَلَ إلَيْنَا فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ، " وَالثَّانِي " لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْته فَعَلَيَّ إذًا عِتْقُ عَبْدِي. فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ؛ لَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِتْقُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، وَقَوْلُ دَاوُد، وَابْنِ حَزْمٍ. وَقِيلَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ قَوْلُ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ التَّكْفِيرِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى الْمَشْهُورِ عَنْهُمَا.
وَقِيلَ: يَجِبُ التَّكْفِيرُ عَيْنًا؛ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ فِيمَا بَلَغَنَا بَعْدَ كَثْرَةِ الْبَحْثِ، وَتَتَبُّعِ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ؛ بَلْ الْمَنْقُولُ عَنْهُمْ إمَّا ضَعِيفٌ؛ بَلْ كَذِبٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ؛ فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا يَحْلِفُونَ بِالطَّلَاقِ عَلَى عَهْدِهِمْ؛ وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فِي الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ أَنْ يُجْزِيَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، كَمَا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ هَؤُلَاءِ نَقِيضُ هَذَا الْقَوْلِ. وَأَنَّهُ يُعْتَقُ. وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى أَسَانِيدِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَمَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: إنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ مِنْ التَّابِعِينَ. وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ ظَنَّ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا نِزَاعَ فِيهِ فَاضْطَرَّهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ عَكَسَ مُوجَبَ الدَّلِيلِ فَقَالَ: يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ دُونَ الْعَتَاقِ، وَقَدْ بَسَطَ
الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَبَيَّنَ مَا فِيهَا مِنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُجَّةَ كُلِّ قَوْمٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ الطَّلَاقِ أَوْ الظِّهَارِ أَوْ الْحَرَامِ أَوْ النَّذْرِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا فَفَعَلَهُ نَاسِيًا لِيَمِينِهِ، أَوْ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ: فَهَلْ يَحْنَثُ، كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ، وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ وَإِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ؟ أَوْ لَا يَحْنَثُ بِحَالٍ، كَقَوْلِ الْمَكِّيِّينَ، وَالْقَوْلِ الْآخَرِ لِلشَّافِعِيِّ وَالرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ أَحْمَدَ؟ أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا، كَالرِّوَايَةِ الثَّالِثَةِ عَنْ أَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَالْخِرَقِيِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَالْقَفَّالِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ امْرَأَتَهُ بَانَتْ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا لَمْ تَبِنْ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ.
وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى شَيْءٍ يَعْتَقِدُهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ؟ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ كَمَا ذُكِرَ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ يَشُكُّ فِيهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ صِدْقُهُ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ.
عِنْدَ مَالِكٍ يَقَعُ، وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لَا يَقَعُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَالْمَنْصُوصُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ التَّوَقُّفُ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَيُخَرَّجُ عَلَى وَجْهَيْنِ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ الْيَوْمَ كَذَا وَمَضَى الْيَوْمُ، أَوْ شَكَّ فِي فِعْلِهِ هَلْ يَحْنَثُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُرْجَعُ فِي الْيَمِينِ إلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إذَا احْتَمَلَهَا لَفْظُهُ، وَلَمْ يُخَالِفْ الظَّاهِرَ، أَوْ خَالَفَهُ وَكَانَ مَظْلُومًا. وَتَنَازَعُوا هَلْ يُرْجَعُ إلَى سَبَبِ الْيَمِينِ وَسِيَاقِهَا وَمَا هَيَّجَهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمَذْهَبُ الْمَدَنِيِّينَ كَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يُرْجَعُ إلَى ذَلِكَ، وَالْمَعْرُوفُ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُرْجَعُ: لَكِنْ فِي مَسَائِلِهِمَا مَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ أَعَمَّ مِنْ الْيَمِينِ عُمِلَ بِهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى السَّبَبَ. وَإِنْ كَانَ خَاصًّا: فَهَلْ يَقْصُرُ الْيَمِينَ عَلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُعَيَّنٍ يَعْتَقِدُهُ عَلَى صِفَةٍ فَتَبَيَّنَ بِخِلَافِهَا؟ فَفِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بِصِفَةٍ؛ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهَا مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنْت طَالِقٌ أَنْ دَخَلْت الدَّارَ - بِالْفَتْحِ - أَيْ لِأَجْلِ دُخُولِك الدَّارَ؛ وَلَمْ تَكُنْ دَخَلَتْ. فَهَلْ يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: أَنْت طَالِقٌ لِأَنَّك فَعَلْت كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَمْ تَكُنْ فَعَلَتْهُ؟ وَلَوْ قِيلَ لَهُ: امْرَأَتُك فَعَلَتْ كَذَا؛ فَقَالَ: هِيَ طَالِقٌ. ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَيْهَا؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ وَتَنَازَعُوا فِي الطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ: كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ؛ وَكَجَمْعِ الثَّلَاثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ
الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّهُ حَرَامٌ؛ وَلَكِنَّ الْأَرْبَعَةَ وَجُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: كَوْنُهُ حَرَامًا لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ، كَمَا أَنَّ الظِّهَارَ مُحَرَّمٌ وَإِذَا ظَاهَرَ ثَبَتَ حُكْمُ الظِّهَارِ؛ وَكَذَلِكَ " النَّذْرُ " قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " أَنَّهُ نَهَى عَنْهُ " وَمَعَ هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ.
وَاَلَّذِينَ قَالُوا: لَا يَقَعُ، اعْتَقَدُوا أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَقَعُ فَاسِدًا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ، وَالْجُمْهُورُ فَرَّقُوا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ يَعُمُّهُ لَا يُنَاسِبُ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ: كَحِلِّ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَإِجْزَاءِ الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً تُنَاسِبُ فِعْلَ الْمُحَرَّمِ كَالْإِيجَابِ وَالتَّحْرِيمِ؛ فَإِنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْ شَيْءٍ إذَا فَعَلَهُ قَدْ تَلْزَمُهُ بِفِعْلِهِ كَفَّارَةٌ أَوْ حَدٌّ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُوبَاتِ: فَكَذَلِكَ قَدْ يُنْهَى عَنْ فِعْلِ شَيْءٍ فَإِذَا فَعَلَهُ لَزِمَهُ بِهِ وَاجِبَاتٌ وَمُحَرَّمَاتٌ؛ وَلَكِنْ لَا يُنْهَى عَنْ شَيْءٍ إذَا فَعَلَهُ أُحِلَّتْ لَهُ بِسَبَبِ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ الطَّيِّبَاتُ؛ فَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ الْوَاجِبَاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ " بَابِ الْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ " وَالْمُحَرَّمَاتُ لَا تَكُونُ سَبَبًا مَحْضًا لِلْإِكْرَامِ وَالْإِحْسَانِ؛ بَلْ هِيَ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَاتِ إذَا لَمْ يَتَّقُوا اللَّهَ تبارك وتعالى؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] إلَى قَوْلِهِ تبارك وتعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَتَوَقُّفِهِمْ عَنْ امْتِثَالِ أَمْرِهِ كَانَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْإِيجَابِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] وَحَدِيثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» «وَلَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ الْحَجِّ: أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: لَا. وَلَوْ قُلْت: نَعَمْ لَوَجَبَ؛ وَلَوْ وَجَبَ لَمْ تُطِيقُوهُ؛ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ؛ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ. وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .
