الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بِالْمَعْرُوفِ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَخْدُمَهُ الْخِدْمَةَ الْمَعْرُوفَةَ مِنْ مِثْلِهَا لِمِثْلِهِ، وَيَتَنَوَّعُ ذَلِكَ بِتَنَوُّعِ الْأَحْوَالِ: فَخِدْمَةُ الْبَدْوِيَّةِ لَيْسَتْ كَخِدْمَةِ الْقَرَوِيَّةِ، وَخِدْمَةُ الْقَوِيَّةِ لَيْسَتْ كَخِدْمَةِ الضَّعِيفَةِ.
[فَصَلِّ شَرَطَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخِر شَرْطًا لَا يُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا يُحَلَّلُ حَرَامًا]
فَصْلٌ
وَالْمَعْرُوفُ فِيمَا لَهُ وَلَهَا هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ؛ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يُرْجَعُ فِي مُوجِبِهِ إلَى الْعُرْفِ، كَمَا يُوجِبُ الْعَقْدُ الْمُطْلَقُ فِي الْبَيْعِ النَّقْدَ الْمَعْرُوفَ فَإِنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ شَرْطًا لَا يُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا يُحَلِّلُ حَرَامًا فَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ؛ فَإِنَّ مُوجِبَاتِ الْعُقُودِ تُتَلَقَّى مِنْ اللَّفْظِ تَارَةً. وَمِنْ الْعُرْفِ تَارَةً أُخْرَى؛ لَكِنَّ كِلَاهُمَا مُقَيَّدٌ بِمَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ أَنْ يُوجِبَ لِلْآخَرِ عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ اللَّهُ مِنْ إيجَابِهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ أَنْ يُوجِبَ فِي الْمُعَاوَضَةِ مَا يُبَاحُ بَذْلُهُ بِلَا عِوَضٍ: كَعَارِيَّةِ الْبُضْعِ؛ وَالْوَلَاءِ لِغَيْرِ الْمُعْتِقِ؛ فَلَا سَبِيلَ إلَى أَنْ يَجِبَ بِالشَّرْطِ، فَإِنَّهُ إذَا حَرُمَ بَذْلُهُ كَيْفَ يَجِبُ بِالشَّرْطِ؟ ، فَهَذِهِ أُصُولٌ جَامِعَةٌ مَعَ اخْتِصَارٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ الْفَرْق بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْحَلِفِ]
543 -
6 - مَسْأَلَةٌ: سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ رحمه الله، عَنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ، وَالْحَلِفِ وَإِيضَاحِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ؟
فَأَجَابَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ -. الصِّيَغُ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ وَالظِّهَارِ وَالْحَرَامِ، ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ: صِيغَةُ التَّنْجِيزِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: امْرَأَتِي طَالِقٌ. أَوْ: أَنْتِ طَالِقٌ.
أَوْ: فُلَانَةُ طَالِقٌ. أَوْ هِيَ مُطَلَّقَةٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَلَا تَنْفَعُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا فِيهِ كَفَّارَةٌ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: عَبْدِي حُرٌّ. أَوْ عَلَيَّ صِيَامُ شَهْرٍ. أَوْ: عِتْقُ رَقَبَةٍ. أَوْ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ. أَوْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي؛ فَهَذِهِ كُلُّهَا إيقَاعَاتٌ لِهَذِهِ الْعُقُودِ بِصِيَغِ التَّنْجِيزِ وَالْإِطْلَاقِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ، فَيَقُولُ: الطَّلَاقُ يَلْزَمُنِي لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. أَوْ لَا أَفْعَلُ كَذَا. أَوْ يَحْلِفُ عَلَى غَيْرِهِ - كَعَبْدِهِ وَصَدِيقِهِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ يَبَرُّ قَسَمَهُ - لَيَفْعَلَن كَذَا. أَوْ لَا يَفْعَلُ كَذَا. أَوْ يَقُولُ: الْحِلُّ عَلَيَّ حَرَامٌ لَأَفْعَلَن كَذَا. أَوْ لَا أَفْعَلُهُ. أَوْ يَقُولُ: عَلَيَّ الْحَجُّ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. أَوْ لَا أَفْعَلُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَهَذِهِ صِيَغُ قَسَمٍ، وَهُوَ حَالِفٌ بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ لَا مَوْقِعَ لَهَا. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: إنَّهُ إذَا حَنِثَ لَزِمَهُ مَا حَلَفَ بِهِ. وَالثَّانِي: لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ.
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَلِفِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهَا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . وَقَالَ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] .
وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَغَيْرِهِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، وَأَبِي مُوسَى، أَنَّهُ قَالَ:«وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» . وَجَاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي مُوسَى؛ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ.
وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ وَحَنِثَ أَجْزَأَتْهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ. وَمَنْ حَلَفَ بِأَيْمَانِ الشِّرْكِ: مِثْلُ أَنْ يَحْلِفَ بِتُرْبَةِ أَبِيهِ؛ أَوْ الْكَعْبَةِ، أَوْ نِعْمَةِ السُّلْطَانِ، أَوْ حَيَاةِ الشَّيْخِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ: فَهَذِهِ الْيَمِينُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ، وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا إذَا حَنِثَ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: مِنْ الصِّيَغِ: أَنْ يُعَلِّقَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ أَوْ النَّذْرَ بِشَرْطٍ؛ فَيَقُولُ: إنْ كَانَ كَذَا فَعَلَيَّ الطَّلَاقُ. أَوْ الْحَجُّ. أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ. وَنَحْوُ ذَلِكَ: فَهَذَا يُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِ، فَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَحْلِفَ بِذَلِكَ لَيْسَ غَرَضُهُ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ - كَمَنْ لَيْسَ غَرَضُهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ إذَا وَقَعَ الشَّرْطُ - فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْحَالِفِ؛ وَهُوَ مِنْ بَابِ الْيَمِينِ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ مَقْصُودُهُ وُقُوعَ هَذِهِ الْأُمُورِ: كَمَنْ غَرَضُهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ وُقُوعِ
الشَّرْطِ: مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: إنْ أَبْرَأَتْنِي مِنْ طَلَاقِك فَأَنْتَ طَالِقٌ. فَتُبْرِئُهُ. أَوْ يَكُونُ غَرَضُهُ أَنَّهَا إذَا فَعَلَتْ فَاحِشَةً أَنْ يُطَلِّقَهَا، فَيَقُولُ: إذَا فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ بِخِلَافِ مَنْ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهَا لِيَمْنَعَهَا؛ وَلَوْ فَعَلَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَرَضٌ فِي طَلَاقِهَا، فَإِنَّهَا تَارَةً يَكُونُ طَلَاقُهَا أَكْرَهَ إلَيْهِ مِنْ الشَّرْطِ، فَيَكُونُ حَالِفًا. وَتَارَةً يَكُونُ الشَّرْطُ الْمَكْرُوهُ أَكْرَهَ إلَيْهِ مِنْ طَلَاقِهَا. فَيَكُونُ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ إذَا وُجِدَ ذَلِكَ الشَّرْطُ، فَهَذَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ، فَشُفِيَ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ.
فَالْأَصْلُ فِي هَذَا: أَنْ يُنْظَرَ إلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَقْصُودِهِ، فَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ أَنْ تَقَعَ هَذِهِ الْأُمُورُ وَقَعَتْ مُنَجَّزَةً أَوْ مُعَلَّقَةً إذَا قَصَدَ وُقُوعَهَا عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ. وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَحْلِفَ بِهَا؛ وَهُوَ يَكْرَهُ وُقُوعَهَا إذَا حَنِثَ وَإِنْ وَقَعَ الشَّرْطُ فَهَذَا حَالِفٌ بِهَا؛ لَا مُوقِعٌ لَهَا، فَيَكُونُ قَوْلُهُ مِنْ بَابِ الْيَمِينِ؛ لَا مِنْ بَابِ التَّطْلِيقِ، وَالنَّذْرِ، فَالْحَالِفُ هُوَ الَّذِي يَلْتَزِمُ مَا يَكْرَهُ وُقُوعَهُ عِنْدَ الْمُخَالَفَةِ، كَقَوْلِهِ: إنْ فَعَلَ كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ؛ أَوْ نَصْرَانِيٌّ، وَنِسَائِي طَوَالِقُ، وَعَبِيدِي أَحْرَارٌ، وَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ. فَهَذَا وَنَحْوُهُ يَمِينٌ؛ بِخِلَافِ مَنْ يَقْصِدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ مِنْ نَاذِرٍ وَمُطَلِّقٍ وَمُعَلِّقٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْصِدُ وَيَخْتَارُ لُزُومَ مَا الْتَزَمَهُ، وَكِلَاهُمَا مُلْتَزِمٌ، لَكِنَّ هَذَا الْحَالِفَ يَكْرَهُ وُقُوعَ اللَّازِمِ وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ الْمَلْزُومُ، كَمَا إذَا قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنَا يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ، فَإِنَّ هَذَا يَكْرَهُ الْكُفْرَ، وَلَوْ وَقَعَ الشَّرْطُ: فَهَذَا حَالِفٌ. وَالْمُوقِعُ يَقْصِدُ وُقُوعَ الْجَزَاءِ اللَّازِمِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ الْمَلْزُومِ؛ سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ مُرَادًا لَهُ، أَوْ مَكْرُوهًا، أَوْ غَيْرَ مُرَادٍ لَهُ: فَهَذَا مُوقِعٌ لَيْسَ بِحَالِفٍ.
وَكِلَاهُمَا مُلْتَزِمٌ مُعَلِّقٌ؛ لَكِنْ هَذَا الْحَالِفُ يَكْرَهُ وُقُوعَ اللَّازِمِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَكَابِرِ التَّابِعِينَ، وَعَلَيْهِ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. كَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمَا: فِي تَعْلِيقِ النَّذْرِ. قَالُوا: إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ النَّذْرَ فَقَالَ: لَئِنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي فَعَلَيَّ الْحَجُّ. فَهُوَ نَاذِرٌ إذَا شَفَى اللَّهُ مَرِيضَهُ لَزِمَهُ الْحَجُّ فَهَذَا حَالِفٌ تُجْزِئُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَا حَجَّ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مِثْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ. وَزَيْنَبَ رَبِيبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي مَنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ. قَالُوا: " يُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْعِتْقُ ".