وَمِنْ هُنَا قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ حُرِّمَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ عُقُوبَةً لِلرَّجُلِ حَتَّى لَا يُطَلِّقَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الطَّلَاقَ؛ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَالسَّحَرَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السِّحْرِ: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الشَّيْطَانَ يَنْصِبُ عَرْشَهُ عَلَى الْبَحْرِ؛ وَيَبْعَثُ جُنُودَهُ فَأَقْرَبُهُمْ إلَيْهِ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً؛ فَيَأْتِي أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا زِلْتُ بِهِ حَتَّى شَرِبَ الْخَمْرَ. فَيَقُولُ السَّاعَةَ يَتُوبُ. وَيَأْتِي الْآخَرُ فَيَقُولُ: مَا زِلْتُ بِهِ حَتَّى فَرَّقْت بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ. فَيُقَبِّلُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَيَقُولُ: أَنْتَ، أَنْتَ» .
وَقَدْ رَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ: أَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يُطَلِّقُونَ بِغَيْرِ عَدَدٍ: يُطَلِّقُ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ، ثُمَّ يَدَعُهَا حَتَّى إذَا شَارَفَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا ضِرَارًا، فَقَصَرَهُمْ اللَّهُ عَلَى الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَآخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ. وَلَوْلَا أَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إلَى الطَّلَاقِ لَكَانَ الدَّلِيلُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ وَالْأُصُولُ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَهُ رَحْمَةً مِنْهُ بِعِبَادِهِ لِحَاجَتِهِمْ إلَيْهِ أَحْيَانًا. وَحَرَّمَهُ فِي مَوَاضِعَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. كَمَا إذَا طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ وَلَمْ تَكُنْ سَأَلَتْهُ الطَّلَاقَ؛ فَإِنَّ هَذَا الطَّلَاقَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ.
وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِأَفْضَلِ الشَّرَائِعِ وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ، كَمَا قَالَ:«أَحَبُّ الدِّينِ إلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ» فَأَبَاحَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْوَطْءَ بِالنِّكَاحِ.
وَالْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا يَطَئُونَ إلَّا بِالنِّكَاحِ؛ لَا يَطَئُونَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. " وَأَصْلُ ابْتِدَاءِ الرِّقِّ " إنَّمَا يَقَعُ مِنْ السَّبْيِ. وَالْغَنَائِمُ لَمْ تَحِلَّ إلَّا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ:«فُضِّلْنَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِخَمْسٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ كَانَ قَبْلَنَا، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ» فَأَبَاحَ سُبْحَانَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَنْكِحُوا وَأَنْ يُطَلِّقُوا، وَأَنْ يَتَزَوَّجُوا
الْمَرْأَةَ الْمُطَلَّقَةَ بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ زَوْجِهَا.
" وَالنَّصَارَى " يُحَرِّمُونَ النِّكَاحَ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَمَنْ أَبَاحُوا لَهُ النِّكَاحَ لَمْ يُبِيحُوا لَهُ الطَّلَاقَ. " وَالْيَهُودُ " يُبِيحُونَ الطَّلَاقَ؛ لَكِنْ إذَا تَزَوَّجَتْ الْمُطَلَّقَةُ بِغَيْرِ زَوْجِهَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ. وَالنَّصَارَى لَا طَلَاقَ عِنْدَهُمْ. وَالْيَهُودُ لَا مُرَاجَعَةَ بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ عِنْدَهُمْ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ هَذَا وَهَذَا.
وَلَوْ أُبِيحَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ عَدَدٍ - كَمَا كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ - لَكَانَ النَّاسُ يُطَلِّقُونَ دَائِمًا: إذَا لَمْ يَكُنْ أَمْرٌ يَزْجُرُهُمْ عَنْ الطَّلَاقِ؛ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ وَالْفَسَادِ مَا أَوْجَبَ حُرْمَةَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ فَسَادُ الطَّلَاقِ لِمُجَرَّدِ حَقِّ الْمَرْأَةِ فَقَطْ: كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ حَتَّى يُبَاحَ دَائِمًا بِسُؤَالِهَا؛ بَلْ نَفْسُ الطَّلَاقِ إذَا لَمْ تَدْعُ إلَيْهِ حَاجَةٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ: إمَّا نَهْيُ تَحْرِيمٍ، أَوْ نَهْيُ تَنْزِيهٍ، وَمَا كَانَ مُبَاحًا لِلْحَاجَةِ قُدِّرَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ.
وَالثَّلَاثُ هِيَ مِقْدَارُ مَا أُبِيحَ لِلْحَاجَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» وَكَمَا قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ إلَّا عَلَى زَوْجٍ فَإِنَّهَا تَحُدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا» وَكَمَا رُخِّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا. وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِي الصَّحِيحِ.
وَهَذَا مِمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَا يَرَى وُقُوعَ الطَّلَاقِ إلَّا مِنْ الْقَصْدِ؛ وَلَا يَرَى وُقُوعَ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ؛ كَمَا لَا يَكْفُرُ مَنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مُكْرَهًا بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ؛ وَلَوْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ مُسْتَهْزِئًا بِآيَاتِ اللَّهِ وَبِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ كَفَرَ؛ كَذَلِكَ مَنْ تَكَلَّمَ بِالطَّلَاقِ هَازِلًا وَقَعَ بِهِ.
وَلَوْ حَلَفَ بِالْكُفْرِ فَقَالَ: إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ بَرِيءٌ
مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ أَوْ فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ. لَمْ يَكْفُرْ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا حُكْمًا مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ فِي اللَّفْظِ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْحَلِفُ بِهِ بُغْضًا لَهُ وَنُفُورًا عَنْهُ؛ لَا إرَادَةً لَهُ؛ بِخِلَافِ مَنْ قَالَ: إنْ أَعْطَيْتُمُونِي أَلْفًا كَفَرْتُ فَإِنَّ هَذَا يَكْفُرُ. وَهَكَذَا يَقُولُ مَنْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَتَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ لَا يُقْصَدُ كَوْنُهُ، وَبَيْنَ الطَّلَاقِ الْمَقْصُودِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ.
وَلِهَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لِلنِّكَاحِ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثِ، كَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِمَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ افْتَدَتْ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ كَافْتِدَاءِ الْأَسِيرِ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الطَّلَاقِ الْمَكْرُوهِ فِي الْأَصْلِ، وَلِهَذَا يُبَاحُ فِي الْحَيْضِ؛ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ.
وَأَمَّا إذَا عَدَلَ هُوَ عَنْ الْخُلْعِ وَطَلَّقَهَا إحْدَى الثَّلَاثِ بِعِوَضٍ فَالتَّفْرِيطُ مِنْهُ. وَذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ: كَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَغَيْرِهِ؛ وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا. وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ جَعَلُوهُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فَسْخًا. كَالْإِقَالَةِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا هُوَ مَعَ الْمَرْأَةِ؛ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ افْتِدَاءُ الْمَرْأَةِ كَمَا يُفْدَى الْأَسِيرُ فَقَدْ يَفْتَدِي الْأَسِيرُ بِمَالٍ مِنْهُ وَمَالٍ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَعْتِقُ بِمَالٍ يَبْذُلُهُ هُوَ وَمَا يَبْذُلُهُ الْأَجْنَبِيُّ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ يَصِحُّ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَمَعَ أَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ هَذَا جَمِيعَهُ مِنْ بَابِ الْإِسْقَاطِ وَالْإِزَالَةِ.