هَذَا مَعَ أَنَّ الْعِتْقَ طَاعَةٌ وَقُرْبَةٌ؛ فَالطَّلَاقُ لَا يَلْزَمُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه -
الطَّلَاقُ عَنْ وَطَرٍ، وَالْعِتْقُ مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ ". ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ. بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا يَقَعُ بِمَنْ غَرَضُهُ أَنْ يُوقِعَهُ؛ لَا لِمَنْ يَكْرَهُ وُقُوعَهُ، كَالْحَالِفِ بِهِ، وَالْمُكْرَهِ عَلَيْهِ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: كُلُّ يَمِينٍ وَإِنْ عَظُمَتْ فَكَفَّارَتُهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ. وَهَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ: مِنْ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالنَّذْرِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الطَّلَاقُ مَذْهَبُ خَلْقٍ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ؛ لَكِنْ فِيهِمْ مَنْ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ: كَدَاوُد، وَأَصْحَابِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ: كَطَاوُسٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ
. وَالْأَيْمَانُ الَّتِي يَحْلِفُ بِهَا الْخَلْقُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: أَحَدُهَا: يَمِينٌ مُحْتَرَمَةٌ مُنْعَقِدَةٌ: كَالْحَلِفِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى: فَهَذِهِ فِيهَا الْكَفَّارَةُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
الثَّانِي: الْحَلِفُ بِالْمَخْلُوقَاتِ: كَالْحَالِفِ بِالْكَعْبَةِ. فَهَذِهِ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْقِدَ الْيَمِينَ لِلَّهِ، فَيَقُولُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْحَجُّ. أَوْ مَالِي صَدَقَةٌ. أَوْ فَنِسَائِي طَوَالِقُ. أَوْ فَعَبِيدِي أَحْرَارٌ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذِهِ فِيهَا الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ: إمَّا لُزُومُ الْمَحْلُوفِ بِهِ، وَإِمَّا الْكَفَّارَةُ، وَإِمَّا لَا هَذَا وَلَا هَذَا. وَلَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَّا يَمِينَانِ: يَمِينٌ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا الْكَفَّارَةُ. أَوْ يَمِينٌ لَيْسَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ: فَهَذِهِ لَا شَيْءَ فِيهَا إذَا حَنِثَ. فَهَذِهِ الْأَيْمَانُ إنْ كَانَتْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَفِيهَا كَفَّارَةٌ؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَلْزَمْ بِهَا شَيْءٌ.
فَأَمَّا إثْبَاتُ يَمِينٍ يَلْزَمُ الْحَالِفَ بِهَا مَا الْتَزَمَهُ، وَلَا تُجْزِئُهُ فِيهَا كَفَّارَةٌ: فَهَذَا لَيْسَ فِي دِينِ الْمُسْلِمِينَ؛ بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ. وَذَكَرَ فِي السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا حُكْمَ طَلَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1]{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2] .
وَقَالَ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا - فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 1 - 2]{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] فَهُوَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ حُكْمَ الطَّلَاقِ، وَبَيَّنَ فِي تِلْكَ حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ.
وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْرِفُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، فَيَعْرِفُوا مَا يَدْخُلُ فِي الطَّلَاقِ وَمَا يَدْخُلُ فِي أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَحْكُمُوا فِي هَذَا بِمَا حَكَمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا يَتَعَدَّوْا حُدُودَ اللَّهِ فَيَجْعَلُوا حُكْمَ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَحُكْمَ طَلَاقِهِمْ حُكْمَ أَيْمَانِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ اشْتَبَهَ بَعْضُ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ غَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَاَلَّذِينَ مَيَّزُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ هُمْ أَجَلُّ قَدْرًا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ هَذَا وَهَذَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59] . فَمَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَالِاعْتِبَارِ - الَّذِي هُوَ أَصَحُّ الْقِيَاسِ وَأَجْلَاهُ - إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ صَلَاحِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ إذَا فَرَّقُوا بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بَيْنَهُ، فَإِنَّ الَّذِينَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَذَا وَهَذَا أَوْقَعَهُمْ هَذَا الِاشْتِبَاهُ: إمَّا فِي آصَارٍ وَأَغْلَالٍ، وَأَمَّا فِي مَكْرٍ وَاحْتِيَالٍ: كَالِاحْتِيَالِ فِي أَلْفَاظِ الْأَيْمَانِ، وَالِاحْتِيَالِ بِطَلَبِ إفْسَادِ النِّكَاحِ، وَالِاحْتِيَالِ بِدَوْرِ الطَّلَاقِ وَالِاحْتِيَالِ بِخَلْعِ الْيَمِينِ، وَالِاحْتِيَالِ بِالتَّحْلِيلِ. وَاَللَّهُ