وَإِذْ كَانَ الْخُلْعُ رَفْعًا لِلنِّكَاحِ؛ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ: فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَبْذُولُ مِنْ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ. وَتَشْبِيهُ فَسْخِ النِّكَاحِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ: فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَزُولُ إلَّا بِرِضَى الْمُتَبَايِعَيْنِ؛ لَا يَسْتَقِلُّ أَحَدُهُمَا بِإِزَالَتِهِ؛ بِخِلَافِ النِّكَاحِ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ إلَيْهَا إزَالَتُهُ؛ بَلْ الزَّوْجُ يَسْتَقِلُّ بِذَلِكَ؛ لَكِنْ افْتِدَاؤُهَا نَفْسَهَا مِنْهُ كَافْتِدَاءِ الْأَجْنَبِيِّ لَهَا. وَمَسَائِلُ الطَّلَاقِ وَمَا فِيهَا مِنْ الْإِجْمَاعِ وَالنِّزَاعِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضُوعِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا إذَا وَقَعَ بِهِ الثَّلَاثُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَلَا يُبَاحُ إلَّا بِنِكَاحِ ثَانٍ، وَبِوَطْئِهِ لَهَا عِنْدَ عَامَّةِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ الْمَأْمُورَ بِهِ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْعَقْدِ وَبِالْوَطْءِ، بِخِلَافِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؛ فَإِنَّهُ يُنْهَى فِيهِ عَنْ كُلٍّ مِنْ الْعَقْدِ وَالْوَطْءِ؛ وَلِهَذَا كَانَ النِّكَاحُ الْوَاجِبُ وَالْمُسْتَحَبُّ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْوَطْءِ مِنْ الْعَقْدِ " وَالنِّكَاحُ الْمُحَرَّمُ " يَحْرُمُ فِيهِ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم -
قَالَ لِامْرَأَةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ. لَمَّا أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ إلَى رِفَاعَةَ بِدُونِ الْوَطْءِ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» وَلَيْسَ فِي هَذَا خِلَافٌ إلَّا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فَإِنَّهُ - مَعَ أَنَّهُ أَعْلَمُ التَّابِعِينَ - لَمْ تَبْلُغْهُ السُّنَّةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. " وَالنِّكَاحُ الْمُبِيحُ " هُوَ النِّكَاحُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ النِّكَاحُ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ:«حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك» فَأَمَّا " نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ " فَإِنَّهُ لَا يُحِلُّهَا لِلْأَوَّلِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ السَّلَفِ، وَقَدْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَا أُوتَى بِمُحَلِّلٍ وَمُحَلَّلٍ لَهُ إلَّا رَجَمْتُهُمَا. وَكَذَلِكَ قَالَ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمْ: إنَّهُ لَا يُبِيحُهَا إلَّا بِنِكَاحِ رَغْبَةٍ؛ لَا نِكَاحِ مُحَلِّلٍ. وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي نِكَاحِ التَّحْلِيلِ.
وَلَكِنْ تَنَازَعُوا فِي " نِكَاحِ الْمُتْعَةِ " فَإِنَّ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ خَيْرٌ مِنْ نِكَاحِ التَّحْلِيلِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
" أَحَدُهَا " أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ؛ بِخِلَافِ التَّحْلِيلِ.
" الثَّانِي " أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ؛ بِخِلَافِ التَّحْلِيلِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ.
" الثَّالِثُ " أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الْمَرْأَةِ وَلِلْمَرْأَةِ رَغْبَةٌ فِيهِ إلَى أَجَلٍ؛ بِخِلَافِ الْمُحَلِّلِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا رَغْبَةٌ فِيهِ بِحَالٍ، وَهُوَ لَيْسَ لَهُ رَغْبَةٌ فِيهَا؛ بَلْ فِي أَخْذِ مَا يُعْطَاهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ رَغْبَةٌ فَهِيَ مِنْ رَغْبَتِهِ فِي الْوَطْءِ؛ لَا فِي اتِّخَاذِهَا زَوْجَةً، مِنْ جِنْسِ رَغْبَةِ الزَّانِي؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ، وَإِنْ مَكَثَا عِشْرِينَ سَنَةً. إذْ اللَّهُ عَلِمَ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُحِلَّهَا لَهُ. وَلِهَذَا تُعْدَمُ فِيهِ خَصَائِصُ النِّكَاحِ؛ فَإِنَّ النِّكَاحَ الْمَعْرُوفَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] وَالتَّحْلِيلُ فِيهِ الْبِغْضَةُ وَالنُّفْرَةُ؛ وَلِهَذَا لَا يُظْهِرُهُ
أَصْحَابُهُ؛ بَلْ يَكْتُمُونَهُ كَمَا يُكْتَمُ السِّفَاحُ. وَمِنْ شَعَائِرِ النِّكَاحِ إعْلَانُهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَعْلِنُوا النِّكَاحَ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ» . وَلِهَذَا يَكْفِي فِي إعْلَانِهِ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَطَائِفَةٌ أُخْرَى تُوجِبُ الْإِشْهَادَ وَالْإِعْلَانَ؛ فَإِذَا تَوَاصَوْا بِكِتْمَانِهِ بَطَلَ.
وَمِنْ ذَلِكَ الْوَلِيمَةُ عَلَيْهِ، وَالنِّثَارُ، وَالطِّيبُ، وَالشَّرَابُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَاتُ النَّاسِ فِي النِّكَاحِ. وَأَمَّا " التَّحْلِيلُ " فَإِنَّهُ لَا يُفْعَلُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ أَهْلَهُ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَكُونَ الْمُحَلِّلُ زَوْجَ الْمَرْأَةِ، وَلَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ امْرَأَتَهُ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ اسْتِعَارَتُهُ لِيَنْزُوَ عَلَيْهَا، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ تَسْمِيَتُهُ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ؛ وَلِهَذَا شُبِّهَ بِحِمَارِ الْعُشْرِيِّينَ الَّذِي يُكْتَرَى لِلتَّقْفِيزِ عَلَى الْإِنَاثِ؛ وَلِهَذَا لَا تَبْقَى الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا بَعْدَ التَّحْلِيلِ كَمَا كَانَتْ قَبْلَهُ؛ بَلْ يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا نَوْعٌ مِنْ النُّفْرَةِ.
وَلِهَذَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي التَّحْلِيلِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ يَأْمُرُ بِهِ الشَّارِعُ: صَارَ الشَّيْطَانُ يُشَبِّهُ بِهِ أَشْيَاءَ مُخَالِفَةً لِلْإِجْمَاعِ، فَصَارَ طَائِفَةٌ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ يَظُنُّونَ أَنَّ وِلَادَتَهَا لِذَكَرٍ يُحِلُّهَا، أَوْ إنْ وَطِئَهَا بِالرِّجْلِ عَلَى قَدَمِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ فَوْقَ سَقْفٍ أَوْ سُلَّمٍ هِيَ تَحْتَهُ يُحِلُّهَا.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُمَا إذَا الْتَقَيَا بِعَرَفَاتٍ، كَمَا الْتَقَى آدَم وَامْرَأَتُهُ أَحَلَّهَا ذَلِكَ. وَمِنْهُنَّ مَنْ إذَا تَزَوَّجَتْ بِالْمُحَلَّلِ بِهِ لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ نَفْسِهَا؛ بَلْ تُمَكِّنُهُ مِنْ أَمَةٍ لَهَا. وَمِنْهُنَّ مَنْ تُعْطِيهِ شَيْئًا، وَتُوصِيهِ بِأَنْ يُقِرَّ بِوَطْئِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُحَلِّلُ الْأُمَّ وَبِنْتَهَا. إلَى أُمُورٍ أُخَرَ قَدْ بُسِطَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، بَيَّنَّاهَا فِي " كِتَابِ بَيَانِ الدَّلِيلِ عَلَى بُطْلَانِ التَّحْلِيلِ ". وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَنْسُوخَ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَمَا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ خَيْرٌ مِنْ مِثْلِ هَذَا، فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ تَأْتِي بِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا عَدَدَ لَهُ لَكَانَ هَذَا مُمْكِنًا وَإِنْ كَانَ هَذَا مَنْسُوخًا. وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَسْتَكْرِيَ مَنْ يَطَؤُهَا فَهَذَا لَا تَأْتِي بِهِ شَرِيعَةٌ.
وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْلِيلِ يَفْعَلُونَ أَشْيَاءَ مُحَرَّمَةً بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ الْمُعْتَدَّةَ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ زَوْجِهَا أَنْ يُصَرِّحَ بِخُطْبَتِهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ عِدَّةِ طَلَاقٍ أَوْ عِدَّةِ وَفَاةٍ، قَالَ تَعَالَى:{وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235]
فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُوَاعَدَةِ سِرًّا، وَعَنْ عَزْمَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ، حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي عِدَّةِ الْمَوْتِ فَهُوَ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ أَشَدُّ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ قَدْ تَرْجِعُ إلَى زَوْجِهَا؛ بِخِلَافِ مَنْ مَاتَ عَنْهَا. وَأَمَّا " التَّعْرِيضُ " فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَلَا يَجُوزُ فِي عِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ وَفِيمَا سِوَاهُمَا. فَهَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا، وَلَا يَعْزِمُ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ ثَانٍ وَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَحِلَّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا، وَلَا يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَذَلِكَ أَشَدُّ وَأَشَدُّ وَإِذَا كَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا لَمْ يَحِلَّ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْطُبَهَا، لَا تَصْرِيحًا، وَلَا تَعْرِيضًا؛ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. فَإِذَا كَانَتْ لَمْ تَتَزَوَّجْ بَعْدُ لَمْ يَحِلَّ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا أَنْ يَخْطِبَهَا؛ لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا. بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَخِطْبَتُهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ أَعْظَمُ مِنْ خِطْبَتِهَا بَعْدَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي.
وَهَؤُلَاءِ " أَهْلُ التَّحْلِيلِ " قَدْ يُوَاعِدُ أَحَدُهُمْ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا، وَيَعْزِمَانِ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَقَبْلَ نِكَاحِ الثَّانِي عَلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ بَعْدَ النِّكَاحِ الثَّانِي نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ، وَيُعْطِيهَا مَا تُنْفِقُهُ عَلَى شُهُودِ عَقْدِ التَّحْلِيلِ، وَلِلْمُحَلِّلِ، وَمَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهَا فِي عِدَّةِ التَّحْلِيلِ، وَالزَّوْجُ الْمُحَلِّلُ لَا يُعْطِيهَا مَهْرًا، وَلَا نَفَقَةَ عِدَّةٍ، وَلَا نَفَقَةَ طَلَاقٍ، فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي هَذِهِ وَقْتَ نِكَاحِهَا بِالثَّانِي أَنْ يَخْطِبَهَا الْأَوَّلُ - لَا تَصْرِيحًا وَلَا تَعْرِيضًا - فَكَيْفَ إذَا خَطَبَهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِالثَّانِي؟ أَوْ إذَا كَانَ بَعْدَ أَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّانِي لَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُوَاعِدَهَا سِرًّا، وَلَا يَعْزِمَ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ: فَكَيْفَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُطَلِّقَ؟ ، بَلْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ، بَلْ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ، فَهَذَا كُلُّهُ يَحْرُمُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ التَّحْلِيلِ يَفْعَلُهُ، وَلَيْسَ فِي التَّحْلِيلِ صُورَةٌ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى حِلِّهَا وَلَا صُورَةٌ أَبَاحَهَا النَّصُّ؛ بَلْ مِنْ صُوَرِ التَّحْلِيلِ مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَمِنْهَا مَا تَنَازَعَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ.
وَأَمَّا الصَّحَابَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» مِنْهُمْ؛ وَهَذَا وَغَيْرُهُ يُبَيِّنُ أَنَّ مِنْ التَّحْلِيلِ مَا هُوَ شَرٌّ مِنْ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْكِحَةِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا السَّلَفُ؛ وَبِكُلِّ حَالٍ فَالصَّحَابَةُ أَفْضَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَبَعْدَهُمْ التَّابِعُونَ، كَمَا ثَبَتَ فِي